كيف فشلت الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)؟، وكيف يمكن أن يبدو المجتمع أفضل؟

بقلم: جوزيف ستغلتز (Joseph Stiglitz)

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية نقلا عن معهد روزفلت (Roosevelt Institute) / نيويورك 

ترجمة: حسين احمد السرحان 

آب-أغسطس 2024

 

قبل أن نتمكن من رؤية كيف قد يبدو الاقتصاد والمجتمع ما بعد الليبرالية الجديدة، نحتاج الى تحديد إخفاقات الليبرالية الجديدة. بالفعل هناك العديد من إخفاقات الليبرالية الجديدة الاقتصادية، وأبرزها النمو البطيء، وعدم المساواة المتزايدة، والاحتكار المتزايد. 

كما نعلم أن العديد من الأشخاص الذين يعيشون في أجزاء خالية من الصناعة في الولايات المتحدة يشعرون بإحساس عميق باليأس والاغتراب من النظام الاقتصادي الحالي، وهو ما تؤكده التقارير الصادرة عن علماء الاجتماع الذين يشرحون أن هذه المجتمعات تشعر بأنها متخلفة اقتصاديًا وأن اصحاب السلطة يتجاهلون مخاوفها. لكن العديد من إخفاقات الليبرالية الجديدة تتجاوز الاقتصاد: مجتمع مستقطب مع وسائل إعلام يسيطر عليها الأثرياء، وأعمار أقصر، وانعدام الأمن بشكل أكبر، وبيئة متدهورة. تتفاعل هذه الإخفاقات مع السياسة بطرق واضحة. كمثال واحد فقط، يوفر نمو عدم المساواة مجالًا خصبًا للاستبداد والأفكار غير الليبرالية.

على مدى ما يقرب من نصف قرن من الزمان، قدمت النظرية الاقتصادية نقداً لليبرالية الجديدة. وقد ثبت خطأ أغلب العقائد الأساسية لليبرالية الجديدة (وخاصة تلك المرتبطة بالمنافسة الكاملة والأسواق المثالية) حتى قبل أن تصبح رائجة في النصف الأخير من القرن الماضي. وحتى فكرة أن التجارة الحرة تعزز الرفاهة أثبتت أنها مشكوك فيها. قبل أربعين عاماً، كتبت ورقة بحثية أظهرت أن التجارة الحرة في غياب أسواق المخاطرة من شأنها أن تجعل الجميع، في كل المجتمعات، أسوأ حالاً. وعلى نحو مماثل، عندما تكون التكنولوجيا ذاتية المنشأ، فإن القيود التجارية من شأنها أن تساعد البلدان النامية على النمو.

إن الليبرالية الجديدة ليست في واقع الأمر برنامجاً قائماً على نظرية اقتصادية؛ بل هي أجندة سياسية. وفي إدراك هذه الحقيقة، من المفيد أن نبدأ بكلمة الليبرالية الجديدة ذاتها: "New" (جديد) و" liberalism" (حرة). فالجميع يحب الحرية، وبالتالي فإن "تحرير الاقتصاد" يبدو أمراً طيباً. ولكن بطبيعة الحال، كان ينبغي لنا أن نفهم حقاً أن أجندة "الليبرالية" أو "الحرية" هذه تنطوي على الحرية لبعض الناس ولكن ليس للآخرين. وكما أشار الفيلسوف إيزايا برلين، فإن "حرية الذئاب كانت تعني في كثير من الأحيان الموت للخراف".

في ظل الليبرالية الجديدة، فان كل ما يجري لم يكن اجندة تحرير، بل كان اجندة " اعادة كتابة القواعد" لتصب في مصلحة بعض المجموعات وتضر بمجموعات اخرى. واعادة كتابة القواعد مسألة سياسية، فهي تتعلق بالسلطة. وكان النموذج الاقتصادي الذي استندت اليه الليبرالية الجديدة هو الاسواق المثالية والتوازن التنافسي حيث لا احد يملك السلطة، وهذا يعني ان الليبرالية الجديدة بدأت برؤية مفادها ان السلطة غير موجودة. وبدأت بفكرة افتراضية، وهذا الاعتقاد سمح لمراكز السلطة بالازدهار. قاد التحرير المالي الى النمو غير المقيد للقطاع المالي ، الذي اصبح مركزا رئيسا للسلطة في الاقتصاد الامريكي. التفاصيل في القواعد مهمة، وجزئيا يرجع ذلك الى ان تحت التغييرات الصغيرة في القواعد – التي لا تتجاوز احيانا زيادة تكاليف المعاملات – تعيد توزيع السلطة من مجموعة الى اخرى. وقاد عدد من التغييرات الصغيرة الدقيقة فارقاً كبيراً.

انعدام الامن

واحد من التغييرات التي ارتبطت بالليبرالية الجديدة هو تصاعد الشعور بانعدام الامن. السؤال، هل ان هذا الشعور بانعدام الامن هو ضررا جانبيا تشكل لأننا نجعل الاقتصاد ينمو؟ ام انه كان في الواقع جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجية الليبرالية الجديدة؟ على سبيل المثال، لو اخذنا بنظر الاهتمام القطاع المالي، لقد أنشنا نظاما يفرض على الناس عبء الديون، ويشجعهم على الاستدانة (وفي حالة الرهن العقاري، جعلت الفائدة قابلة للخصم من الضرائب). ثم أنشأنا قانونا للإفلاس، وصفته في أحد كتبي على انه عبودية جزئية للديون، اذ كان على اولئك المثقلين بالديون ان يعملوا فقط للاستمرار في سداد ديونهم للبنوك.

السلطة والعجز الديمقراطي

ان التغييرات التي طرأت على قواعد الافلاس والتي ادت الى هذه النتائج المروعة توضح اهمية السلطة والنواقص التي تعيب ديمقراطيتنا. كان هناك القليل من المناقشات العامة حول هذا التغيير، ولكنه كان له تأثير كبير للغاية على توزيع الثروة والسلطة.

عناصر اقتصاد ما بعد الليبرالية الجديدة

الاقتصادات الحديثة جدا كبيرة ومعقدة ويجب ان تكون لا مركزية. وفي هذه المساحة الصغيرة، أستطيع فقط ان ارسم عدد قليل من العناصر التي قد يبدوا عليها اقتصاد ما بعد الليبرالية الجديدة. وفي كتابي الأخيرين "الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية في عصر السخط" و"الطريق إلى الحرية: الاقتصاد والمجتمع الصالح"، وصفت بمزيد من التفصيل الخطوط العريضة لما قد يبدو عليه مثل هذا النظام الاقتصادي.

السلطة المحدودة

ينبغي ان يكون أحد اهدافنا هو خلق اقتصاد لا يحتوي على مراكز سلطة او يحتوي على مراكز سلطة محدودة (ضئيلة). ويمكن للسياسة ان تؤثر على مدى تركيز السلطة. وبوسعنا ان نحد من سلطة اي فرد او مجموعة عبر قدر أكبر من اللامركزية (تطبيق قوانين المنافسة القوية بفعالية، وفرض ضرائب أكثر تصاعدية). وبطبيعة الحال، حتى في هذه الحالة سوف تتمتع بعض المجموعات بسلطة أكبر من غيرها، وسوف نحتاج بعد ذلك الى معالجة اختلالات التوازن المتبقية.

أحد الطرق للتعامل مع هكذا انواع من الاختلالات هو خلق " سلطة موازنة " مثل النقابات والاتحادات القوبة، وهو الرأي الذي أكد عليه جون كينيث جالبريث (John Kenneth Galbraith) في منتصف القرن الماضي. والحقيقة المحزنة في الليبرالية الجديدة هي أنها سمحت بنمو قوة الشركات وأضعفت إمكانية ظهور سلطة موازنة. وينبغي لنا أن نركز على منع تكتل السلطة. ولكن مع إدراكنا لحقيقة مفادها أن إضعاف سلطة الكيانات العملاقة القائمة ومنع نمو كيانات جديدة هي عملية بطيئة وغير كاملة، فإننا في حاجة الى التفكير في الوقت نفسه في الهياكل المؤسسية والإجراءات السياسية المضادة، مثل تعزيز المجتمع المدني والحد من قوة المال في سياستنا.

العمل الجماعي

يعد الاعتراف بأهمية العمل الجماعي وأشكاله العديدة جزءًا من مجتمع واقتصاد ما بعد الليبرالية الجديدة. فالعمال الذين يعملون معًا في النقابات يشكلون شكلًا من أشكال العمل الجماعي. كما تعد الدعاوى القضائية الجماعية شكلًا من أشكال العمل الجماعي، والمنظمات غير الحكومية التي تحاول تمثيل أصوات الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر مختلفة تشكل شكلًا من أشكال العمل الجماعي.

وأهم أشكال العمل الجماعي هي الحكومة. وتوفر جائحة كوفيد-19 مثالاً على أهمية العمل الحكومي - فقد كان ضروريًا في إنتاج اللقاحات ودعم الاقتصاد. وكان بإمكان الحكومات بالطبع أن تفعل المزيد لضمان قدر أكبر من الوصول الى اللقاحات، وخاصة للمواطنين في البلدان الأقل نموًا والأسواق الناشئة. ومع ذلك، في غياب العمل الحكومي، كانت الأمور لتكون أسوأ بكثير.

كان جزء من استراتيجية اليمين تدمير، او على الاقل ، اضعاف العمل الجماعي. على سبيل المثال تتضمن العقود في بعض الاحيان بنود تحكيم تمنح الشركات سلطة لان المحكمين والقضاة تربطهم علاقات مع الشركات. لكن المحكمة العليا لم تدعم التحرك نحو التحكيم فحسب، - وهو ما يعني ان الشركات والاعمال التجارية نجحت في نقل الفصل في المنازعات الى المجال الخاص وخارج الساحة العامة على الرغم من كونه جزء اساس في نطاق القطاع العام- ، بل انها وضعت ايضا قاعدة جعلت العمل الجماعي في التحكيم اكثر صعوبة. وهذا ليس سوى مثال واحد على الجهود المتضافرة التي بذلها اليمين لإضعاف نطاق العمل الجماعي. وكان أهمها جهودهم الرامية إلى حرمان الحكومة من سلطاتها، سواء من خلال الحد من تمويلها، مثل التقشف، أو من خلال تشويه سمعتها، وهو ما قد يثبط الثقة والاهتمام بالعمل الحكومي.

هناك تغذية عكسية سلبية، فالحكومة الاصغر حجما والاكثر تحديدا تعني ان هناك فرص اقل لتعلم كيفية القيام بالأشياء التي تستطيع الحكومة القيام بها وتريد القيام بها. وفي كل جزء من الاقتصاد، يعد التعلم المؤسسي من خلال الممارسة امرا مهما. كما أكد ادم سميث، فأننا نتحسن في القيام بالأشياء من خلال التكرار والخبرة، وهذا لا ينطبق فقط على صناعة الدبابيس في القطاع الخاص بل ايضا في الحكم والادارة في القطاع العام. اخير، أدركت الولايات المتحدة اهمية السياسات الصناعية، اي التدخلات الحكومية في السوق للتأثير على ما يتم انتاجه وكيفية انتاجه. وقالت الولايات المتحدة إن السوق لم توفر ما يكفي من أشباه الموصلات المصنعة محلياً ولم تتحرك بالسرعة الكافية في التحول إلى الطاقة الخضراء. ولكن من الصعب تعلم كيفية القيام بالسياسة الصناعية دون وجود سياسة صناعية. والبلدان التي تبنت مثل هذه السياسات منذ مدة طويلة تتمتع بميزة نسبية في إدارة هذه السياسات.

ومن خلال تخفيض موارد الحكومة وتشويه سمعة القطاع العام على مدى السنوات الخمسين الماضية، تسببنا في إضعاف القطاع العام وبالتالي جعلنا من الصعب الانخراط في العمل الجماعي.

أحد اهم الجوانب المهمة في العمل الجماعي هو التأمين ضد المخاطر. فالرعاية الصحية والضمان الاجتماعي من الجوانب المهمة للحماية الاجتماعية (الحد من انعدام الامن الصحي، وانعدام الدخل بالنسبة لكبار السن). ويوفر التأمين ضد البطالة الحماية الاجتماعية من خطر البطالة. وهناك امثلة اخرى، أحدها انه عندما انهار بنك وادي السليكون، كان المودعون (كان العديد منهم شركات ناشئة) محميين بالكامل (وبما يتجاوز المستوى الذي يغطيه تأمين الودائع). لقد امنا ضد هذا الخطر، واعتقد ان القرار كان صحيح. لقد انتقدت الايديولوجية النيوليبرالية هذه الاجوار الحكومية المهمة، قائلة (في الواقع ان الافراد يجب ان يعتنوا بأنفسهم وان يكونوا احراراً في فعل ما يحلو لهم مع تحمل العواقب، ومن شان هذه الحرية ان تغني مجتمعنا بطريقة او بأخرى، وسوف يوفر القطاع الخاص الحماية الاجتماعية بكفاءة أكبر من الحكومة). لقد تجاهل الليبراليون الجُدد حقيقة مفادها ان السبب وراء تقديم الحكومة للضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة وبرامج الرعاية الصحية بدرجة أساس كان بسبب فشل القطاع الخاص في توفير نظم تأمين كافية.

كان خبراء الاقتصاد النيو ليبراليون يبشرون بضرورة نقل مسؤولية توفير التأمين الاجتماعي (مثل معاشات التقاعد) الى القطاع الخاص. ولكن في الواقع، سارت الامور على نحو يتفق الى حد كبير مع توقعات المنتقدين، فقد كانت الاسواق أفضل في الاستغلال، ولكنها لم تكن أفضل في توفير الامن.

عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 في تشيلي، التي تجاوزت حتى الولايات المتحدة في أجندتها النيوليبرالية، أصبح كبار السن محرومين من كل شيء. فقد ثبت أن برنامج التقاعد المخصخص غير قادر على تقديم الفوائد التي يحتاجها المتقاعدون للحفاظ على مستوى معيشي لائق. وكان لا بد من وجود خطة إنقاذ حكومية.

وعلى نحو مماثل، كان المزيد من الحرية للقطاع المالي في الولايات المتحدة يعني المزيد من الحرية للإقراض الجشع والمحفوف بالمخاطر. وكان الليبراليون الجدد يقولون إن البنوك لابد أن تكون حرة. ولكن عندما احتاجت البنوك إلى المال بسبب استثماراتها المتهورة، لم يكن أمام دافعي الضرائب خيار سوى إنقاذها. وكان عدم القيام بذلك يعني تحملهم كلفة أكبر.

إن هذه الأيديولوجية المتمثلة في خصخصة المكاسب والتأمين ضد الخسائر، والتي أشرت إليها باسم الرأسمالية البديلة، ليست سياسة متماسكة؛ بل هي انعكاس للقوة.

وأعتقد أن هناك مجالاً لإيديولوجية ما بعد الليبرالية الجديدة الأكثر تماسكاً، والتي ندرك فيها أن هناك العديد من المخاطر التي لا نستطيع أن نتحملها بشكل فردي، والتي يبدو أن الأسواق لا توفر لها التأمين الكافي، حيث يمكن للتأمين الاجتماعي أن يعزز الرفاهة الاجتماعية.

نحو سياسة اقتصاد كلي لما بعد النيوليبرالية

هناك مجال آخر يشكل فيه العمل الجماعي أهمية بالغة، ألا وهو الاقتصاد الكلي. وحتى اليمين اعترف بأن السوق لا تدير الاقتصاد الكلي على النحو اللائق، وأننا في حاجة الى سياسات تثبيت الاستقرار الاقتصادي الكلي، وتصاغ هذه السياسات على نحو يحد من دور الدولة في السياسة النقدية والمالية.

لقد أصبح من بين شعارات الاقتصاد النقدي الحديث أن البنوك المركزية لابد وأن تكون مستقلة؛ ولكن في العديد من البلدان، يديرها فعلياً القطاع المالي، وبالتالي فهي ليست مستقلة فحسب، بل إنها أيضاً غير مُمثّلة. وحتى أولئك الذين لا ينتمون الى القطاع المالي يميلون الى أن يكونوا خاضعين له، فهم يتبنون وجهة نظر وول ستريت في العالم، وبشكل أكثر تحديداً، فيما يتصل بجعل الاقتصاد جيداً والبنك المركزي جيداً.

يزعم اليمين أيضا أن البنوك المركزية ينبغي لها أن تعمل وفقا لقواعد بسيطة (في وقت سابق كانت النقدية، ولكن مؤخرا اصبحت تستهدف التضخم)؛ وكان القصد حرمان البنوك المركزية من قدر كبير من السلطة التقديرية. وعلى نحو مماثل، يؤمن كثيرون من اليمين بالتقشف المالي ــ تقييد أيدي الحكوماتــ على سبيل المثال بالقواعد البسيطة لأوروبا التي تندد بالعجز الذي يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي. عندما كنت في إدارة كلينتون، كان هناك اقتراح بإجراء تعديل على الموازنة المتوازنة. وقد هزمنا ذلك، ولكن بالكاد. أين كنا لنكون في خضم أزمة (كوفيد- 19) لو تم تمرير هذا التعديل؟

إن النقاش الأخير حول كيفية الاستجابة للتضخم الناتج عن الوباء (كوفيد-19) وغزو روسيا لأوكرانيا يوضح التباين بين سياسة الاقتصاد الكلي النيوليبرالية وما قد تكون عليه سياسة ما بعد النيوليبرالية.

لقد اتبع بنك الاحتياطي الفيدرالي القواعد النيوليبرالية القياسية للبنوك المركزية وطالب برفع أسعار الفائدة استجابة للتضخم، بغض النظر عن مصدر هذا التضخم؛ فكلما زاد التضخم، كلما كان من الواجب رفع أسعار الفائدة. (حتى ان هناك صيغة بسيطة توضح ما يفترض أن يفعلوه تسمى قاعدة تايلور). ونظرا للارتفاع السريع للتضخم مع اقتراب الوباء من نهايته وبدء الحرب في أوكرانيا، فقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بسرعة دون التفكير بعمق في الاضطرابات التي قد يسببها هذا التحرك للنظام المالي، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.

كان من المؤكد ان يتسبب هذا في حدوث اضطرابات لان هذا يحدث في كل مرة تتغير فيها منحنيات العائد بسرعة. وقد حدث ذلك عندما رفع رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق بول فولكر اسعار الفائدة بشكل كبير قبل 45 عام. البنوك تشارك آجال الاستحقاق – الاقتراض قصير الاجل والاقراض طويل الاجل - لذا إذا ارتفعت تكلفة موجوداتها (ارتفاع كلفة الاقراض) بسرعة وبطريقة غير متوقعة، فقد تتعرض للمتاعب.

لكن بعد فشل العديد من البنوك الإقليمية الكبرى، اكتشفنا أنه حتى فيما يسمى باختبارات الإجهاد، والتي من المفترض أن تقيّم ما قد يحدث في ظل سيناريوهات اقتصادية مختلفة، لم يختبر بنك الاحتياطي الفيدرالي بشكل كافٍ ما قد يحدث إذا تغير سعر الفائدة بشكل كبير. وعلى وجه الخصوص، لم يأخذ في الاعتبار أن قيمة السندات الحكومية الطويلة الأجل سوف تنخفض بشكل كبير، مع عواقب كبيرة على العديد من البنوك التي تحتفظ بهذه السندات وغيرها من أشكال الديون الطويلة الأجل. وكانت إحدى الحجج التي طرحها بعض الخبراء لصالح رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة هي أن ذلك ضروري إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يريد الاحتفاظ بمصداقيته، والحفاظ على الثقة به. ولكن عدم كفاءة بنك الاحتياطي الفيدرالي في إشرافه وإجراء اختبارات الإجهاد الخاصة به، لكن من المؤكد تقريبًا أنه قوض الثقة إلى حد أكبر.

ولكن طموح بنك الاحتياطي الفيدرالي المعلن بزيادة معدل البطالة كان أسوأ من ذلك. ومن الغريب، على أقل تقدير، أن تعلن وكالة عامة كبرى أن هدفها هو تحقيق معدل بطالة أعلى من 5%. ونحن نعلم أنه إذا كان معدل البطالة الإجمالي 5%، فإن معدل البطالة بين الشباب من الأقليات سوف يتجاوز 20%. وكان هناك الكثير من الحديث عن الألم الذي سيلحق بالعمال، ولكن لم يكن هناك الكثير من الحديث عمن سيشعر بأكبر قدر من الألم وما الذي ينبغي القيام به لتخفيف هذا الألم.

كان الأمر المزعج بشكل خاص هو أن قدرًا كبيرًا من الألم كان قائمًا على "نظرية" خاطئة، وهو ما ثبت مع انخفاض التضخم بشكل كبير دون زيادة معدل البطالة بالطريقة التي كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يركز عليها.

إذا أردنا مجتمعاً شاملاً واقتصاداً يعمل بشكل أفضل، فمن الواضح أننا بحاجة إلى بناء إطار للسياسة الاقتصادية الكلية ما بعد الليبرالية الجديدة.

أود أن أشير الى نقطتين أخيرتين. تتعلق الأولى بحالة النظرية الاقتصادية السائدة، وتتعلق الثانية بشكل أكثر مباشرة بالموضوع الذي نحن بصدده، وهو العلاقة بين الاقتصاد والديمقراطية.

 

ما بعد فشل السوق

إن الطريقة القياسية التي يتعامل بها خبراء الاقتصاد مع العديد من الأسئلة التي نناقشها هي أن نسأل: ما هي الظروف التي تجعل الأسواق بمفردها لا تؤدي إلى الكفاءة الاقتصادية؟ وكيف نصحح إخفاقات السوق ؟ إن هذا النهج يعطي الأولوية للسوق. فالأسواق هي الوضع الافتراضي، والمكان الذي نبدأ منه وننهي فيه تحليلنا، في حين يتلخص دور الحكومة في إصلاح الأمور. وهذا نهج مفيد، ويمكننا أن نستمد منه البصيرة، ولكنني لست متأكداً من أنه النهج الصحيح بالضرورة. ان قدرا كبيرا من عملي في الاقتصادات العامة، في الجانب النظري او التطبيقي، كان في وقع الامر قائما على هذا النهج. ولكنني أدركت أن الترتيبات المؤسسية الأخرى من غير السوق ــ بما في ذلك الحكومات ــ نجحت في العديد من السياقات بشكل جيد للغاية. بل لقد نجحت الى الحد الذي جعلني مقتنعاً بأننا لا ينبغي لنا بالضرورة أن نعطي الأولوية للأسواق. وهذا هو الحال بشكل خاص في قطاعات معينة ــ التعليم، والصحة، ورعاية المسنين، وعلى نطاق أوسع، الجزء المتنامي من اقتصادنا الذي يتصل بـ "الرعاية".

وعلاوة على ذلك، وكما أكدت في كتابات أخرى، فأن الشركات السوقية التي تعمل من أجل الربح لا تستخدم الأسواق داخلياً؛ بل تعتمد على ترتيبات مؤسسية أخرى لتخصيص الموارد وإدارتها. وعندما نتجاوز الاقتصاد التقليدي ونفكر في الأداء الفعلي لاقتصاد السوق ــ التفاوتات التي يولدها، والاستغلال من جانب صناعتي التبغ والأغذية، والدمار الذي يلحق بالبيئة، وأزمة المواد الأفيونية والأزمة المالية، والكساد والركود، وما إلى ذلك ــ نرى عالما تظهر فيه الأسواق عيوبا عميقة وتعاني من قيود شديدة. ولدينا عقلية مفادها أنه على الرغم من فشل السوق في كل هذه النواحي، فأن الاقتصاد القائم فقط على الشركات التي تعمل على تحقيق الربح وتعظيم قيمة المساهمين يجب أن يظل نموذجنا. وأجد هذا متناقضا بعض الشيء. لقد وضعنا الأسواق على مكانة لا تستحقها؛ وربما حان الوقت لإزالتها من تلك المكانة.

إننا في احتياج إلى تبني نهج أكثر انفتاحاً في التعامل مع الترتيبات المؤسسية. ويتعين علينا أن نسأل أنفسنا: ما هي الترتيبات المؤسسية التي تعمل حقاً؟ وإذا لم تكن تعمل، فكيف نصلحها لكي تعمل على نحو أفضل؟

إنني أدرك أن تصميم المؤسسات أمر صعب. وما ندعو إليه هنا، أي تغيير النظام، صعب بشكل خاص لأنه يعني تغيير العديد من الأجزاء في نفس الوقت.

تشكيل المجتمع

هناك نقد مهم آخر للاقتصاد المعياري (الاقتصاد ذو القيمة العالية والاداء الجيد): فهو ينطلق من فرضية مفادها أن تفضيلات الأفراد ــ سلوكهم وهويتهم ــ خارجية. ولكن الاقتصاد ومجتمعنا بشكل عام يساعدان في تشكيل هويتنا. وإذا كان نظامنا الاقتصادي يشجع الناس على الأنانية والجشع ويكافئ أولئك الذين يتصرفون على هذا النحو بسخاء، فسوف يصبح المزيد من الناس أنانيين وجشعين.

ان اعتماد المزيد من المؤسسات على التعاون من شأنه أن يزيد من احتمالات وجود المزيد من الناس المتعاونين. والواقع أن الجزء الوحيد من نظامنا المالي الذي نجح نسبياً في المرحلة التي سبقت أزمة 2008 وما بعدها كان الجمعيات التعاونية، التي يطلق عليها اتحادات الائتمان. وفي أغلب الأحوال، لم تنخرط اتحادات الائتمان في الولايات المتحدة في السلوك السيئ للغاية الذي كان سائداً إلى هذا الحد قبل الأزمة، واستمرت في إقراض الشركات الصغيرة بعد الأزمة. وهذا ليس مفاجئاً، لأن هذه الجمعيات كانت تتبنى أخلاقيات مختلفة عن غيرها من المؤسسات المالية.

بالتأكيد، وضمن اي نوع من أنواع المنظمات، تضم أفراداً يتمتعون بمجموعة متنوعة من السمات والسلوكيات؛ ولكن النظام الاقتصادي هو الذي يرجح كفة الميزان. على سبيل المثال، هناك بعض الأدلة التي تشير الى أن الشخص الذي يعمل في مجال المصارف، وهي المهنة التي يشكل المال محورها، والتي تكافئ الأفراد على أساس مقدار الأموال التي جلبوها الى الشركة دون الاهتمام بأي شيء آخر، قد ينتهي به الأمر الى أن يصبح أكثر كذباً وأنانية. 

إن الاقتصاد بدوره يتشكل من خلال السياسة الاقتصادية ــ وبشكل خاص، كما أكدنا، من خلال قواعد اللعبة الاقتصادية. والسياسة الاقتصادية تتشكل من خلال معتقداتنا وقيمنا، ومن خلال القوة السياسية. ولا شك أن التفاوتات الاقتصادية تترجم حتماً الى تفاوتات سياسية. والنقطة المهمة هنا هي أن نظامنا الاجتماعي الاقتصادي يشكل هويتنا ويؤثر على نوع المجتمع الذي ننشئه.

وعلى هذا، فبينما نفكر في تصميم اقتصاد ما بعد الليبرالية الجديدة، فمن الأهمية بمكان أن نضع في اعتبارنا كيف يعمل نظامنا الاقتصادي والسياسي على تشكيل الناس والمجتمع، وكيف يعمل المجتمع بدوره على تشكيل نظامنا الاقتصادي والسياسي. ويتعين علينا أن نسأل أنفسنا: أي نوع من الناس وأي نوع من المجتمع نريد؟

 ما بعد النيوليبرالية: نحو الاقتصاد الذي يدعم الديمقراطية

اهم اقتصاديين مهمين للنيوليبرالية واليمين في منتصف القرن الماضي (القرن العشرين) هما ميلتون فريدمان (Milton Friedman)، (بالخصوص كتابه عام 1962 الرأسمالية والحرية) وفريدريش هايك (Friedrich Hayek) (وكتابه عام 1944 الطريق الى العبودية)، زعما أن اقتصاديات السوق الحرة كانت أكثر كفاءة ووفرت المزيد من "الحرية". لقد شرحنا بالفعل ما هو الخطأ في هذين الادعاءين. ولكنهما قدما ادعاءً أعظم وهو " لم تحقق الليبرالية الجديدة الرخاء الاقتصادي و"الحرية" الاقتصادية فحسب، بل وأيضاً، والأهم من ذلك، الحرية السياسية". كتب هايك في أعقاب الكساد الأعظم، عندما بدا واضحاً لكثيرين أن الأسواق قد فشلت. لقد أوضح جون ماينارد كينز كيف يمكن للتدخل الحكومي المحدود في شكل سياسات نقدية ومالية أن يعيد الاقتصاد إلى التشغيل الكامل للعمالة. وبدا أن كينز ينقذ الرأسمالية من الرأسماليين، ولكن هايك، مثله كمثل العديد من الأثرياء في تلك الحقبة، لم يقبل أي شيء من هذا. في المملكة المتحدة، حيث كان هايك يدرس في كلية لندن للاقتصاد، كانت هناك مطالب متزايدة ببريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية ان تتولى الحكومة دوراً نشطاً ليس فقط في استقرار الاقتصاد الكلي ولكن أيضاً في ضمان المزيد من العدالة الاجتماعية والاقتصادية، مع دور أكبر لـ "دولة الرفاهية"، وهي الأفكار التي وضعتها حكومة حزب العمال موضع التنفيذ مباشرة بعد الحرب.

لقد زعم هايك أنه إذا كان لدينا المزيد من العمل الجماعي، وحكومة أكبر، فأننا نسير على الطريق الى العبودية. وإن حريتنا السياسية أصبحت معرضة للخطر.

وعلى العكس من ذلك، وكما أوضحت في كتابي الصادر عام 2024 بعنوان "الطريق الى الحرية: الاقتصاد والمجتمع الصالح"، فإن الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) أدت الى إضعاف الديمقراطية. لقد كان هناك نمو للشعبوية الاستبدادية ليس في البلدان التي فعلت الكثير باتجاه النيوليبرالية، بل حتى في البلدان التي فعلت القليل بذات الاتجاه.

لا يمكن فصل نظامنا الاقتصادي عن نظامنا الاجتماعي والسياسي ــ عن هويتنا كأفراد وما نحن عليه كمجتمع. وأن التحرك بعيداً عن الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) ينطوي على أمور اخرى أكثر من مجرد الكفاءة الاقتصادية. فالتحرك بعيداً عن الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) يشكل خطوة حاسمة في التحرك نحو مجتمع صالح، أو على الأقل أفضل، ويمكن للأفراد والديمقراطية أن يزدهرا فيه.

 

رابط الدراسة الاصلي:

https://rooseveltinstitute.org/publications/how-neoliberalism-failed

التعليقات