موازنة 2018 والموسم الانتخابي في العراق

يثير الترابط بين تعطيل اقرار الموازنة واقتراب موعد الانتخابات العديد من علامات الاستفهام حول اداء النظام السياسي وطبيعة العلاقة الهشة بين السلطة البرلمانية والحكومة رغم انبثاق الاخيرة من الاولى. ويعيد المشهد الحالي الى الاذهان اخفاق البرلمان العراقي في اقرار قانون موازنة عام 2014، رغم شهور من الجدل والنقاش بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. ومع اقتراب موعد انتخابات عام 2018 يتكرر المشهد مجددا، وغالبا لنفس الاسباب، ولكن هذه المرة في إطار أكثر شيوعا للفساد والابتزاز السياسي. حيث يبدو ان جزء كبير من الكتل البرلمانية تحاول جاهدة الحصول على الجزء الاكبر من "المكاسب المشروعة" لناخبيها لضمان الاستحواذ على الصوت الانتخابي، و"الغير مشروعة" لأجل مضاعفة ايرادات اللجان الاقتصادية لأحزاب السلطة والمقبلة على موسم انتخابي بحاجة لموارد، "ايضا" لضمان الاستحواذ على الصوت الانتخابي. 

ومنذ شهور يشهد مجلس النواب خلافات عدة بين الكتل السياسية حول بنود مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2018، وتبدو فرص إقرار الموازنة الاتحادية ضئيلة بسبب الخلاف المتصاعد بين حكومة العبادي والكتل البرلمانية. ويبلغ عدد ملاحظات القوى السنية حول مشروع الموازنة (12) ملاحظة تتعلق معظمها برفع حصة المناطق المحررة في الموازنة العامة وتمويل برامج البناء والاعمار، في حين تثبت الكتل الكردية (٩) ملاحظات يتركز جزء منها في رفع حصة الاقليم وصرف الرواتب وغيرها، اما اعتراضات المحافظات المنتجة للنفط في الوسط والجنوب فقد تمحورت حول حصة (البترودولار)، وهل يُدفع لها مبلغ (5) دولار عن كل برميل ام (5٪) من قيمة كل برميل منتج؟ او منحها مبالغ على شكل سندات مستقبلية تدفع حين تتحقق الوفرة المالية لدى الحكومة.

مشروع موازنة 2018 في إطار الموازنات المتعاقبة

يفسر الارتباط المحكم بين النفط وتمويل الموازنة في العراق جزء كبير من التساؤل المغمور: لماذا اُقرت الموازنات العامة في العراق في إطار التوقيتات الزمنية المحددة خلال السنوات الثلاث الماضية؟ الجواب يكمن في اسعار النفط، فقد افصحت التجربة البرلمانية في العراق عن وجود علاقة عكسية بين اقرار الموازنة واسعار النفط الخام في الاسواق العالمية. فحين ترتفع الاسعار وتتدفق ايرادات الريع النفطي بغزارة يحتد الصراع حول المغانم والمكاسب التي يمكن ان تجنيها احزاب السلطة من مختلف بنود الموازنة العامة (وهذا ما حدث في موازنات ما قبل 2013). وتٌساق كافة الحجج والاسباب تحت ذريعة الدفاع عن حقوق المواطن وبشكل مبتذل وبعيد عن الوطنية والمصداقية والاقناع في احيان كثيرة. ويحدث العكس تماما حين تتدهور اسعار النفط، فقد ادى انهيار الاسعار صيف 2014 الى ضعف موارد الدولة، وباتت قدرة الحكومة في تغطية النفقات التشغيلية (رواتب الموظفين بشكل خاص) وتسديد ديون الشركات النفطية على المحك، حينها تم اقرار الموازنة العامة بشكل سلس وسريع عام 2015، نظرا لانحسار الدولارات النفطية المولدة للتجاذبات والمناكفات السياسية. وايضا تكرر ذات المشهد في موازنة العام 2016 وموازنة العام 2017 حيث تم اقرارها بالتوقيتات المحددة. ومع تعافي اسعار النفط الخام وملامسة عتبة (70) دولار نهاية العام 2017 بدأ الصراع مجددا حول بنود وتخصيصات الموازنة العامة، دون الالتفات الى الطبيعة المتقلبة لأسعار النفط او الى الدين العام المتراكم (قرابة 120 مليار دولار) بسبب الازمة المالية الراهنة.

ما المطلوب من الحكومة؟

تتمثل أبرز التحديات المالية في العراق في استمرار اعتماد الموازنة العامة على النفط، بنسبة الثلثين على الاقل، وهو منهج البلدان النفطية بشكل عام وحكومات العراق المتعاقبة بشكل خاص. اذ تغتنم الحكومة المركزية فرصة هبوط اسعار النفط خلال السنوات الماضية بشكل مناسب لإرساء مبادئ سيادة القانون وتفعيل الايرادات غير النفطية كالضرائب والرسوم واعادة النظر في ايرادات عقارات الدولة وتقليص حجم المؤسسات والشركات العامة المترهلة والمعتمدة على الموازنة العامة في تحقيق الديمومة والبقاء، عبر زجها في شراكات مع القطاع الخاص. 

من جانب اخر، لا يزال غياب برامج واستراتيجيات الاصلاح الاقتصادي في الموازنات الحكومية يشكل ضعفاً خطيراً يهدد دور السياسة المالية في تحقيق الاصلاح الاقتصادي المنشود ويزيد من تعطيل ادوات الحقيبة المالية في اخذ دورها المأمول في تنشيط الاقتصاد ودفعه صوب الاستقرار والنمو الاقتصادي المستدام بدلاً من الانكشاف المرعب على القروض واسواق النفط العالمية.

ولا ينبغي باي حال من الاحوال التعويل على تعافي اسعار النفط في تصميم الموازنة وتحديد سعر للنفط لا يتجاوز (46) دولار للبرميل كما جاء في نص الموازنة، على ان يكرس المبلغ المتبقي في تغذية صندوق لسداد ديون العراق الداخلية والخارجية بدلاً من مقايضة السيادة بالقروض (كما يجري حالياً). من جانب اخر فان انتهاج سياسة توفير الفارق بين سعر النفط السوقي والسعر المثبت في الموازنة في حساب سيادي قد يؤسس مستقبلاً لصناديق سيادية مخصصة للاستقرار وتامين حقوق الاجيال، وكما هو معمول به في العديد من البلدان النفطية.

من جانب اخر يجب الالتزام بالقاعدة الذهبية في ادارة المالية العامة، وهي ان تخصص كافة القروض العامة لتمويل المشروعات الاستثمارية، وان تمول النفقات الجارية من الايرادات السيادية حصرا. مع ضرورة الالتفات بان اعتماد المنهج الحالي في تخصيص وتنفيذ النفقات الاستثمارية هو منفذ للفساد والتلاعب بالمال العام. إذا ينبغي إقرار المشاريع الرأسمالية الاستثمارية بموجب دراسات جدوى رصينة، تُناقش مع الجهات الحكومية من جانب أطراف استشارية مختصة على أساس القيمة في مقابل التخصيص المالي، كما يجب إبرام العقود الحكومية من جهة متمرسة للخروج من الممارسات المشبوهة التي أدت الى تلكؤ المشاريع وفشلها. 

وفيما يخص موضوعة الضرائب فينبغي التأكيد بان الدعوة الى تفعيل دور الضرائب في تمويل الموازنة العامة لا تعني بالضرورة رفع سعر الضريبة، كما يفهمها الكثير من سياسي العراق ويحاول بثها للجمهور عبر القنوات الاعلامية لأغراض انتخابية، وانما يقصد بذلك توسيع الاوعية الضريبية لتحقيق غزارة في الايراد الضريبي والحد من التهرب الضريبي الذي تمارسه معظم المؤسسات والشركات وقطاعات التجارة والاعمال في العراق.

اخيرا، وبالتزامن مع انعقاد مؤتمر الكويت للدول المانحة، ينبغي الاشارة بان الصراع الدائر بين الحكومة والبرلمان وتنامي شبهات الهدر والفساد التي تؤطر ادارة المالية العامة في العراق وتعرقل اقرار الموازنة العامة، في ظل تراجع شفافية الموازنة وغياب البرامج والاستراتيجيات الواضحة، بعثت برقية سلبية للجهات المانحة وشركات الاستثمار، اضعفت فرص العراق في الحصول على التمويل المطلوب لإنجاز برامج البناء والاعمار، وستحد من فرص تدفق الاستثمار الاجنبي الى الاقتصاد الوطني خشية المرور في حلقات الفساد والابتزاز التي اطرت عمل المؤسسات الحكومية ذات العلاقة.

التعليقات