باتت تركيا في مأزق عميق مع هيمنة السوريين الأكراد حلفاء دمشق وروسيا والولايات المتحدة على حدود سورية الشمالية، التي شكلت نافذة لأنقرة استخدمتها منذ سنوات في ضخ التسليح والمسلحين إلى الداخل السوري، لتزيد من تأجيج الصراع، ثم زاد من تأزم الموقف التركي هو تحرير شرق مدينة حلب من قبل الجيش السوري بالكامل من المجموعات المسلحة التي تحتله من عام 2012، ومن ثم تقدم الجيش السوري وحلفاءه نحو مدينة الباب السورية شمال حلب معقل داعش الرئيسي في حلب، اذ تمكنت المعارضة المسلحة المدعومة والجيش التركي من دخولها بعد تكبدهم خسائر كبيرة.
فبعد التقدم السريع الذي أحرزته قوات سوريا الديمقراطية ( التي تضم مقاتلين أكراد وعرب)، والجيش السوري مؤخراً في شمال سوريا بدعم من حلفائهم والطيران الروسي في التقدم نحو مدينة حلب وقطع طريق الإمدادات الأخير الذي يربط بين مواقع الجماعات الإرهابية والحدود التركية، والتقدم في محافظة دير الزور شرق سوريا، فمن حصار مدينة مارع، ثاني أهم معقل للمجموعات المسلحة في محافظة حلب، وتقع مارع في ريف حلب الشمالي، ولها أهمية إستراتيجية بالنسبة للمجموعات المسلحة، إذ مكنتها في العام 2012 السيطرة على نصف مدينة حلب، التي تمكن الجيش السوري من استعادتها بعد ذلك، واصبحت مدينة حلب تحت سيطرة الجيش السوري بالكامل، وسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على تل رفعت إلى الغرب من مارع، وسيطرتها على بلدة شيخ عيسى التي تبعد خمسة كيلومترات عن مارع، فيما يتواجد تنظيم داعش على بعد كيلومترين فقط من الشرق منها، ولم يبق أمام المجموعات المسلحة في مارع سوى طريق واحد من الجهة الشمالية الشرقية يصل إلى مدينة إعزاز الأقرب إلى الحدود التركية، وتعد إعزاز أهم معاقل المجموعات المسلحة المدعومة من أنقرة في المنطقة، وبحسب المصادر، يسيطر السوريون الأكراد، الذين اثبتوا أنهم الأكثر فعالية في محاربة تنظيم داعش، حاليا على 14 في المائة من الأراضي السورية (26 ألف كيلومتر مربع) مقابل تسعة في المائة في 2012.
التقدم الذي احرزته القوات الكردية والسورية والجيش السوري، شددت من تصريحات القادة والمسئولين في تركيا شديدة الانفعال واللهجة سقفها الأقصى التدخل البري المباشر بقوات في شمال سوريا، وفرض منطقة عازلة هناك، سبقتها تصريحات سابقة بان تركيا سوف لن تسمح لأكراد سوريا من التقدم إلى غرب نهر الفرات، أي إلى مدينة حلب السورية، إذ شهدت الجبهة الشمالية في سوريا تحولات دراماتيكية في الآونة الأخيرة، خاصة بعد التدخل الروسي الذي وفر الغطاء الجوي لقوات الجيش السوري وحلفائه في استعادة الكثير من المدن من سيطرة الجماعات الإرهابية، وذلك بالتوازي مع تضييق الخناق على ما تبقى من وجود لهذه الجماعات في مدينة حلب، التي يعني استعادتها والسيطرة على الطرق المؤدية لها انتهاء الحرب في الشمال السوري، ليتبقى فقط القيام بعمليات عسكرية وأمنية الغرض منها إنهاء باقي بؤر الإرهاب في هذه المنطقة.
الفشل والسعي، داخلياً، لكتابة قصة نجاح، عبر التأكيد على القتال في مدينة الباب، لمنع حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، من الحصول على حكم ذاتي يمكنه من تهديد وحدة الاراضي التركية، فلجأت بعد خسارتها في سورية وسقوط حلب، في أعقاب اغتيال السفير الروسي اندريه كارلوف في أنقرة، إلى الامعان في إثارة الشعور القومي، من أجل صرف اهتمام الرأي العام التركي والتركيز على الحرب التي تخوضها في الباب، واعتبارها مسالة ضرورية لحماية الامن القومي ووحدة الاراضي التركية.
وبعد ان كان نظام الاسد يعد العدو الاول لتركيا، وسعت بكل قوة لإسقاطه، فان تحالف تركيا في الشأن السوري، مع روسيا، والتفاهمات بين موسكو وطهران وأنقرة، من أجل تسوية النزاع القائم بعد تعاونهما في حلب، وقّعت تركيا على إعلان موسكو، الذي اعترف بشرعية النظام في سورية، برئاسة الرئيس بشار الأسد، ويمكن القول أنّ هذا القبول يعتبر هزيمة سياسة لتركيا، بعد حرب استمرت خمس سنوات، كانت أولويتها ازالة الحكم في سورية وإحلال نظام سياسي بديل عنه.
إن تحرك تركيا عسكريا في شمال سوريا، هو الخشية من تقدم الأكراد وإنشاء منطقة إدارة ذاتية على طول حدودها، لهذا بدأت مدفعيتها باستهداف مواقعهم في ريف حلب الشمالي.
وتعتبر أنقرة حزب الاتحاد الديمقراطي، الحزب الكردي الأهم في سورية، وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب الكردية فرعا لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه "إرهابيا" ويشن تمردا منذ عقود ضد الدولة التركية كثفه في الأشهر الأخيرة.
أنّ فكرة التدخل التركي في سوريا ستعيد مؤشر بوصلة السياسية التركية اتجاه (أردوغان) وحزبه، إذ إن الاقتصاد التركي يعد من الاقتصادات النامية في المنطقة، ويعتمد بالدرجة الأساس على التجارة الخارجية مع دول الشرق الأوسط، وان أي تطور خطير في دول المنطقة، ودخول تركيا في الحرب المباشرة في سوريا ستكون له عواقب كارثية على الاقتصاد التركي، لهذا فان اغلب الأتراك سوف يعارضون أي تدخل مباشر في سوريا.
المعارضة الداخلية للرئيس (اوردوغان) في مسالة التدخل في سوريا، إذ يرى الأتراك إن نهج السياستين الداخلية والخارجية الذي اتبعته أنقرة قد أوصل البلاد إلى وضع صعب يتعذر الخروج منه بسهولة، خاصة السياسة التي تنتهجها تركيا تجاه سورية، والتي أوصلت البلاد إلى وضع صعب، فيما فرص الخروج منه بلا خسائر تكاد تكون معدومة، إذ إن الشعب التركي يدرك إن التعويل على الدعم السياسي من الولايات المتحدة والناتو لا فائدة منه، فكلا من واشنطن أو الأطلسي لا ترغبان بالدخول في نزاع مع حليف سوريا الأساس ( روسيا)، فيما صرح رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي (كمال كيليتشدار اوغلو) "إن الرئيس التركي (رجب اوردوغان) يدعم التنظيمات الإرهابية في سورية ويحميها ويستخدم المهجرين السوريين كورقة مساومة في علاقاته مع العواصم الأوروبية، وانتقد (كيليتشدار اوغلو) سياسات اوردوغان ورئيس حكومته (احمد داود اوغلو) في سورية والمنطقة وقال إن التحالف مع دولة متخلفة مثل السعودية سيخلق لتركيا مشكلات خطيرة ومعقدة، وحذر من مخاطر مغامرات اوردوغان التي ستعرض تركيا للكثير من السلبيات والمخاطر في علاقاتها مع دول المنطقة والعالم ..".
إن الخطة التركية القاضية بإقامة منطقة عازلة في شمال سوريا، سبق أن اقترحتها رسميا قبل أكثر من سنتين في مجلس الأمن، وقوبلت بالرفض الأميركي وقتها، إذ ترى أمريكا أنّ تحرير (كوباني، وتل ابيض) من قبل الأكراد كان تنسيقا جيدا على الجمع بين قوة جوية فعالة للتحالف جنبا إلى جنب مع قوات برية محنكة ومدربة وقادرة، على مسك الأرض، ويوضح مثل هذا الرأي أن تعويل الأتراك على واشنطن لكبح جماح التطلعات الكردية للدولة وزيادة الضغط على الأسد أصبح غير ذي جدوى، فقد أضحى من الواضح أن واشنطن تدعم وحدات الحماية الكردية بالسلاح والدعم اللوجستي المباشر، واخرها انزال 400 جندي من المارينز في شمال سوريا، وتعد امريكا ان وحدات الحماية الكردية هيا أفضل رهان لهزيمة من تعتبره عدوا رئيسيا في المنطقة وهو تنظيم داعش، في تناقض مع التصور التركي للأمور.
كما إن أي مغامرة عسكرية تركية في شمال سوريا سوف تطيح بأي أمل في بقاء حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد ضمن خط الدولة التركية، إذ يعد هذا الحزب أكبر تكتل معارض للأكراد في البلاد الآن، وفضلا عن الانتصار الانتخابي للحزب ودعم الأكراد له في تركيا ، يبدو جليا أن أكراد اليوم، ليسوا كأكراد الأمس القريبين من حزب العدالة والتنمية، فقد أضحى الحزب يمثل بالنسبة لهم رمزا للقمع والاضطهاد، خاصة مع تبدل خطاب (أردوغان) أو حزبه وتوجهاته في ما يتعلق بالقضية الكردية لتصبح شبيهة بخطاب أي حكومة قومية تركية سابقة في تعاطيها مع هذا الموضوع، كما أنه من المحتمل أن يعمل التدخل التركي في شمال سوريا على تقوية النزعة الانفصالية لأكراد تركيا، بدلا من حماية الأمن القومي لتركيا.
بالإضافة إلى المأزق السياسي والاقتصادي، يمثّل الجيش عائقا آخر مرتبطا بجملة الحسابات المتداخلة من شأنه أن يحول دون تحقيق هذه المخطط ، فطوال الثلاثة عشر عاما التي قضاها في السلطة، دأب (أردوغان) على شن حرب على نطاق محدود على الجيش التركي، الذي تقلصت سلطته السياسية في الدولة نتيجة لذلك، ولذلك فإن أجواء عميقة من عدم الثقة ظلّت تُخيم على العلاقة القائمة بينه والجيش الذي سيحتاجه للقيام بعملية عسكرية ناجحة، فعلى الرغم من أن الجيش يعارض أي كيان كردي على طول الحدود التركية، ألا أنه يحافظ على حذره كذلك، رغم العملية العسكرية المحدودة الأخيرة، من الانجرار بكل ثقله وراء مغامرة في سوريا، كما تدور معطيات مفادها أنّ رئاسة أركان الجيش التركي تخشى من التداعيات الدولية التي قد تنجر عن الانخراط في الصراع السوري المعقد.
خلاصة القول إن تدخل عسكري تركي في شمال سوريا، حتى وان توفرت له عوامل القوة الكافية من داخل تركيا، وحصل على الدعم الإقليمي من بعض الدول الإقليمية مثل السعودية، إلا إن مخاطره على تركيا تبقى في الحسابات السياسية والعسكرية التركية، فالتوافق الأمريكية الروسي الأخير حول سوريا، قد زاد من مأزق تركيا، كما إن الدعم السعودي لها غير كافي من ناحية الكم والوقت، فالسعودية هي الأخرى في مأزق اليمن، ودعمها لتركيا قد لا يكون طويل الأمد، كما إن الأزمة المالية التي تمر بها المنطقة وخاصة بعد انخفاض أسعار النفط قد لا تجعل من الدعم السعودي لتركيا مضمونا، لهذا فان اغلب التحليلات تحذر تركيا من تدخلها في سوريا، وعليها مجارات الدول الإقليمية والدولية المؤثرة في سوريا، مثل إيران وأمريكا وروسيا، من اجل إيجاد حل سياسي للازمة في سوريا، بدلا من الاعتماد على رهان خاسر مقدما.
اضافةتعليق