تتميز العلاقة بين الشيعة والاكراد في العراق بانها علاقة تاريخية ذات روابط مشتركة، فكلا الطرفين تعرضا الى الاضطهاد والاقصاء والى عمليات تنكيل مستمرة من انظمة الحكم التي تعاقبت على حكم العراق، واكثرها دموية كان النظام البائد الذي سقط عام 2003، فقد تعرض الاكراد في تلك الحقبة الى العديد من المجازر ومنها مجزرة حلبجة، والانفال، كذلك الشيعة فقد تعرضوا الى عمليات قمع واعدامات جماعية عقب الانتفاضة الشعبانية عام 1991، على يد النظام البعثي البائد، كما ان كردستان العراق كانت ملجا للعديد من المعارضين السياسيين العراقيين ومن مختلف التوجهات، وقد عقدت فيها العديد من المؤتمرات حول مستقبل العراق قبل الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، ومنها مؤتمر المعارضة العراقية في اربيل عام 2002، الذي اسس لمرحلة ما بعد سقوط صدام، الا ان احتلال امريكا للعراق عام 2003، وسقوط النظام البعثي في العراق، قد هيئة ارضية لبروز عدد من الخلافات بين الحكومات العراقية المتعاقبة وبين الاكراد، وحاول الاكراد استغلال اي ضعف او خرق امني يحصل في العراق لصالحهم، بدون اخذ اي اعتبار لباقي المكونات العراقية الاخرى، فالرغم من اقرار الدستور العراقي لعام 2005 للنظام الفدرالي في العراق، واعتبار اقليم كردستان اقليما قائما، الا ان الاكراد لم يخفوا طموحات اكبر من التي كان قد اتفق عليها في مؤتمرات المعارضة العراقية قبل الاحتلال، حتى وصل بهم الامر الى المطالبة بالاستقلال واعلان الدولة الكردية، واخرها هو استغلال ظروف استيلاء داعش على الارضي العراقية في الموصل والانبار وصلاح الدين وديالى وكركوك، فقد قامت قوات البيشمركة وبدون تقديم اي دعم للقوات الاتحادية او - سابق انذار على الاقل – بنزع اسلحة هذه القوات حتى قبل ان تصلها داعش كما حدث مع الفرقة (12 جيش عراقي) المرابطة في كركوك، بل وصل الامر في بعض الحالات من منع هذه القوات من دخول اراضي الاقليم مما عرض العديد منها الى القتل على يد داعش، اضافة الى عمليات التقليل من هيبة الجيش في وسائل الاعلام الكردية ووصفه بانه غير قادر على حماية هذه الاراضي، بعد ذلك اعلنت رئاسة الاقليم ضم ما تسمى بالأراضي المختلف عليها، في كركوك وديالى والموصل وصلاح الدين الى الاقليم واعتبارها جزءا منه، بل وصل الامر الى اعتبار المادة 140 في حكم المنتهية، علما ان السقف الزمني لها هو عام 2007، ولكن الاكراد لم يوافقوا على تلك المدة المحددة لها، ولكن بعد 2014، اعتبروها منتهية من جانبهم لانهم بنظرهم قد حققوا ما كان يطمحون له، وهو الاستيلاء على منابع النفط في كركوك وديالى والموصل وضم هذه الاراضي للإقليم، الا ان تقدم داعش صوب الاقليم قد فرض عليه اجندة جديدة، فقد انهارت قوات البيشمركة بسرعة واصبح داعش على مشارف اربيل’ لو لا تدخل قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، وبهذا سقطت العديد من المناطق في سهل نينوى بيد داعش، وانسحبت قوات البيشمركة عنهم وتركتهم يواجهوا مصيرهم لوحدهم، وارتكبت العديد من المجازر بحق الشيعة المسيحيين والايزيديين، وتم خطف العديد من نسائهم وبيعها في الاسواق، وبهذا فان هذه المؤامرة بين الاكراد وداعش قد انكشفت خيوطها شيئا فشيئا، وهي محاولة لتفريغ هذه المناطق من سكانها، اذ بعد تحرير بعضها من قبل البيشمركة وقوات التحالف الدولية منع سكانها من العرب والتركمان من العودة اليها بحجة الاجراءات الامنية، وبهذا بدأت المشكلة تأخذ منحى اخر، وبعد فتوى الجهاد الكفائي من قبل المرجعية الدينية الرشيدة في النجف الاشرف، وتشكيل قوات الحشد الشعبي من مختلف المكونات العراقية، عندها اتجهت هذه القوات الى صد عصابات داعش ومنع تقدمها في العراق وخاصة حماية الاماكن المقدسة في سامراء وحماية العاصمة بغداد، بل تقدمت هذه القوات واستعادت المناطق التي كان قد دخلها داعش، وتم تحرير ديالى بالكامل، والعديد من المناطق في صلاح الدين وخاصة تكريت، بالتوازي تقدمت قوات البيشمركة في مناطق من محافظة ديالى وصلاح الدين، فقد سيطرت قوات البيشمركة على خانقين وجلولاء، بإسناد من قبل القوة الجوية العراقية، بينما تقدمت قوات الحشد الشعبي الى ناحية السعدية، وفي كركوك فقد سيطرت القوات الكردية على المناطق الكردية وابار النفط وتركت مناطق العرب والتركمان عرضة لهجمات داعش، عندها تقدمت قوات الحشد الشعبي والمقاومة الاسلامية وحررت منطقة امرلي وبشير في كركوك، وطوز خورماتو في صلاح الدين، عندها حدثت بعض التوترات في تلك المناطق بين الحشد الشعبي والبيشمركة، التي كانت تحاول الاستفادة من دعم القوات الاتحادية والحشد الشعبي لها من دون ان تقدم اي دعم بالمقابل لهم، لهذا هناك عدة اسباب لهذه التوترات ومنها:
1- ان قوات البيشمركة تحاول التقدم وقضم الاراضي من خلال اقامة السواتر الترابية وعزل المناطق بعضها عن البعض الاخر، وكان الامر في حكم المنتهي لتلك المناطق، واخرها في جلولاء ومحاولتهم نصب سواتر ترابية لعزل جلولاء عن السعدية، كذلك منع العوائل العربية من العودة الى مناطقهم في خانقين وجلولاء، وتحريض الاهالي الكرد في طوز خورماتو ضد قوات الحشد الشعبي والتصادم معها هي التي دفعت وتدفع الى التصادم والتوتر المستمر بين الحشد الشعبي والبيشمركة.
2- اختلاف النظرة للعراق من قبل الحشد الشعبي والبيشمركة، فالحشد الشعبي هو مؤسسة رسمية تم تأسيسها بفتوى المرجعية وبموافقة مجلس الوزراء، وهي نظرتها تنطلق من سياسة الحكومة الاتحادية واهدافها، لذلك فان نظرتها للعراق انه عراق واحد وان وجودها في منطقة ووجود البيشمركة في اخرى لا يعني تقاسم النفوذ والمناطق بل هو تعاون بين الاثنين لانهاء الارهاب وتحرير الاراضي المغتصبة، بينما البيشمركة تنطلق في نظرتها من نظرة حكومة الاقليم للعراق، فهي تنظر للحرب الدائرة في العراق بانها حرب نفوذ وسيطرة على الاراضي، وليس حرب ضد داعش، فهي عند الازمات تطلب المساعدة من القوات الاتحادية، ولكن عندما تتمكن وتتقوى في وقت لاحق تحاول الانفراد بالأمر وكأنها قوات تابعة لدولة اخرى، وليس جزء من منظومة الدفاع العراقية، وبهذا فان قادة قوات الحشد الشعبي صرحوا ولأكثر من مرة بان اراضي الاقليم هي اراضي عراقية، وان مناطق كركوك وشمال ديالى وشرق صلاح الدين وسهل نينوى التي تسمى بالمناطق المختلف عليها هي اراضي عراقية ايضا، واي مساس بها يعتبر مساس بالعراق، واكدوا قادة الحشد الشعبي بانه لا احد له السلطة على منعهم من دخول تلك المناطق، وقد دخل السيد ( هادي العامري) برفقة موكب كبير الى محافظة كركوك، وبهذا فان اختلاف وجهات النظر قد قادت الى التوتر بين القوتين.
3- يحاول الاكراد استباق الاحداث والسيطرة على هذه الاراضي قبل هزيمة داعش في العراق، لان انتهاء داعش على يد الحشد الشعبي سوف يقود تاليا الى تحرير تلك المناطق من سيطرة البيشمركة، خاصة وانهم فشلوا في الحصول على الدعم الامريكي المباشر لهم في اعلان دولتهم المستقلة، حتى ان محاولتهم طلب التسليح المباشر بمعزل عن بغداد قد فشل، فقد اعلنت العديد من الدول بان تسليح الاكراد يتم عن طريق بغداد حصرا، وبهذا يحاول الاكراد اثارة المشاكل مع الحشد الشعبي من اجل الزوبعة الاعلامية، ومحاولة للتسليح المباشر.
4- ان الحشد الشعبي هو مؤسسة حكومية مدعومة من قبل المرجعية الدينية والحكومة العراقية بشكل مباشر، وبهذا فأنها تعد بمثابة قوات اتحادية لها الحق بالدخول الى اي منطقة في العراق، لذا فان البيشمركة تخشى من عواقب دخولها الى تلك المناطق خاصة وان اغلب تلك المناطق وخاصة في خانقين وجلولاء وطوز خورماتو وبعض مناطق كركوك هم من الطائفة الشيعية’ وقد انظم العديد منهم للحشد الشعبي تلبية لفتوى المرجعية، وان اي تواجد للحشد الشعبي في تلك المناطق هو يعني كسبها الى جانبهم، وبهذا يحاول الاكراد ابعاد الحشد عن تلك المناطق.
5- لا ننسى ان هناك دعم مباشر وغير مباشر للأكراد من بعض الدول الاقليمية وخاصة تركيا وقطر والسعودية لإثارة الفوضى في العراق، خاصة وان هناك العديد من الوثائق التي تؤكد هذا التعاون، اذ تحاول هذه الاطراف ايجاد موطئ قدم لها في شمال العراق ليوازي ذلك النفوذ الايراني في العراق من جهة، وتخفيف الحصار عن زمر داعش الارهابية في الانبار وصلاح الدين والموصل المدعومة من قبل هذه الدول من جهة اخرى، اذ تتهم هذه الدول ايران بانه الداعم الاكبر للحشد الشعبي في العراق، وانه له نفوذ كبير فيه، فهي الى جانب معارضتها وتحريضها المستمر لتدخل الحشد الشعبي في القتال ضد داعش، تحاول زيادة الانشقاق بالداخل العراقي من خلال اثارة الصراعات بين مكوناته، ومنها مد الاكراد بالدعم المادي والمعنوي من اجل الوقوف بوجه الحشد الشعبي لتحقيق اهدافها.
6- كما اننا لا ننسى ايضا ان طموح الاكراد في اعلان الدولة الكردية يواجه معارضة من بعض دول المنطقة وخاصة ايران، التي تسعى جاهدة لإفشال هذه المحاولة، اذ ان دور ايران في التشجيع على اعلان اقليم السليمانية يصب في هذا الاتجاه، وان الدعم المباشر الايراني للمقاومة الاسلامية والحشد الشعبي في العراق بمختلف الاسلحة، كل ذلك قاد الاكراد لإثارة المشاكل مع الحشد الشعبي في تلك المناطق من اجل الحصول على الدعم الاقليمي المباشر من بعض الدول واستغلال الامور لمصلحتهم، واظهار انفسهم بمظهر الضعيف الذي يحتاج للدعم في مواجهة النفوذ الايراني في العراق.
ان التوتر بين البيشمركة والحشد الشعبي له تداعيات سياسية واقتصادية وامنية واجتماعية على العراق ككل، وله اثار سلبية على عملية محاربة الارهاب في العراق، وهذه التداعيات هي:
1- الاثار السياسية: الكل يعرف ان تشكيل الدولة العراقية بعد عام 2003 تم عن طريق التوافق في كل شيء من شكل الدولة الى الدستور الى المؤسسات، واخرها التوافق في تشكيل الحكومات بعد الانتخابات من عام 2005 ولحد الان بغض النظر عن نتائج الانتخابات، وبهذا فان التوتر بين الاكراد والشيعة سوف يقود الى تدهور العملية السياسية في العراق، في وقت ان الحكومة العراقية بحاجة الى استمرار الحشد والتأييد لإجراءاتها ضد الارهاب، خاصة وان الاكراد يتبعون سياسة الانسحاب من الحكومة في اي ازمة بينهم وبين حكومة بغداد، وقد انسحب الوزراء والنواب الكرد لأكثر من مرة من الحكومة، ثم عادوا اليها، وقد تنتقل هذه المواجهات وان كانت محدودة الى توتر في العلاقات داخل الحكومة العراقية، وقد تتدخل اطراف محلية واقليمية لها اجندات في العراق الى زيادة التوتر بدفع احد الطرفين لشحن الاجواء، وان اي اندفاع نحو المواجهة الشاملة يحدث، قد يؤدي الى التأثير على العملية السياسية في العراق.
2- من الناحية الامنية: ان اي توتر بين الطرفين قد تستفاد منه العصابات الارهابية وخاصة تنظيم داعش، لان الحرب الدائرة في العراق هي بالإضافة الى انها حرب عسكرية، الا ان هناك حروب اعلامية ونفسية تحاول بعض الاطراف الداخلية والاقليمية اثارتها للتأثير على معنويات القوات المسلحة العراقية، خاص وان القوات العراقية بكافة صنوفها هي متجهة لمحاربة داعش في الانبار وصلاح الدين والاستعداد لتحرير نينوى، لذلك ان فتح اي جبهة جديدة ضد القوات العراقية قد تعرقل كل الجهود المنصبة لمقاتلة داعش، وهذا ما يبحث عنه اعداء العراق داخليا وخارجيا، وهناك دول اقليمية ايضا تدفع في هذا الاتجاه من اجل تخفيف الضغط عن تنظيم داعش الارهابي، وبهذا فان اي انجرار في الاحداث نحوا المواجهة الشاملة قد يؤدي الى عواقب سيئة على الوضع الامني في العراق بشكل عام.
3- من الناحية الاجتماعية: ان اي مواجهة بين البيشمركة والحشد الشعبي قد تقود الى زيادة الاحتقان القومي والطائفي بين العراقيين، فقد لوحظ عند قيام البيشمركة تحرير بعض المناطق في نينوى وديالى من داعش قيام هذه القوات بمنع الاهالي من العرب من العودة الى مناطقهم بحجج الاجراءات الامنية او اتهامهم بالتعاون مع داعش، مما ولد نوعا من الاحتقان بين مكونات تلك المناطق، لذا يريد الاكراد التخلص من هذه التهمة من خلال احداث توتر مع افراد القوات المسلحة الاتحادية واظهار الاكراد بمظهر المدافع عن مناطقهم، واخرها اتهام افراد الحشد الشعبي بانهم يمنعون عبور الشاحنات من اربيل الى بغداد عن طريق كركوك طوز خوماتو مما قاد الى حدوث بعض المصادمات مع الاهالي هناك.
4- من الناحية الاقتصادية يؤدي التوتر بين الطرفين الى عزل المناطق بعضها عن البعض الاخر، ويؤدي الى قطع طرق المواصلات بين بغداد واربيل، مما يؤثر على حركة التجارة العراقية من والى تركيا، كذلك قد يحاول الاكراد من خلال خلق التوتر الامني مع بغداد التخلص من الاتفاق النفطي المبرم معها، خاصة وان الاكراد هدوا اكثر من مرة بانهم قد يلجؤون الى طرق اخرى لتصدير النفط ان تلتزم بغداد بالاتفاق حسب قولهم، وبهذا فان اي توتر في تلك المناطق يخلق تداعيات اقتصادية واهمها توقف ضخ نفط كركوك، مما يؤدي الى حرمان الميزانية من موارد اضافية، وهو ما يسعى اليه الاقليم.
خلاصة القول، ان التوتر بين البيشمركة والحشد الشعبي لم يصل الى مرحلة خطرة، اذ ان كل الاطراف تدرك خطورة المرحلة الحالية خاصة وان الطرفين يواجهون عدوا مشتركا وهو تنظيم داعش الارهابي، ويدرك الكرد قبل غيرهم انهم بحاجة الى التعاون مع بغداد من اجل صد هذا التنظيم، صحيح ان قوات التحالف بقيادة امريكا قدمت وتقدم الدعم للبيشمركة في حربها ضد داعش الا ان ذلك لا يعني ان هذا الدعم قد وفر كل متطلبات الامن للأكراد، فعندما تقدمت عصابات داعش نحو اربيل كانت الحكومة الاتحادية وايران من اول الداعمين للإقليم وباعتراف المسؤولين هناك انفسهم، فقد اعترف الاكراد انسهم انه لو الدعم الايراني لكردستان لوصل التنظيم الى اربيل، وبهذا ان الاعتقاد السائد ان الاكراد لن يجازفوا بهذه المرحلة من اثارة غضب ايران والتي تعد الساند الرئيس لبعض فصائل المقاومة الاسلامية في العراق، لان اي توتر معها سوف يحرم اربيل من الدعم الايراني سواء كان العسكري او التجاري والامني، بهذا نعتقد ان كل الاطراف تدرك خطورة المرحلة وسوف لن تنجر وراء ما يحاول اعداء العراق تنفيذه بعد ان فشل تنظيم داعش الارهابي من القيام به.