تتباين المكانة التي يحظى بها مفهوم الثورة في الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وذلك بحسب السياق الرئيسي الذي يميز ويعرف كل دين فيحدد ملامحه وسماته وتوجهاته وأهدافه
تتباين المكانة التي يحظى بها مفهوم الثورة في الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وذلك بحسب السياق الرئيسي الذي يميز ويعرف كل دين فيحدد ملامحه وسماته وتوجهاته وأهدافه. ففي اليهودية، نجد أن السياق العام الذي يُفسر به التاريخ في الفكر اليهودي: هو الرغبة والسعي لتحقيق الجنة التي وُعِد بها بنو إسرائيل في كتبهم المقدسة. أما في الفكر المسيحي، فقد مر بالكثير من التغيرات والتطورات بدايةً من القرن الأول الميلادي ونهايةً بعصر الإصلاح الديني، مرورًا بالعصور الوسطى وعصر النهضة. وكان من الطبيعي أن يحدث اختلاف في وجهة النظر المتعلقة بتفسير التاريخ عمومًا وتفسير الحدث الثوري خصوصًا على مدار تلك العصور، ولكن الملمح الرئيس الذي ميز المسيحية، هو كونها قد نظرت للتاريخ البشري برمته على كونه نتيجة لخطيئة آدم الأولى، تلك الخطيئة التي أدت لإخراج آدم من الجنة ونفيه إلى الأرض ليعيش هو وذريته ونسله من بعده في شقاء دائم حاملين على أكتافهم ثقل الجرم والذنب؛ نتيجة لذلك، نرى بأن الفكر المسيحي التقليدي(1)، أي فكر ما قبل حركة الإصلاح الديني، ابتعد عن أي حراك ثوري عنيف يهدف لهدم او لإقامة أي كيان سياسي، والاتجاه إلى التبشير بمجد المسيح المنتظر الاخروية؛ لذلك نرى المسيحة ذات توجه معاكس للتوجه اليهودي، فقد حرّض الفكر المسيحي أتباعه على الزهد في الدنيا والتوجه بكل حواسهم وأمانيهم إلى جنة السماء الطوباوية الخالدة. على أن تلك النظرة الكلاسيكية الرومانسية الحالمة قد تبدلت تمامًا إبان عصر الإصلاح الديني، ذلك العصر الذي شهد ظهور عدد من الشخصيات المسيحية ذات المنهجية الراديكالية من أمثال (مارتن لوثر وكلفن). ومن الممكن أن نعتبر كتابات كلٍّ من القديس "أوغسطينوس" ومن بعده "توما الإكويني" نماذج معبرة تؤكد على بعد الاتجاه المسيحي التقليدي عن فكرة التغيير العنيف للواقع أو الثورة(2).
أما إذا انتقلنا إلى مفهوم الثورة في الفكر الإسلامي، فسنجد تباينًا كبيرًا وهائلًا عنه في النموذجين السابقين، فقد كان الإسلام منذ بدايته، حريصًا على الاهتمام بالجانب المادي الدنيوي في حياة الإنسان، وكذلك بالجانب الروحي الأخروي. ورغم كوننا لا نلاحظ استخدام مصطلح الثورة كثيرًا في أدبيات الفكر الإسلامي، إلا أننا نجد أن مفهوم الثورة قد تم التعبير عن محتواه وفحواه الحقيقيين بواسطة عدد من المصطلحات الأخرى مثل (الفتنة – الوثوب – النهضة – الخروج). إنّ الحديث عن الثورة في الفكر الإسلامي يتطلب ابراز موقفين(3):
• الجبهة الفكرية: كما تمثلت في كتابه الأول، القرآن الكريم، والسنة النبوية.
• الجبهة الواقعية: كما تمثل في الانجازات الثورية التي غّير بها الإسلام واقع المجتمع الجاهلي. ففي الجبهة الأولى لم يقتصر القرآن الكريم من قضية الثورة على استخدام المادة اللغوية لمصطلحها في الدلالة على معانيها بمجالات بعيدة عن إطارها الذي هو تغيير المجتمع والانتقال به إلى طور جديد، بل لقد شرع إلى الثورة كسيل إنساني لتغيير الواقع وتطوير المجتمعات. وفي السنة النبوية وجدت التيارات الثورية المسلمة ما يؤيد موقفها من قضية السيف، أي استخدام العنف الثوري.
إنّ الإسلام في حد ذاته قد انتهج النهج الثوري الراديكالي العنيف أثناء فترة تأسيسه وصعوده المبكرة، وهناك الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي أشارت بشكل واضح إلى مركزية مفهوم الإصلاح والتغيير والثورة. فالعرب والمسلمون الأوائل، قد عرفوا مصطلح الثورة واستخدموه، وكان يعني عندهم ضمن ما يعني: الهياج، والانقلاب، والتغيير، والوثوب، والانتشار، والغضب... بل لقد دلّت بعض مشتقات هذا المصطلح على نمط في البحث والتفكير يتسم بالعمق والغوص وراء المعاني وقلب الظواهر وتجاوزها بحثاً عن المكنونات. وغير مصطلح الثورة، نجد العرب والمسلمين قد استخدموا مصطلحات أخرى، منها مصطلح الفتنة، واستخدم قديماً للدلالة على الاختلاف والصراع حول الآراء والافكار وقيام الاحزاب، وكانوا يصفون المؤرخ إذا حجة في أخبار الثورات والحروب فيقولن عنه: إنه عالم في الفتن والدماء. وكذلك استخدموا مصطلح الملحمة للدلالة على بعض معاني الثورة. أيضاً استخدموا مصطلح الخروج، وغلب الادب السياسي لكثير من فرق المسلمين ومدارسهم الفكرية حتى اشتق اسم الخوارج لثورتهم المستمرة، كما استخدموا مصطلح النهضة؛ لأن النهوض كالثورة، يعني الوثوب والانقضاض. إن المؤرخون العرب القدماء لم يستخدموا كلمة ثورة، بل كلمات مثل خروج وفتنة، فقالوا فتنة الزنج، وخروج القرامطة، والفتنة في الواقع، هي الصراع الأهلي الذي يمسّ بالعنف التوازن السياسي الاجتماعي القائم بين جماعات أهلية. وربما يرتبط ذلك مرجعاً بالمفهوم الإسلامي لوحدة الجماعة واستقرارها التي ارتبط بدورها بتعزيز ديناميات التمصير، أي بناء المدن المستقرة وخططها مقابل نمط الاجتماع البدوي الأعرابي المنقسم والمضطرب. ولهذا فأن مفهوم المؤرخين العرب لما يصفه المؤرخون المعاصرون بـ الثورة، خاضع للسياق الذي حكم إنتاجه، وهو اعتبار الخروج عن الجماعة تقويضاً للعمران. والخروج على الجماعة أو الامة هو أصل ذم الخوارج، أما الخروج على السلطان الغاشم، فقد اختلف بشأنه، فالبعض اعتبره خروج على الجماعة، والبعض الآخر اعتبره أمراً مشروعاً، بل واجباً في بعض الحالات(4).
وكانت فكرة الثورة والجدال حول حاكميتها وشرعيتها ومنهجيتها وعناصرها موضوعًا رئيسيًا ومحوريًا في الأسس التي قامت وبُنيت عليها الفرق الإسلامية السياسية المختلفة مثل (أهل السنة والشيعة والمرجئة والخوارج). فأهل السنة والجماعة بشكل عام، وقفوا موقفًا معارضًا ضد مفهوم الثورة، واستدلوا على موقفهم هذا بعدد من الآيات والأحاديث التي تحذر من الخروج على سلطة ولي الأمر، وتجعل من الخروج عليه خروجًا على حكم الله نفسه. وهناك شواهد كثيرة على ذلك في التاريخ الإسلامي(5). أما المرجئة فقد تركوا الحكم على المواقف السياسية-الدينية وآثروا أن يرجئوا الحكم فيها لما بعد الحياة الدنيوية، ليفصل الله عز وجل فيها. أما الخوارج فكان خطهم السياسي الواضح الذي اتخذوه منذ بداية تأسيس مذهبهم، يتفق ويتسق بشكل تام مع الفكر الثوري الراديكالي العنيف، فقد اعتقدت جميع الفرق والجماعات والطوائف المنبثقة عن الفكر الخارجي بضرورة الخروج على الحاكم الظالم وحتمية الاحتكام لشرع الله وأوامره ونواهيه. أما الشيعة، فقد اختلف موقفهم من الثورة باختلاف فرقهم، فالشيعة الزيدية اعتقدوا بضرورة الخروج والثورة على الحاكم الظالم، ويشهد على ذلك قول الإمام زيد بن علي لأخيه الإمام الباقر (ع): (فليس الإمام منا من أرخى عليه ستره، بل من شهر سيفه). والمراجع لتاريخ الثورات الشيعية على مدار التاريخ الإسلامي الممتد لأكثر من خمسة عشر قرنًا، سيجد أن الأغلبية الغالبة من الثورات الشيعية قد تحقق بتدبير وتخطيط وقيادة من أئمة المذهب الشيعي الزيدي.
أما الشيعة الإمامية عمومًا، فقد اعتبروا أنّ الثورة لا يمكن إباحتها بغير شروط وقيود محددة، وكان رأي إمام العصر وصاحب الزمان هو أهم تلك الشروط وأعظمها. لذلك نجد أن الشيعة الإمامية اعتقدوا بمشروعية التغيير والثورة في أزمنة الإمام علي (ع) والإمام الحسين (ع)، بينما ذهبوا عكس ذلك في عصور الأئمة الباقين، أي بعد واقعة الطف. ذلك أنّ الباعث على التحرك الثوري في الفكر الشيعي الإمامي كان مصدرهُ إلهيًّا غيبيًّا يتخذ من الإمام وسيلة ومعبرًا لإيصال أوامره وقراراته، ومعنى ذلك أن العوامل المادية لم يكن لها أي دور – على المستوى الرسمي الشرعي – في القيام بالتغيير العنيف أو الثورة(6).
هذه المواقف من الثورة على اختلاف قراءاتها، لا يمكن حصرها بسياق واحد في تاريخ الفكر السياسي، فالمواقف الحديثة والمعاصرة قد تغيرت، ولاسيما ان اغلبها كانت محصورة بالقراءة الثيوقراطية، فالنظرية اليهودية ربطت قراءتها للثورة بوعود بني إسرائيل بالجنة، والنظرية المسيحية ربطتها بخطيئة آدم، فضلاً عن النظرية الإسلامية التي تعددت قراءاتها بتعدد مذاهبها واختلافاتها الدينية، ولعل جميعها ترجع إلى أصل التفسير الثيوقراطي، سواء السني أو الشيعي، أو غيرها من المذاهب، أي تلك القراءة التي ترجع مصدرية السلطات إلى الإله أو الحاكم وليس الشعب، بعكس القراءات الحديثة المعاصرة التي تغيرت قراءتها بتغير مفهوم الدولة وما يدور في فلكه أو ما ترتب عليها من قيم سياسية وقانونية معاصرة، كالشرعية الدستورية والقانونية وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية وما نتج عنها، التي غيرت مجرى التفكير السياسي اتجاه مشروعية للثورة ، فلم يعد الإله أو الحاكم هو مصدر السلطات، بل أصبح الشعب هو المصدر الوحيد للسلطة؛ لذلك تغير التفسير الثوري والتبرير للثورة، بمدى ارتباط مشروعية التغيير بالمصلحة العامة او بالشرعية الشعبية، فلم تعد الثورة في الفكر السياسي كما كانت، فقد ارتبطت بالمصلحة العامة والضرر الناتج عنها، فالثور لم تعد حبيسة التفسير الكلاسيكي اليهودي الموعود بالجنة، ولم تعد تعبر عن خطية آدم الأولى، او يمكن أن تختزل بحركة الإصلاح الديني في النظرية المسيحية، كذلك الحال بالنسبة للنظرية الإسلامية فلم تعد رهينة التفسيرات الفقهية او الدينية عند الجماعات الإسلامية في عصر الدولة القومية، نعم، ربما تفسيراتها باقية في إطار النظريات الثيوقراطية " المدراس الدينية" لم تتغير قراءتها في ذات الحقل، لكنها تغيرت بالحقل السياسي المدني – الوضعي والادبيات المعاصرة، فعلى سبيل المثال، ما تزال الثورة في الفقه الشيعي شرعيتها متوقفة على الإمام المعصوم أو الفقيه "المرجع الديني"، إلا أن هذه النظرية لا يمكن تعميمها بالمعنى القانوني والسياسي المعاصر، ولاسيما مع وجود الدولة القومية الحديثة وما افرزته من ادبيات معاصرة ارتبطت شرعيتها بمدى تحقيقها للمصلحة العامة الناتجة عن مصدرية الشعب للسلطات. فالتصدي لفساد السلطة وما ينتج عنها من اعوجاج وقتل وتهديد وتغييب للقانون وعدم تطبيق والتجاوز على القيم والمبادئ الديمقراطية، يفرض على المواطنين كافة التصدي له، أن لم تنفع الوسائل القانونية والدستورية في ردع الفساد وما ينتج عنه من تدمير للدولة والمجتمع. فالموقف من الثورة في الوقت الحاضر، ارتبط بالفاعل السياسي "المدني – الوضعي" اكثر من ارتباطه بالفاعل الديني "الإله أو الحاكم".
المصادر :
1. أنظر كتاب القس: نصر الله زكريا، المفهوم اللاهوتي للثورة، رؤية مسيحية وكنيسة للاحتجاجات والثورة، المجلد٥ من قضايا معاصرة، مطبوعات نظرة للمستقبل، ٢٠١١.
2. للمزيد أنظر: محمد يسري، مفهوم الثورة في الأديان السماوية، موقع ساسة بوست، 28 أغسطس, 2016، شبكة معلومات دولية: https://0i.is/mWUv
3. محمد عمارة، الإسلام والثورة، ط3، دار الشروق، القاهرة، 1988، ص24.
4. عزمي بشارة، مصدر سبق ذكره، ص13.
5. محمد يسري، مفهوم الثورة في الأديان السماوية، موقع ساسة بوست، 28 أغسطس, 2016، شبكة معلومات دولية: https://0i.is/mWUv
6. المصدر نفسه.
اضافةتعليق