أنهى حجاج بيت الله الحرام من مختلف دول العالم مناسك الحج لهذا العام في ظل الأحداث المأساوية التي حدثت في منى يوم الخميس 24/9/2015 ، والتي ادت حسب الاحصاءات الرسمية السعودية الى وفاة اكثر من 717 حاجا وجرح ما يقارب 805 حاج حسب الإحصائيات السعودية- علما ان العدد الحقيقي اكثر من ذلك بكثير حسب ما اعلنته بعض الدول من ان عدد من حجاجها لا زال مفقودا-، وادت هذه الحادثة الى زيادة الخلاف وتأزم العلاقات – والتي هي متأزمة اصلا- بين السعوديين وإيران بشأن من يتحمل المسؤولية الحادث، اذ فقدت إيران حسب اخر الاحصاءات ما يقارب 500 وفاة وجرح 46 من مواطنيها في هذه الكارثة، وحسب راي المحللين والمتابعين قد تزيد هذه الحادثة من توتر العلاقات، خاصة اذ ان اغلب التصريحات والاتهامات بين الطرفين غلفت بدوافع سياسية أيضا، أن معركة ايران والمملكة العربية السعودية هي معركة مستمرة للهيمنة الإقليمية، وهي تزداد شراسة يوما بعد يوم، والتنافس بين إيران والسعودية له بعد ديني أيضا، وعلى الرغم من المليارات التي أنفقها السعوديون على البنية التحتية لمنشآت الحج، هناك عدد متزايد من الانتقادات تتجاوز إيران، وهناك مزاعم بأن إجراءات تنظيم الحج ربما لم تولي اهتماما كافيا لإدارة تدفق الأعداد الكبيرة للحجاج الذين يجري التعامل معهم على قدم المساواة، وقد يرى البعض ان حرب اليمن ادت الى سوء الادارة لاهتمام السعودية بهذه الحرب وادارتها، مما ولد فراغا امنيا وخدميا.
ان حادثة الحج في منى ليست الاولى، وقد لا تكون الأخيرة، فقد تعرض الحجاج الى العديد من الحوادث، فواقعة منى الجديدة تضاف إلى قائمة الكوارث التي تلاحق الحجاج خلال أداء مناسك الحج بالأراضي المقدسة، فعلى الرغم من تعدد أسباب تلك الحوادث على مر التاريخ ، إلا أن تدافع الحجاج جاء في المركز الأول ضمن أسباب تلك الحوادث.
اذ شهد موسم الحج خلال السنوات الأخيرة وفاة المئات من الحجاج بسبب التدافع والحرائق وأعمال العنف، ففي عام 1979 اقتحم مسلحون مناهضون للحكومة المسجد الحرام واحتجزوا العشرات من الحجاج كرهائن، وفيما بعد اقتحمت قوات الأمن المسجد الحرام مما أسفر عن اشتباكات خلفت 153 شخصا، وفي عام 1990 حيث وقع تدافع كبير في نفق مؤدى الى الحرم المكي في منى أدى الى وفاة 1426 نتيجة الاختناق ، وذلك بعد توقف نظام التهوية داخله عن العمل، وفي عام 1994 توفى 270حاجا نتيجة التدافع على جسر الجمرات، وفى عام عام 1997 تسببت النيران في وفاة 340 حاجا وإصابة 1500 آخرين، عندما اشتعلت النيران في الخيام بمنى، كما توفى حاج في عام 1978 وأصيب 16 آخرون نتيجة انفجار قنابل بالقرب من الحرم المكي، وقد ألقت السلطات السعودية القبض على 16 شخصا آنذاك ثبت تورطهم في الحادث ونفذت حكم الإعدام بهم، وخلال رمى الجمرات في اليوم الأول من عام 2014 توفى 244 حاجا، وذلك بعد تدافع وقع في منى، كما أدى تدافع الحجاج على جسر الجمرات في ثاني أيام التشريق إلى مقتل 340 حاجا في عام 2006، وكذلك أسفر انهيار فندق صغير يسكنه حجاج آسيويون عن وفاة 76 شخصًا جراء الانهيار .
وفى آخر هذا التسلسل سجل عام 2015 رقما جديدا في قائمة وفاة الحجاج، حيث أدى سقوط رافعة في صحن المطاف بمكة المكرمة بسبب الرياح والعواصف القوية التي ضربت العاصمة المقدسة، إلى وفاة 107 أشخاص، وجرح أكثر من 283.
كما أسفر تدافع الحجاج في منى عن وفاة 717 حاجاً، إضافة إلى إصابة 805حتى الآن، وذلك بعد تأكيدات أن حادث التدافع تسبب في تدمير كامل لمخيمات الحجاج المصريين 1 و2 و3 التابعة للحج، كذلك انهيار جبلي، واختناق في أحد القطارات، وحريق في أحد الفنادق في مكة، والحصيلة ان أكثر نسبة حوادث في الحج في هذا العام.
الا ان ما يميز هذه الحوادث عن غيرها، ويزيد من التساؤلات والشكوك، هو اولا، ارتفاع نسبة الوفيات بين الحجاج الايرانيين عن غيرهم من دول العالم الاخرى، اذ من مجموع 717 حاج توفي في تدافع منى وحدها، منهم قرابة 500 ايراني ( حسب الاحصائيات الرسمية السعودية)، اي ما يقرب 75% من الوفيات، وثانيا، ان من بين الوفيات الايرانيين شخصيات مهمة وعلى مستوى عالي في ايران، اذ في حادثة سقوط الرافعة قتل احد علماء الفضاء الايرانيين الكبار، وفي حادثة التدافع في منى قتل السفير الايراني السابق في لبنان ( غضنفر ركن ابادي)، وهو حسب الكثير من التحليلات دبلوماسي كبير في ايران، وله دور مهم في العلاقات بين حزب الله في لبنان وايران، اضافة الى دوره في حرب تموز 2006 بين حزب الله واسرائيل، وثالثا، هو صور الجنود السعوديون التي تم عرضها على شبكات التواصل وهم يقومون باختطاف بعض الحجاج وهم يؤدون مناسك الحج، وما عزز هذه الصور هو الاتهامات التي وجهها بعض اقارب الضحايا من ان بعض الحجاج المتوفين في حادثة منى لم يكونوا موجودين في منى بل تم خطفهم من اماكن اخرى من مكة، ومنها ما تناقلته وسائل الاعلام من قيام زوجة الضابط العراقي المتوفي بحادثة منى باتهام السلطات السعودية بخطفه، لأنه لم يكن في المكان ساعة الحادث، واخيرا ان السعودية بدلا من ان تعترف بهذا الخطأ - وان يكن قد تسبب به بعض الحجاج- وتقدم الاعتذار لدول الضحايا فأنها اتهمت الحجاج وخاصة الايرانيين بانهم هم السبب بهذه الكارثة، بل ان مفتي السعودية اعتبر ان الحجاج الايرانيين قد خالفوا مناسك الحج وتسببوا بهذه الكارثة.
من المعروف أن العلاقات بين إيران السعودية تتسم بالاحتقان الشديد، وبسبب الخلافات السياسية والمذهبية على مر التاريخ، حيث قطعت السعودية العلاقات الدبلوماسية مع إيران في 1988 بعد مصرع أكثر من 400 حاج معظمهم إيرانيون، أثناء أدائهم فريضة الحج في منى بصدامات مع الشرطة السعودية، تمت استعادة العلاقات عام 1991، فالسؤال هنا هل سيكون حادث "منى" الأخير سببًا أيضًا في قطع العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية؟!
ان المتابع للأحداث في هذه الحادثة وما رافقها من اتهامات وتصريحات متشنجة بين الطرفين السعودي والايراني، وتهديد المرشد الاعلى للسعودية، قد يرى انها سوف تقود الى تدهور العلاقات السعودية الايرانية، خاصة وان هناك عدد من الملفات العالقة بين الطرفين مثل حرب اليمن، وانتفاضة البحرين، وسوريا، ولبنان، والعراق، وبهذا فان هناك احتمالين لمسار العلاقات بين الطرفين استنادا الى التحليلات السياسية حول الحاثة.
الاحتمال الاول: توتر العلاقات بين الدولتين وقطع العلاقات- ولكن لن تصل الى اعلان الحرب-، خاصة بعد تشدد السعودية في الموضوع، عدم تقديمها الاعتذار لإيران لحد الان، التي تطالب به، كذلك اتهام السعودية علنا للحجاج الايرانيين بارتكاب الحادثة، كذلك تهديد ايران بتقديم شكوى للمحاكم الدولية حول مسؤولية السعودية عن الحادثة، خاصة وان عدد من المسؤولين الايرانيين قد اكدوا خلال القاءات عن دعوة الدول الاسلامية الى تدويل وادارة مشتركة للحج، كذلك دعوتهم لرفع دعوى في المحاكم الدولية ضد السعودية، وقال المدعي العام الإيراني (سيد إبراهيم رايسي) يوم السبت 26/9/2015، أيضا في كلمة بثها التلفزيون الرسمي إن إيران ستسعى لمحاكمة العائلة الملكية السعودية "لجرائمها" أمام "محاكم دولية".
كما ان الخارجية الايرانية استدعت القائم بالأعمال السعودي ثلاث مرات للاحتجاج على هذه الحادثة وعلى سوء الادارة السعودية للحج، وهو ما يدلل على اتهام ايران للسعودية بالتقصير في الحادث، خاصة وان ايران لم تكن وحدها التي انتقدت سوء الادارة السعودية للحج، ففي تركيا، دعا رئيس الوزراء (احمد داوود أوغلو) السعودية إلى اتخاذ اجراءات من شأنها منع تكرار مثل هذه الحوادث مستقبلا، بالإضافة الى شكل الحاثة، فان جوهرها هو وفاة عدد من المسؤولين والعلماء الايرانيين، وعلى راسهم السفير الايراني في لبنان، والاتهامات التي وجهت للسعودية بقيام قواتها بخطف عدد من الحجاج الايرانيين، فاذا ثبتت هذه الحوادث وان السعودية قد قتلت هؤلاء الحجاج عمدا، وبدوافع سياسية، وانتقاما من ايران، فان الاخيرة سوف لن تسكت على هذه الحادثة – وقد تتكرر حادثة اربيل عام 2009، عندما اعتقلت امريكا ممثلي القنصلية الايرانية في اربيل، فردت ايران بخطف عدد من الامريكان بينهم ضابط كبير من مدينة كربلاء-، وبهذا فان التحليلات تؤكد ان ايران سوف ترد على السعودية بسبب هذه الحادثة، وقد يكون حسب بعض الآراء في اليمن او لبنان، وان اي رد ايراني قد يقود الى تأزم الامور، وقطيعة في العلاقات المتوترة اصلا.
الاحتمال الثاني، هو حل الامر وديا بين الدولتين، فعلى الرغم من التنديد الايراني بالحادث، واتهام السعودية بالتقصير وسوء الادارة، الا ان ايران وحسب بعض الآراء لم تنطلق من منطلق طائفي، حتى ان اغلب التصريحات من مسؤوليها كانت تركز على الجانب التنظيمي وادرة الحج فقط، اذ طالب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية (آية الله علي خامنئي) السعودية بـ"الاعتذار" بعد حادث التدافع في منى الذي وقع الخميس وأودى بحياة عدد كبير من الحجاج معظمهم من الايرانيين ، كما دعا الرئيس الإيراني (حسن روحاني) بعد خطاب ألقاه في الأمم المتحدة الى التحقيق في الحادثة، بالإضافة الى ذلك فقد طالب الملك السعودي ( سلمان بن عبد العزيز) للتحقيق في إجراءات السلامة في هذه الكارثة، وصرح وزير الخارجية السعودي ( عادل الجبير) في الامم المتحدة "نحن لا نخفي شيئا"، مشيراً إلى أنه " اذا كانت هناك اخطاء قد ارتكبت فان الذين ارتكبوها ستتم محاسبتهم"، وبهذا فان تقديم اعتذار من السعودية لإيران سوف يقود الى انهاء الازمة بين الدولتين، خاصة وان السعودية قد قدمت المساعدات الطبية للجرحى، وقدمت تعويضات للضحايا، كما انها استقبلت بعثة الصحة الايرانية، وهناك تنسيق بين الطرفين، بالإضافة الى ذلك فان ليس من مصلحة السعودية تأزيم الموقف مع ايران التي تطالب بإدارة دولية لمكة المكرمة منذ سنوات، لان مثل هذه الحوادث سوف تؤدي بالنهاية الى تحميل السعودية المسؤولية والتقصير في ادارة الحج ليس من ايران وحدها بل من عدد اخر من الدول الاسلامية، اضافة الى خوف السعودية من قيام ايران بأعمال انتقامية ضدها وخاصة في لبنان واليمن، اذ ان حرب اليمن اصبحت مستنقع لهم.
واذا كانت السعودية لا تريد التصعيد مع ايران للأسباب اعلاه، فان ايران هي الاخرى تريد التهدئة في الوقت الحالي، وان التصريحات التي صدرت من مسؤوليها هي لتهدئة الشارع الايراني، ومحاولة لبيان الضعف السعودي امام دول العالم، وبيان عدم قدرتها على ادارة الحج، كما ان ايران تحاول ان تظهر نفسها بمظهر الدول التي تدافع عن مصالها ومواطنيها، ولن تتساهل مع اي دول تحاول الاضرار بها، فخلال سيطرة حركة طالبان على افغانستان 1997، قامت الحركة بقتل موظفي القنصلية الايرانية في مدينة مزار الشريف، عندها حشدت ايران قواتها من الحرس الثوري على الحدود مع افغانستان، وبذات التصريحات والتهديد ضد الحركة، الا ان ايران لم تهاجم او ترد على حركة طالبان، وانتظرت الى عام 2001، عندما هاجمت القاعدة بقيادة (اسامة بن لادن) مركز التجارة العالمية في مدينة نيويورك في امريكا واتهمت حركة طالبان بإيواء اعضاء القاعدة وزعيمهم، عندها -وحسب بعض التحليلات- سنحت الفرصة لإيران للانتقام من الحركة وقدمت التسهيلات لأمريكا في احتلالها افغانستان واسقاط حركة طالبان، لذا فان الرد الايراني لن يكون انيا وسريعا، بل قد يستغرق عدة سنوات واقتناص فرصة قد تنالها ايران في المنطقة.
خلاصة القول، على الرغم من ان الحوادث التي وقعت في موسم الحج الحالي هي اكثر واسواء الحوادث على الاطلاق، خاصة وان سقوط اكثر من 75% من الوفيات من دولة واحد وهي ايران، اضافة الى ان بعضهم يحملون مسؤوليات امنية وسياسية رفيعة في ايران والعراق، كل هذه تضع اكثر من علامة استفهام، وتفسر بأكثر من اتجاه، الا ان الاعتقاد السائد الان هو ان كلا من السعودية وايران لا تريد التصعيد لا سباب عديدة منها كما ذكرنا، حرب اليمن، وتراجع دور السعودية في سوريا بعد تدخل روسيا في الحرب على المجموعات المسلحة المدعومة سعوديا وقطريا، كما ان الساحة اللبنانية هي الاخرى اصبحت خارج الحسابات السعودية، اضافة الى الوضع الداخلي السعودي والصراع على الحكم بين افراد العائلة الحاكمة، كذلك اعتمادها على امريكا سوف لن يحقق لها شيئا بعد خذلتها الاخيرة في اتفاقها النووي مع ايران، لذا وبعد كل هذه المعوقات على السياسية السعودية، فأنها قد تقدم الاعتذار لإيران عن الحادثة، وهي قامت بتشكيل لجنة تحقيق داخلية لمعرفة ملابسات الحادث، وتم عزل وزير الحج السعودي، واعتقد ان ايران سوف تقبل بالاعتذار اذا قدمته السعودية في هذا الوقت، لان زيادة التوتر في المنطقة ليس من صالح ايران ايضا خاصة بعد الاتفاق النووي الايراني مع الدول 5+1، والتي تحاول ايران جني ثماره من خلال رفع العقوبات وتحسين اقتصادها واعادة علاقاتها الاقتصادية مع دول العالم، لذا ان ايران سوف تلجا للتهدئة هي ايضا، ولكن لا يعني انها سوف تنسى الرد، حتى يأتي الوقت والمكان المناسب للرد.
اضافةتعليق