التجارة في العراق بين السوق والدولة؟

بحكم التوجه الجديد بعد 2003 نحو اقتصاد السوق واستمرار هيمنة الدولة والنفط على الاقتصاد، أصبح موضوع التجارة من حيث حريتها أو حمايتها يحتل أهمية كبيرة في العراق.

ففي الوقت الذي يسعى اقتصاد السوق لتحرير التجارة، بحجة الاستثمارات الاجنبية وتطوير الاقتصاد؛ تسعى الدولة لحماية التجارة، بحجة حماية الاقتصاد الوطني من المنافسة الاجنبية.

حيث ان حماية التجارة تعني قيام الدولة بالتدخل في الاقتصاد ؛ لأجل حماية الاقتصاد واستمرار مسيرته، حتى وإن كان ضعيفاً؛ دون الاخذ بعين الاعتبار التكاليف التي يتحملها.

بينما حرية التجارة تعني حياد الدولة عن الاقتصاد والعمل وفق مبادئ اقتصاد السوق لأجل الاستفادة من الاستثمارات الاجنبية  دون الاخذ بعين الاعتبار مدى تأثيرها على الصناعات الناشئة.

قبل 2003

اعتمد الاقتصاد العراقي على الدولة قبل 2003، حيث كانت الدولة تملك وسائل الانتاج وتهيمن على النشاط الاقتصادي، أي ان الملكية الخاصة محدودة جداً وعدم وجود او ضعف المنافسة، مما يؤثر على قوة الاقتصاد بشكل تلقائي.

أي يصبح الاقتصاد ضعيفاً بحكم افتقاده للكفاءة الانتاجية، فينتج السلع والخدمات بتكاليف عالية وبنوعية رديئة، وهذا ما يؤدي لانخفاض القدرة التنافسية وعدم قدرة الاقتصاد على الصمود والمواجهة.

ان فتح الباب امام التجارة الخارجية وسط ضعف الاقتصاد المحلي يعني تدور الاداء الاقتصادي مما يجعل الدولة في موقف لا تحسد عليه بحكم سوء ادارتها للملف الاقتصادي، ولتجنب هذا الموقف تعمل في العادة على حماية اقتصادها من خلال اللجوء لحماية التجارة الخارجية وفرض القيود عليها.

بعد 2003

بعد 2003 اتجه العراق نحو اقتصاد السوق، القائم على الحرية الاقتصادية والمنافسة وحرية التجارة، مما دفع لتخفيض القيود على التجارة الخارجية.

ان تخفيض القيود على التجارة الخارجية، يعني تسهيل حركة الاستيرادات من سلع وخدمات وايدي عاملة واستثمارات اجنبية، مقابل الغاء الدعم عن الصادرات.

ان تحرير التجارة الخارجية بعد 2003 دفع لزيادة حجم الاستيرادات وتنوعها مقابل تركز الصادرات على عدد محدود جداً من السلع وفي مقدمتها النفط والتمور.

حيث ارتفعت قيمة الاستيرادات من حوالي 10 مليار دولار عام 2003 الى 39  مليار دولار عام 2018،  وبالمقابل ارتفعت ايضاً قيمة الصادرات من ما يُقارب 10 مليار دولار عام 2003 إلى أكثر من 43 مليار دولار عام 2018، حسب بيانات التجارة الخارجية المنشورة على موقع البنك المركزي العراقي.

تركز الصادرات وتنوع الاستيرادات

يبدو من هذه الارقام ان الصادرات أكبر من الاستيرادات، وهذا صحيح؛ لكن المشكلة تكمن في هيكل كل منهما، حيث شكّلت الصادرات النفطية أكثر من 98 % بينما لم تتجاوز الصادرات الاخرى 2% من مجموع الصادرات في المعدل للمدة 2003-2018  وهذا ما يعكس مدى احادية الصادرات.

وفي المقابل شكّلت فقرة مكائن ومعدات نقل أكبر نسبة في المعدل للمدة ذاتها وهي 42 % من مجموع الاستيرادات بينما توزعت النسبة المتبقية على الفقرات الاخرى بشكل متقارب، وهذا ما يعكس مدى تنوع الاستيرادات.

هذا فيما يخص السلع، أما فيما يخص الخدمات لا يمكن الحكم بشكل دقيق عليها بحكم ضعف البيانات بهذا الخصوص لكن من خلال مشاهدة الواقع يمكن القول ان هناك استيراد كبير للخدمات حيث يزداد عدد المسافرون لأجل الخدمات العلاجية والتعليمية والسياحية وغيرها.

وكذا الحال بالنسبة للأيدي العاملة، حيث يصعب الحصول على بيانات دقيقة، لكن من خلال الواقع تجد الايدي العاملة الاجنبية ومن جنسيات عديدة في كثير من الاسواق المحلية، في حين لم يكن الأمر كذلك ما قبل عام 2003 باستثناء المصريين وعلى حدهم الفلسطينيين  بحكم دخول العراق في الحرب مع ايران التي تسبب في نقص الايدي العاملة المحلية، في عقد الثمانينات من القرن الماضي.

وفيما يتعلق بالاستثمارات الاجنبية، وعلى الرغم من وجود التشريعات والتعليمات والاليات إلا ان حجمها لازال ضعيفاً لأسباب عديدة سنذكرها أدناه؛ ومع هذا الضعف إلا ان حجمها ما بعد 2003 يختلف عما قبله.

حيث تحسن صافي الاستثمار الاجنبي المباشر(أي صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بالاقتصاد القائم بالإبلاغ مطروحاً منه صافي الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يقوم به الاقتصاد القائم بالإبلاغ إلى بقية أنحاء العالم) من أقل من الصفر عام 5200  إلى 10.42 مليار دولار عام 2014، ثم انحدر حتى بلغ 2.33 مليار دولار عام 2022 لأسباب تتعلق بالإرهاب بالدرجة الاولى إضافة لأسباب أخرى.

يعود زيادة حجم الاستيرادات وتنوعها إلى جانب ضعف الاستثمارات الاجنبية مقابل تركز الصادرات لأسباب عديدة يمكن الاشارة لبعضها أدناه: 

1- هيمنة الدولة على الاقتصاد، على الرغم من انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي إلا إنها لازالت ممسكه بعناصر الانتاج، حيث تسير على 80 % من الارض على سبيل المثال لا الحصر.

2- هيمنة النفط على الاقتصاد، حيث نلاحظ ان مساهمة القطاع النفطي لا تقل عن 50% من اجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية، في حين مساهمة القطاعات الاخرى بمجملها لا تتجاوز 50 % في عام 2021 و 2022(تقديرية اولية فصلية).

3- تدهور البنية التحتية، حيث يفتقد العراق للبنية التحتية المتطورة التي من شأنها تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار والانتاج.

4- صعوبة بيئة الاعمال، حيث يحتل العراق المرتبة 172 من أصل 190 دولة في مؤشر سهولة اداء الاعمال العالمي، مما يعني افتقاد العراق لبيئة سهلة قادرة على جذب الاستثمارات الاجنبية وتحفيز الاستثمارات المحلية والنتيجة عدم وجود استثمار وانتاج استمرار الاستيرادات.

5- الفساد، ان تفاقم الفساد في العراق واحتلاله المرتبة 154 من أصل 180 دولة، مما يزيد من تعقيد بيئة الاعمال ورد الاستثمار المحلي فضلاً عن الاجنبي.

ونظراً لتعثر التحول الاقتصادي وعدم تحقيق الثمار المطلوبة، أصبح البعض يدعو لبناء اقتصاد عراقي قوي من خلال العودة لدور الدولة واللجوء لحماية التجارة والاقتصاد لكن في الحقيقة هذه الطريقة قد لا تكون ذات جدوى، وهذا ما اثبتته التجارب الدولية؛ حيث اغلب الدولة التي تعتمد الدولة اقتصادياً وتجارياً لم تبنى اقتصادات قوية.

مما يُفترض العمل على تصحيح التحول الاقتصادي لضمان تحسين اداء الاقتصاد وتحقيق الثمار المطلوبة، خصوصاً وان العراق تبنى هذا التوجه، فضلاً عن نجاح التجارب الدولية بهذا الخصوص حيث ان اغلب الدول التي اعتمدت السوق اقتصادياً وتجارياً، استطاعت ان تبني اقتصادات جيدة.

 وهذا ما يتطلب العمل على انهاء هيمنة الدولة على الاقتصاد وفتح الباب أمام القطاع الخاص بشكل حقيقي لا شكلي.

كذلك العمل على توظيف النفط لخدمة الاقتصاد لأجل تفعيل القطاعات الاقتصادية الاخرى وهذا ما يزيد من تنوع الصادرات وتقليل الاستيرادات.

اضافة إلى محاربة الفساد ومكافحته لتحسين بيئة الاعمال والتركيز على البنية التحتية، وذلك لأجل جذب تحفيز الاستثمارات المحلية وجذب الاستثمارات الاجنبية.

خلاصة القول:

يمكن أن تسهم هذه النقاط في تصحيح المسار الاقتصادي وتلافي المشاكل والنتيجة تحسين اداء الاقتصاد واضمحلال دعوات عودة الدولة للاقتصاد وحماية التجارة بحجة حماية الاقتصاد وتقويته.

التعليقات