بقلم: ألكسندر فيرشبو (Alexander Vershbow) سفير اميركي سابق لدى روسيا وأوكرانيا، نقلا عن المجلس الاطلسي –واشنطن.
ترجمة: د. حسين احمد السرحان
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
آذار-مارس 2023
مع دخول حرب فلاديمير بوتين، التي غيّرت العالم، ضد أوكرانيا عامها الثاني، فأن أي أمل في إحياء النظام الأمني الأوروبي بعد الحرب الباردة يعتمد على هزيمة روسيا في أوكرانيا. لكن هذا لن يكون سوى الخطوة الأولى في صراع طويل يدعو الى استراتيجية احتواء جديدة.
الدول عبر الاطلسي جنبا الى جنب مع الديمقراطيات الاخرى ذات التفكير المماثل، امام مواجهة استراتيجية طويلة الامد مع روسيا، وعلاقة عدائية تصارعية ستكون فيها موانع النار منخفضة، وسيكون الطموح المتواضع للتعايش السلمي بعيد المنال ويحتاج الى مدة طويلة ليتحقق. اذ ان طبيعة نظام بوتين، وتجاهله للقانون الدولي، وقمعه الوحشي للمعارضة الداخلية، وتبييضه للتاريخ الروسي، فضلا عن هوس بوتين بإخضاع جيرانه وإعادة تشكيل الإمبراطورية الروسية -كل هذه العوامل تجعل التعايش السلمي صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا على المدى القريب والمتوسط.
حتى لو أجبرت التطورات في ساحة المعركة روسيا على إنهاء الحرب بشروط مواتية نسبيًا لكييف، فلن يتخلى بوتين بسهولة عن أهدافه الأوسع. وبالنسبة لروسيا وبوتين، تعتبر أوكرانيا نقطة الصفر في حربها الوجودية ضد الغرب. ومن غير المحتمل أن يؤدي إنهاء الصراع العسكري الى تقليص جهود روسيا للسيطرة على أوكرانيا بوسائل أخرى أو للهيمنة على جيرانها الآخرين، بما في ذلك دول البلطيق وغيرها من أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي.
في الواقع، وبينما تسعى روسيا إلى إعادة بناء وإعادة تشكيل قواتها التقليدية المهلكة، من المرجح أن يشتد الصراع في المجالات غير العسكرية. وسيأخذ الصراع انماطا اخرى مثل حرب المعلومات، والعمل السري، والتخريب، وابتزاز الطاقة، والعقوبات المضادة، ودعم الانفصاليين الموالين لروسيا، وهجمات اخرى، وهذه كلها أدوات لروسيا ضد جيرانها والغرب. وبالنسبة لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ستكون المرونة ضد هذه التهديدات مهمة مثل تعزيز الدفاع والردع، وينبغي أن تتلقى الجهود المبذولة لبناء مثل هذه المرونة، المزيد من الدعم المالي على مستوى واشنطن والاتحاد الاوروبي.
لا تسمحوا لبوتين بانتزاع النصر من أفواه الهزيمة في أوكرانيا
في الوقت الذي قللت فيه روسيا بشكل كبير من أهمية الوحدة والعزم الغربيين ضدها، الا ان بوتين لا يزال يأمل في أن تتعب السلطات والجماهير في الغرب من دعم أوكرانيا وتحمل عبء العقوبات، تمامًا كما يأمل في كسر إرادة الشعب الأوكراني من خلال قصف البنية التحتية المدنية للبلاد. ومع استمرار الحرب في ربيع وصيف عام 2023، يمكن أن يتصاعد الصراع وتصل الحرب الى طريق مسدود. وفي هذه الحالة، قد تعتمد روسيا على بعض الحلفاء في الغرب لإحياء مقترحات لمفاوضات مبكرة لتجميد الصراع مع وقف إطلاق النار، وهي الخطوة الأولى نحو إعادة ضبط العلاقات على حساب أوكرانيا.
سيحتاج قادة الغرب الى أن يوضحوا لمواطنيهم ما هو على المحك، وان وقف إطلاق النار في الظروف الحالية سيساعد بوتين على انتزاع النصر من بين فكي الهزيمة، ولماذا من الضروري الحفاظ على العقوبات وتزويد الأوكرانيين بأسلحة متطورة لمدة طويلة لهزيمة روسيا وطرد القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية.
تحتاج روسيا لفهم أنه لا يمكن أن يكون هناك تطبيع للعلاقات حتى تتمسك مرة أخرى -فعلاً وقولاً -بالمبادئ الأساسية المنصوص عليها في وثيقة هلسنكي النهائية، وميثاق باريس، والقانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا. وإذا كانت الولايات المتحدة ستقبل بأي شيء أقل من ذلك، فهذا سيشجع الروس على استخدام القوة لتغيير الحدود مرة أخرى بعد أن يكون لديهم الوقت لإعادة تجميع صفوف قواتهم وإعادة تسليحهم، وسوف يحذو الزعيم الصيني شي جين بينغ وغيره من المستبدين حذو روسيا.
الاحتواء المتواصل لإيقاف التوسع الروسي
لمنع التخريب الاضافي لقواعد النظام الدولي، الولايات المتحدة وحلفائها سيحتاجون الى استراتيجية احتواء شاملة تهدف الى ردع روسيا عسكريا، وزياد كلفة على روسيا بسبب سلوكها المزعزع للاستقرار، وتعزيز عزل روسيا عن المجتمع الدولي سياسيا واقتصاديا الى ان تحصل موسكو على الحق في أن تُعتبر شريكًا مرة أخرى.
الاحتواء في المرحلة الراهنة يشبه سياسة الاحتواء التي أعلنها جورج كينان وتم تبنيها في السنوات الأولى من الحرب الباردة. الفكرة هي وقف التوسع الروسي، وممارسة ضغط مضاد قوي على الجهود الروسية لتوسيع نفوذها، وإضعاف النظام الروسي اقتصاديًا، والقيام بحملة إعلامية عدوانية لتقويض الدعم المحلي، والهدف النهائي هو تشجيع ظهور قوى يمكنها تحرير النظام وإنهاء المنافسة الجيوسياسية، كما حدث في إنهاء الحرب الباردة الأولى في الثمانينيات والتسعينيات.
كما ان احتواء اليوم يعني أيضًا اتباع نهج صبور طويل الأمد لتعزيز التغيير الداخلي في روسيا. وهذا قد يتطلب جيل قبل حدوث مثل هذا التغيير، ويجب أن نكون مستعدين للتصرف بسرعة عندما يطلب الشعب الروسي نفسه بقادة مستعدين للعودة الى طريق التعاون والتكامل مع الغرب، الذي تخلى عنه بوتين.
القوة العسكرية وتماسك الحلفاء هما أساس سياسة الاحتواء الفعالة. نحن بحاجة الى استراتيجية منسقة بين الناتو والاتحاد الأوروبي للرد على جميع أشكال التوسع الروسي في أوكرانيا وخارجها، ولتعزيز قدرتنا على الصمود ضد الحروب التقليدية والهجينة.
على المدى القصير، نحن بحاجة الى الالتزام بشكل مطلق بهدف انتصار أوكرانيا. ويجب أن نساعد أوكرانيا على الاستفادة من هجماتها المضادة الناجحة من خلال تعزيز وتسريع توريد الأسلحة الثقيلة وأنظمة الضربات بعيدة المدى والدفاع الجوي والصاروخي الذي يمكن أن يلحق مزيدًا من الهزائم بروسيا في الأسابيع والأشهر المقبلة، مع زيادة دعم الاقتصاد والمساعدات الإنسانية في نفس الوقت.
لكي تنتصر أوكرانيا، نحتاج الى تسريع عملية تسليم الأسلحة واستئناف إنتاج الأنظمة التي تشتد الحاجة إليها مثل أنظمة المدفعية الصاروخية عالية الحركة (HIMARS) والطائرات بدون طيار المتقدمة، وذلك لتأمين مكاسب جديدة للأوكرانيين وتجديد مخازن السلاح لدى الحلفاء المستنفدين.
نحن بحاجة ايضا الى الاهتمام بالأسلحة التي نقدمها لتجنب التصعيد، لكن لا ينبغي أن نخضع للترهيب أو الردع من قبل روسيا، اذ يهتم بوتين أكثر مما نحن عليه في تجنب الصدام المباشر مع الناتو، تقليديًا أو نوويًا، وهو يدرك أن أي استخدام للأسلحة النووية، حتى الضربة التوضيحية، سيغير طبيعة الحرب بشكل أساس. في الوقت الحالي، الروس هم من يقومون بالتصعيد، بهجماتهم الصاروخية والطائرات بدون طيار على البنية التحتية المدنية وإرهاب الشعب الأوكراني. وحان الوقت لإعادة النظر في الحدود التي فرضناها على أنفسنا وتوفير أنظمة تُمكن أوكرانيا من حرمان الروس من الملاذ الآمن لشن هجماتهم على البنية التحتية الاوكرانية. وإذا تمكن الروس من الإفلات من العقاب من شبه جزيرة القرم أو عبر الحدود الروسية، فسوف يستمرون في التصعيد بتكلفة بشرية مروعة. وإن ندرك ان تمكين كييف من استهداف تلك الأنظمة ليس تصعيدًا، ولكنه دفاع مشروع عن النفس.
وقفة حول قانون تأسيس الناتو وروسيا
بالتوازي مع مساعدة أوكرانيا على الانتصار، فأن الأولوية الدفاعية الأولى لحلف الناتو هي تنفيذ مقررات قمة مدريد 2022 بشأن الردع والدفاع ضد التهديدات التي تتعرض لها أراضي الحلفاء. لقد عانى الروس من خسائر فادحة في المعدات العسكرية والقوى البشرية، لكن بإمكانهم ان يعودوا.
وفقًا لما تم الاتفاق عليه في مدريد، يحتاج الناتو الى التحرك بسرعة من الوجود الأمامي الى الدفاع الأمامي، مع وجود قوات أكبر على طول الجانب الشرقي قادرة على صد أي محاولة للاستيلاء على الأرض وليس مجرد العمل كأسلاك شائكة. وعلى وجه الخصوص، يحتاج الناتو الى التنفيذ الكامل لقرار التوسع من مجموعات قتالية بحجم كتيبة الى قوات بحجم لواء في الشرق كجزء من التحول لى الردع.
وقد يكون إنشاء قوة جديدة أسهل إذا أعلن الحلفاء أنهم لم يعودوا ملزمين بالقيود المنصوص عليها في القانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا بشأن التمركز الدائم لقوات قتالية كبيرة، نظرًا لانتهاكات روسيا الصارخة لتلك الوثيقة. وسيسمح هذا بمزيج من عمليات النشر الدائمة والتناوبية، والتي ستكون أكثر فعالية من القوات المتواجدة حاليا.
يمكن تعليق القانون التأسيسي بين الناتو وروسيا بدلاً من إنهائه. لكن ليس من المنطقي التظاهر بأن البيئة الأمنية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا يمكن مقارنتها في أي مكان بالبيئة الأمنية الأكثر اعتدالًا في عام 1997 عندما تم التوقيع على القانون. وفي مواجهة صخب بوتين النووي منذ غزو أوكرانيا، يحتاج الحلفاء أيضًا الى إجراء مراجعة أكثر جدية للموقف والسياسة النووية لحلف الناتو.
بالإضافة الى التهديد بالعواقب الكارثية لأي استخدام روسي للأسلحة النووية، يجب أن نتأكد من أن لدينا مجموعة واسعة بما يكفي من القدرات غير الاستراتيجية لهزيمة الاستراتيجية الروسية التصعيد لخفض التصعيد في ظل أي سيناريو. في هذا الصدد، سيكون تطوير صاروخ كروز جديد يُطلق من البحر مسلحًا نوويًا إضافة قيمة للقوات الأمريكية.
قد يكون هذا مجالًا آخر، حيث يتعين علينا مراجعة الالتزامات بموجب القانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا والنظر في إشراك المزيد من الحلفاء في ترتيبات المشاركة النووية للحلف. وينبغي ان ندرك ان إنهاء القيود التي يفرضها الناتو على نفسه في نشر أسلحة نووية على أراضي الدول الاعضاء في الناتو في مرحلة ما بعد الحرب الباردة يمكن أن يعزز الردع وتماسك الحلفاء من خلال توزيع المسؤوليات والمخاطر بين عدد أكبر من الحلفاء.
مجرد طرح هذا الاحتمال يمكن أن يكون فعالاً كوسيلة ضغط لإقناع الروس بقبول قيود يمكن التحقق منها على أسلحتهم النووية غير الاستراتيجية. وبالنسبة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فأن تقييد الأنظمة الروسية غير الاستراتيجية شرط لا غنى عنه لأي اتفاق بديل عن معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة، علما ان بوتين شكك في مستقبل تلك المعاهدة بإعلانه الأخير أن روسيا ستعلق تنفيذها.
واشنطن تهدف الى أن تتحمل أوروبا مسؤولية الدفاع الجماعي بالتساوي بحلول عام 2030
عند تنفيذ قرارات قمة مدريد، يحتاج الناتو الى التحرك نحو تقاسم أكثر توازناً للمسؤوليات عبر المحيط الأطلسي. حتى قبل انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة لعام 2022، كانت المخاوف تتزايد بين الجمهوريين في الكونجرس بشأن تقاسم الأعباء وركوب الحلفاء مجانًا، وقد يصبح هذا مصدر قلق أكبر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024.
يمكن للحلفاء الأوروبيين تجنب حدوث نصف القدرات التي يحتاجها الناتو للدفاع الجماعي. وسيكون هذا أيضًا تحوطًا حكيمًا في حالة احتياج الولايات المتحدة الى تحويل بعض تعزيزات الناتو الى مسرح المحيطين الهندي والهادئ للتعامل مع أزمة الصين المتزامنة.
إن ضمان توفير الدول الأوروبية لنصف القدرات والعوامل التمكينية للدفاع الجماعي، سيجعل من الممكن أيضًا أن تصبح أوروبا المستجيب الأول لإدارة الأزمات على طول محيط الناتو. وسيكون هذا دليلاً ملموساً على مسؤولية إستراتيجية أكبر لأوروبا تجاه جوارها.
وفي الوقت الذي يعزز فيه الناتو موقف الردع الخاص به، يجب أن يضطلع الحلف بدور رسمي طويل الأجل في مساعدة جميع الدول الضعيفة المجاورة لروسيا على تعزيز قدرات الردع الخاصة بهم، وقدراتهم على الصمود ضد التهديدات الإلكترونية وغيرها من التهديدات الهجينة، ويمكن أن يسمى هذا مبادرة الجوار الآمن.
لسوء الحظ، من الواضح أن الحلفاء في المستقبل المنظور سيظلون مترددين في منح عضوية حلف شمال الأطلسي وضمانة أمنية (بموجب المادة 5) لأوكرانيا أو جورجيا أو أي دولة سوفيتية سابقة أخرى، بغض النظر عن مدى استحقاقهم وتأهيلهم. وفي حين أن عضوية الناتو يجب أن تكون الهدف طويل المدى، فأن أفضل ما يمكن للحلفاء فعله الآن هو ضمان حصول هؤلاء الشركاء الضعفاء على القدرات والتدريب والاستخبارات اللازمة لردع العدوان الروسي، وإذا لزم الأمر، هزيمته. ويمكن أن يشكل الالتزام بهذا المعنى جوهر الضمانات الأمنية لأوكرانيا بموجب اتفاقية سلام محتملة لإنهاء الحرب.
التأكد من أن الاحتواء يتجاوز الدفاع
يجب أن تسعى استراتيجية الاحتواء الفعالة أيضًا الى تعظيم العزلة الاقتصادية والسياسية لروسيا. ويجب تحقيق الفصل الاقتصادي من خلال سياسة عقوبات طويلة الأمد على الاقتصاد الروسي ومتابعة التحركات لإنهاء اعتماد الغرب على الطاقة والمواد الخام الروسية.
فيما يتعلق بالعزلة السياسية، نحتاج الى معاملة روسيا كدولة منبوذة أو مارقة وتجنب أي عودة سابقة لأوانها لى العمل كالمعتاد. ولا ينبغي لنا أن نستبعد المناقشات المستقبلية بشأن الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي، مع الاعتراف بصعوبة التفاوض على اتفاقيات جديدة مع روسيا التي انتهكت كل اتفاقية قائمة وتصرفت بتهور في احتلال محطة الطاقة النووية زابورجيا في جنوب أوكرانيا.
وأثناء عزل روسيا سياسيًا، يجب أن نبحث عن طرق للتعامل مع المجتمع المدني الروسي والعدد المتزايد من المعارضين السياسيين الروس العاملين من المنفى في البلدان المجاورة. ويجب أن يشمل ذلك جهودًا للاتصال بالجيل القادم من القادة المحتملين، مع توضيح أن قضايانا مع روسيا تتعلق بسياسات النظام، وليس مع الشعب الروسي.
تُذكِّر وفاة ميخائيل جورباتشوف العام الماضي بأن التغيير الداخلي هو الذي أنهى الحرب الباردة الأولى بعد أربعين عامًا من بدايتها. وقد يستغرق الأمر عقودًا حتى يحدث هذه المرة، لكن يجب أن نكون مستعدين للتعامل مع روسيا بشكل أفضل.
رابط المقال الاصلي: