العراق - عوامل الضعف والقوة

شارك الموضوع :

أن لدى العراق عوامل ضعف مزمنة، كما أن لديه عوامل قوة حقيقية كامنة، ولا يمكن لسكانه –أيا كانوا- استعادة دورهم الحضاري، وبناء دولتهم المقتدرة الا بتحييد عوامل الضعف وإيجاد العلاجات المناسبة للخلاص منها، واستنهاض عوامل القوة واستثمارها بحدها الأقصى لتحقيق مصالحهم، وحصول ذلك سيكون المقدمة التي لابد منها لنهضة العراق الحقيقية، وهذا –قطعا- سيتطلب درجة عالية من النضج لدى الحكام والمحكومين، كما سيتطلب استعدادا تاما لتحمل الضريبة المادية والبشرية المترتبة عليه، اما ما عدا ذلك، فسيبقى مجرد ثرثرة حمقاء، وتكرارا بائسا لمسار الفشل والاخفاق

سنتطرق في الفقرات القادمة الى موضوع مهم للغاية لا أظنه يغيب عن ذهن الكثير من الباحثين المنشغلين بدراسة العراق (تاريخا ومجتمعا) الا وهو تحديد عوامل الضعف والقوة المتحكمة بصيرورة هذا البلد، وذلك للفت انتباه المواطن العراقي، سواء كان من القادة ام من الاتباع، وسواء كان من النخبة ام من العامة، الى أهمية هذه العوامل، هذا من جانب، ودعوة المعنيين الى وضع السياسات والخطط المناسبة لتحييد عوامل الضعف وتعزيز عوامل القوة، من جانب آخر. لذا سيكون الحديث عن هذه العوامل بإطارها العام المجمل، تاركين لذوي الالباب الفطنة، والنفوس الحرة المتحفزة -وكل حسب تخصصه واهتمامه-امكانية البحث فيها بصورة أعمق، اثباتا ام نفيا؛ كوننا ندرك تماما ان عملية بناء الدول والمجتمعات الحديثة هي من اعقد المهام، وأكثرها صعوبة في جميع بلدان العالم، ولاسيما في البلدان التي لم تتعلم وتفهم معنى الدولة الحديثة. كما نود تنبيه القارئ الكريم الى ان الطرح التاريخي لهذه العوامل لا يعني ابدا التعامل معها بنفس الطريقة التي تعامل معها اسلافنا، وانما يعني التعامل معها في اطارها الزماني الصحيح، ومن خلال عقلية متفتحة مدركة لواقع عصرها ومقتضيات بنائه.

ان الدولة ككيان قانوني سياسي تشبه الفرد في ادراكها لنفسها، وفي تنظيم علاقاتها مع بيئتها الداخلية والخارجية، فكما أن معرفة الفرد الصحيحة بنفسه وحيطه الذي يعيش فيه، تحدد له نقاط ضعفه وقوته الذاتية، وتلك الموجودة في محيطه، وتساعده على الانطلاق بعد ذلك الى تلافي الأولى بذكاء، وتوظيف الثانية بحكمة لبلوغ أهدافه، مختطا لنفسه مسارا واثقا للتقدم والرقي يقهر به التحديات ويتجاوز الصعوبات في عالم يكون البقاء فيه للأقوى لا في عضلاته فحسب، وانما –أيضا-في قدرته على التكيف مع ظروفه المتغيرة، والعكس صحيح، أي عندما يعجز الانسان عن فهم نفسه ومحيطه، فانه سيحصد التيه والارتباك وكثرة الفشل، وتدهمه الاحداث حاكمة عليه بالضعف والسحق والفناء. كذلك الحال بالنسبة للدولة في بلوغها مراقي القوة والمجد والعظمة، وفي انحدارها نحو الضعف والتفكك والزوال.

ان قوة الادراك بالنسبة للدولة ليست وليدة حاضرها فقط، بل هي مستمدة –أيضا-من ميراثها التاريخي، فكثير من الدول تراكمت قوتها، وعظم شأنها عندما اكتشفت بتجاربها الماضية مكامن ضعفها وقوتها، وتجنبت تكرار اخطائها؛ فتكرار أخطاء الدول يعد دليلا بارزا على حماقة قياداتها، وخمول ذاكرتها الإيجابية، وتدني وعيها الخلاق.

 ولا يشذ عن هذه القاعدة دولة مثل العراق، فهذا البلد بصرف النظر عن طبيعة دولته (دويلة مدينة، امبراطورية، دولة حديثة) ونوع مجتمعه (سومري، اكدي، بابلي، اشوري، عربي) تعطي تجربته التاريخية الطويلة في الإخفاق والفشل مرة، وفي النجاح والتقدم مرة أخرى دروسا مهمة لقادته وسكانه محددة لهم ماهية عوامل ضعفهم وقوتهم، كما تنبأهم متى يكونون على مسار الانحدار والضعف؟ ومتى يكونون على مسار العلو والرقي؟ فتاريخ العراق منذ نشأته الأولى على يد السومريين قبل خمسة الاف سنة من ميلاد السيد المسيح الى يومنا الحاضر يُظهر بجلاء وبلا عناء طويل وجود عوامل ضعف عندما تشتد سطوتها تقوده سريعا الى الانهيار اجتماعيا وحضاريا، فضلا على وجود عوامل قوة إذا ما استثمرت بعناية تكون كفيلة بإعادته الى مجد الحضارة وتقدمها.

وقد يقول قائل: ان هذه العوامل ليست حكرا على العراق، وأنها تصدق على كل دول العالم، وهذا الرأي صحيح ولا جدال فيه، لكنها في العراق لها خصوصيتها التاريخية وتأثيرها المعقد، ناهيك عن أن الكثير من الدول الأخرى أدركت بوعيها وإرادة مجتمعاتها عوامل ضعفها وقوتها بشكل أو آخر، فتكيفت معها بما يخدم مصالحها ويحقق اهدافها. أما العراق فما يؤسف له حقا ان معظم سكانه (نخبا وعامة) لا زالوا غير مدركين لهذا الأمر، أو غير راغبين به، ولا يولونه عنايتهم، ويترافق ذلك مع عجزهم الواضح عن فهم وتطبيق قانون التكيف في أنفسهم ومع محيطهم، لذا تجدهم يدورون-غالبا-جيلا بعد جيل في نفس الحلقة الملعونة من التردي والفشل، وكأنهم لم يتعلموا شيئا من تجارب اسلافهم.

وعليه ما هي عوامل ضعف العراق وقوته، التي لازمته تاريخيا، ولم يتعلم سكانه كيفية التعامل معها بشكل صحيح لبناء دولتهم ومجتمعهم؟

أولا-عوامل الضعف.

تُظهر التجربة التاريخية العراقية ثلاثة عوامل رئيسة لضعف هذا البلد، يمكن تصنيفها حسب الأهمية الى ما يلي:

1-الاستبداد السياسي.

شكل الاستبداد السياسي-ولا زال- عاملا بارزا من عوامل الضعف والمقت في السياسة العراقية عبر تاريخها الطويل، حتى تحول الى ثابت من ثوابتها لا على مستوى الحكام لوحدهم فحسب، بل وعلى مستوى الثقافة السياسية العامة، فمن اليسير ان تسمع  اليوم، كما هو الحال بالأمس، من عامة العراقيين، ومن كثير من نخبهم، حديثا فجا عن حاجتهم لحجاج او صدام يحكمهم؛ بحكم ما ألفوه في تاريخهم من انتظام واستقرار مؤقت تحت حكم الطغاة، لكن ما لم يدركه أو يتجاهله أصحاب هذا الكلام هو أن الاستبداد في تاريخهم انتج بمرور الزمن ثقافة عامة سائدة هي ثقافة عبيد لا ثقافة احرار، ثقافة منتكسة أضعفت المناعة الداخلية للمجتمع، ورققت حصانته وقدرته على المواجهة، فاستنزاف طاقة الحياة لدى المجتمع من قبل الطغاة (المحليين والأجانب) نخرته من الداخل، وحولته الى بناء هش سريع الانهيار.

ولهذا السبب سقطت بابل العظيمة سنة 539 ق.م في 12 يوما، أو أقل من ذلك بكثير في رواية أخرى امام جيوش قورش الاخميني على الرغم من عظمة عمرانها وقوة حصونها، بل واستقبل جزء من شعبها –حماقة وجهلا-الغازي الطامع بالترحيب والتهليل، ثم تكررت هذه الحادثة المؤلمة بعد ذلك لمرات عديدة في تاريخ العراق وصولا الى مطلع القرن الواحد والعشرين عندما سقطت بغداد من جديد في 21 يوما فقط امام غزو الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها المحتلين سنة 2003م.

ان  الاستبداد السياسي حول المجتمع من مجتمع احرار الى مجتمع عبيد يحكمه الطغاة وفقا لأهوائهم ومصالحهم ومقتضيات بقائهم، ومن طبع العبيد أنهم لا يدافعون عن اسيادهم ابدا، بل يتخلون عنهم ويسلمونهم الى مصيرهم المشؤوم في اقرب فرصة تلوح للخلاص منهم، سواء جاءت بيد محتل اجنبي أم طامع محلي، فهم لا يشعرون أن معركة ومصالح الاسياد معركتهم ومصالحهم، بل غاية الامر في وعيهم أن ما يحدث هو استبدال سيد قديم ميؤوس من خيره بسيد جديد يرتجى الخير منه، لذا يجدون في الخلاص من السيد القديم مظهرا من مظاهر التشفي والانتقام والثأر لمآسيهم على يديه، حتى لو كان الجديد اطغى منه وأفسد.

لقد علمت التجربة التاريخية الانسان العراقي أن الاسياد لا يستحقون الدفاع عنهم؛ لذا تجده نافرا من حماية ارض ليست ملكه، وبقاء حكم لا يمثله، واستمرار حاكم لم يحفظ حقوقه ويصون كرامته، وهذا السلوك للفرد والمجتمع العراقي سيستمر ما استمر الاستبداد في الحياة السياسية.

ان طول الاستبداد السياسي لحكام العراق (محليين وأجانب) الحق اضرارا جسيمة بالإنسان والثروة والحضارة في هذا البلد، انعكست تأثيراته السلبية على القيم والتقاليد والعادات، وعلى انماط التفكير والسلوك والعلاقات الاجتماعية، لذا يعد بقاء منهج وثقافة الاستبداد استمرارا أحمقا لمنهج وثقافة التدمير والضعف للدولة والمجتمع بصرف النظر عن الحجج والمبررات.

2-الانقسام والصراع الاجتماعي.

لم يكن الانقسام والصراع الاجتماعي الذي حدث بين عبدة الاله مردوخ (إله الشمس) وعبدة الاله سين (إله القمر)، والذي استفحل تأثيره بوجود عبدة يهوه في بابل وقاد في النهاية الى دمارها سنة 539 ق.م مجرد حدث عابر نمر عليه مرور الكرام، بل هو مؤشر خطير يشير الى وجود خلل اجتماعي في بنية المجتمع العراقي، لا يرتبط فقط بتاريخ اسلافه البعيدة، وانما لا زالت تحمله وتعاني منه اجياله الحاضرة. فمن الأمور المؤسفة لقاطني العراق أنهم شديدو الانقسام والصراع فيما بينهم، وتشتد هذه الظاهرة لديهم في أحلك الظروف التي تحتاج الى تكاتفهم ووحدتهم، وهم –غالبا-يدركون ان انقسامهم يعبد طريق أعدائهم لقهرهم وفرض اطماعهم عليهم، لكنهم لا يتخذون الخطوات المطلوبة منهم لتلافيه.

ان أسباب الانقسام والصراع لدى العراقيين كثيرة الا ان تلك المرتبطة بالعقائد الدينية شكلت المظهر الاعم على طول الخط، وبلونها وتفرعاتها تكونت وتمظهرت جميع الانقسامات والصراعات الأخرى، ولا غرابة في ذلك، فالعراق منذ فجر التاريخ شكل المنبع لمعظم الأديان التي عرفتها البشرية سواء كانت توحيدية ام وثنية، وحال انقسام مجتمعه الشديد دون تحوله-أيضا- الى ملهم لها (أي البشرية) في إدارة تنوعه الديني والاثني، بل على العكس لا زال المجتمع العراقي مجتمعا بدائيا للغاية في أنماط تفكيره وقيمه وسلوكه فيما يتعلق بالتعامل مع قضية الاختلاف والتنوع داخله وخارجه.

لقد هدد -ولا زال- الانقسام والصراع الاجتماعي وحدة العراقيين، وأضعف شوكتهم، وفتح الأبواب على مصراعيها للتدخل في شؤونهم، ونهب ثرواتهم، وتفكيك دولتهم، فكما تسبب بسقوط بابل العظيمة، كذلك تسبب بسقوط بغداد العباسية على يد المغول سنة 1258 م بعد أن عانت لوقت طويل من الانقسام والصراع الداخلي الحاد لاسيما بين طوائفها الدينية، وحكامها ومحكوميها، ناهيك عن الصراعات الدامية بين أطرافها الحاكمة نفسها والتي وصلت الى حد قتل الأخ لأخيه، والأب لأبنه، والابن لأبيه، فضلا على الصراعات داخل القبيلة الواحدة وبين القبائل المختلفة.

وشكل الانقسام والصراعات الناجمة عنه ذرائعا سمحت منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي لكل من الدولة العثمانية والدولة الإيرانية –آنذاك- بالتدخل في العراق واحتلال اراضيه واذلال شعبه، فقتلت الأولى شيعة العراق بحجة حماية سنته، وقتلت الثانية سنة العراق بحجة حماية شيعته، ليصل سكان هذا البلد بعد أربعة قرون طويلة من القهر والظلم الخارجي الى القرن العشرين وهم شعب يقع خارج ميدان الحضارة في العلم والمدنية والتنظيم الاجتماعي والسياسي والتطور الاقتصادي، فيما كانت خيراتهم وثرواتهم تصنع مجد بلاد عثمان وبلاد فارس.

وعلى الرغم من تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921م وفقا لنمط الدول السائد في العالم المتقدم الا انها وللأسف استصحبت معها ميراث اسلافها من الدول والمجتمعات التي سكنت هذا الأرض فيما يتعلق بقضية الانقسام والصراع الاجتماعي الحاد، وكأن القرون الطويلة من الاذلال والاهانة التي تعرض لها الاسلاف لم تكن كافية ليتعظ بهم الاخلاف، فاستمر الصراع على أشده بين العراقيين، وقاد انقسامهم وتقاطع رؤاهم الى توريط جيشهم الفتي بالتدخل في السياسة لينتج عنه اول انقلاب عسكري في تاريخ العراق الحديث سنة 1936م،  ثم تدهور الحال أكثر بعد احتلال بلدهم للمرة الثانية على يد الانجليز سنة 1941م، ومن ثم سقوط النظام الملكي سنة 1958م، كما كان الانقسام الداخلي سببا للمؤامرات والعنف الذي رافق اعلان جمهوريتهم بعد هذا التاريخ وصولا الى الوقت الحاضر.

ويمثل الانقسام والصراع الحاد بين العراقيين مظهرا من مظاهر الارتداد البدائي في حياتهم قاد في كثير من الأحيان الى أن تغزو القبيلة قبيلة أخرى، ويعتدي الأخ على أخيه، والجار على جاره بسبب: الطمع والجري الاعمى وراء الغنيمة، أو بسبب الاختلاف في الدين والمذهب والقومية والانتماء السياسي... ليس في مرحلة زمنية واحدة أو ظرف محدد، وانما عبر مراحل وظروف عديدة تجد مصاديقها في بطون كتب التاريخ، كما تجدها في تجارب المجتمع البعيدة والقريبة.

وهذه الظاهرة هي حالة مرضية خطرة للغاية، تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الاولى النخب العراقية على اختلاف اطيافها الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية ولا يتحملها الناس البسطاء، فعامة الناس مبتلين بنخبهم؛ فهم كبشر يرغبون فيما يرغب فيه أي انسان  آخر على وجه الأرض من الحياة الكريمة، والتنظيم الجيد للحكم والعلاقات الاجتماعية، والامن والاستقرار وما شابه، ولكن فساد نخبهم، وطمعها، وصراعها فيما بينها، وعدم تعودها على الحوار الموضوعي، وتعمدها اقصاء المخالف والمختلف معها بأي صورة ومهما كان الثمن،  فضلا على الانانية المفرطة لكثير منها، ونرجسيتها العالية، وسوء تقديرها للظروف ولمصالح مجتمعها ودولتها...اوهن  في النهاية المجتمع والدولة، واغرقهما في مشاكل كثيرة كان بالإمكان تجاوزها بسهولة لو توفرت نخب حقيقية تشعر بمسؤوليتها الأخلاقية ودورها التاريخي، فالناس في النهاية هم تبع لنخبهم، والنخب الفاسدة شديدة الانقسام، والمتصارعة على طول الخط، تنتج غالبا مجتمعا أسوء منها، واكثر جهلا وحماقة.

3-التدخل الخارجي.

 قدر العراق أن يكون ممرا لكل الغزاة، ومفتاحا لتأكيد الزعامة والسيادة الإقليمية منذ أقدم العصور، فهو قلب العالم القديم، ومنطقة الصدع الاجتماعي الأعظم في الشرق الأوسط، فعلى ارضه تحتك الحضارات والثقافات الشرق أوسطية الرئيسة، وتتصارع الدول والامبراطوريات الطامحة مع نظيرتها العراقية وغير العراقية، فكانت شهوة التدخل بقصد السيطرة على الثروات وقهر المنافسين ام بقصد حيازة مجد حكم بلاد سومر وأكد وبابل وأشور وبغداد شهوة عارمة لدى جيران العراق وخصومه زادت مضاعفاتها ونتائجها السلبية بما تركه عاملا الاستبداد السياسي والانقسام والصراع الاجتماعي من تأثيرات مدمرة على شخصية الانسان العراقي وميراثه الثقافي (القيمي والسلوكي).

لقد عانى سكان العراق من التدخل الخارجي بشكل لن تجد له نظيرا بين بقية البلدان، وغالبا ما وقعوا ضحية تضليل وخداع جيرانهم الطامحين والطامعين، وكانوا للأسف يكتشفون بعد فوات الأوان هذه الحقيقة، تماما كما خدع قورش الاخميني عبدة الاله مردوخ، عندما أوهمهم باحتلاله بلادهم من اجل اعادة الاعتبار لهم ولمعتقداتهم، فما كان منه الا ان فرض عليهم ولده قمبيز حاكما، ثم قام حفيده داريوش فيما بعد بتدمير مدينتهم العظيمة تدميرا كارثيا أنهى وجودها الحضاري لأكثر من 1200 سنة.

لقد تكرر ما حدث لبابل بصورته القاتمة والحزينة لأكثر من مرة في تاريخ العراق، وكان آخرها الاحتلال الأمريكي سنة 2003 م، والذي بحجة إقامة الديمقراطية وحماية حقوق الانسان دمر مرتكزات ومؤسسات الدولة بشكل ممنهج، وخدع العالم بديمقراطية مشوهة البنى والقيم كجزء لا يتجزأ من استراتيجية الفوضى الخلاقة التي بشر بها، مع ملاحظة مهمة للغاية هي: لم يكن ما حدث من مآسي للعراقيين في ظل الاحتلال الأمريكي  وبعده ناجم عن خطأ الديمقراطية ذاتها، بل ناجم عن سوء نية وقصدية المحتل في عدم توفير مرتكزات نجاحها الصحيحة.

والامر نفسه يصدق على القوى الإقليمية التي تداعت بعد الاحتلال للتدخل بالشأن العراقي بحجة حماية هذه الطائفة أو تلك، او حماية هذا الدين أو ذاك، أو حماية هذه القومية أو تلك...الخ، فهي جميعا وبدون استثناء لم يكن من أولوياتها تقديم مصالح العراق على مصالحها، وما خطابها الذي يظهر عكس ذلك في بعض الاحيان الا جزء من استراتيجياتها الهادفة الى ضمان مصالحها، وتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة في ومن خلال العراق.

ان وقوع العراق ضمن دائرة التدخل الأكثر جاذبية في الشرق الاوسط هو عامل ضعف كبير عرقل –ولا زال-بناء دولته، وفكك نسيجه الاجتماعي، فقوى التدخل ترى هذا البلد دائما حجرا في طريقها الى مد نفوذها الإقليمي والدولي، لذا تجدها حريصة على اضعافه بشتى السبل؛ حتى لا يهدد مصالحها تارة، او لا يخرج من دائرة سيطرتها ونفوذها تارة أخرى.

وتجارب العراقيين مع التدخل الخارجي مريرة، فهم يدركون بفطرتهم المتوارثة ان الأجنبي عندما يتدخل في شؤونهم يقوم بتهديد مصالحهم، وهذا يفسر بشكل أو آخر ذلك السلوك الغريب للإنسان العراقي الذي يتجسد في ترحيبه الأولي بالتدخل الخارجي للخلاص من حكامه الطغاة او للخلاص من فوضى الانقسام والصراع المميت والعبثي الذي يعيشه ثم انقلابه العنيد بعد ذلك على قوى التدخل رافضا الخضوع لها والاستسلام  النهائي لسيطرتها، كما يجد هذا السلوك تفسيره –أيضا- في ما يحمله سكان هذه الارض من بقايا الميراث الحضاري لأسلافهم العظماء، مما يجعلهم يتصرفون تصرفات الامم العظيمة التي لا تقبل الخضوع والاستسلام، فمهما اختلفت الأجيال البشرية زمانا، تبقى تحمل في اعماقها لا شعوريا طاقة وامجاد اسلافها، لذا كلما مالت الى نمط من السلوك لا يناسبها وخزتها طاقة الاسلاف رافضة القبول بهذا النمط ومانعة من الركون اليه طويلا.

ومن يتابع احداث التاريخ سيرى أن اسوء الأوقات بالنسبة للعراقيين هي تلك التي تشتد فيها ظاهرة التدخل الخارجي في شؤونهم، فهي تجلب الخراب لهم، كما تجلب النهب لثرواتهم والتمزق لمجتمعهم، وتضعف تأثيرهم في محيطهم الإقليمي والدولي، أما أسعدها فهي تلك التي يكون فيها التدخل الخارجي بحده الأدنى. ولن تجد أي قيادة عراقية طامحة وكفوءة عبر التاريخ الا ووجدتها تضع في قمة أولوياتها العمل على الحد من التدخل الخارجي في شؤون بلدها، أما القيادات محدودة الإمكانات والرؤية فتعمل على العكس من ذلك تماما، اذ هي تفتح الباب مشرعا امام الآخرين للتدخل في شؤون بلدهم، بحجة الحصول على دعمهم في مواجهة خصوم محليين أو بحجة الانتماء اليهم ضمن سياق فكري وعقائدي معين تقع مفاتيح قيادته وحركته خارج حدودهم، لتكون المحصلة النهائية الناجمة عن أفعال هذا النوع من القيادات هي انها تحكم على نفسها وشعبها ودولتها بالتضاؤل والخمول الحضاري.

لقد تظافرت العوامل الثلاثة: الاستبداد السياسي، الانقسام والصراع الاجتماعي، والتدخل الخارجي، مع بعضها البعض، لتشكل عبر التاريخ عقبات كأداء تحول دون استعادة ارض الرافدين لقيمتها الحضارية، وجعلت الشعوب التي سكنتها أسيرة البؤس والألم والتمزق، فضلا على تبعات القاتمة لذلك والمتمثلة بسيادة الفقر والجهل والمرض وغيره من مظاهر التردي والتخلف والتقهقر، ولن تقوم لهذا البلاد قائمة ما لم يدرك سكانها خطر هذه العوامل، ويمتلكوا الإرادة الكافية لتحييدها وتلافي ضررها.

ثانيا-عوامل القوة.

يمكن تقسيم عوامل قوة العراق الى قسمين: ثانوية ورئيسة او أساسية. فيما يتعلق بالعوامل الثانوية هي كثيرة ولعل أبرزها وجود الثروات الطبيعية الهائلة التي تصنف العراق في المرتبة التاسعة ضمن الدول العشرة الأكثر غنى بثرواتها الطبيعية بين دول العالم. فضلا على حجم السكان فهو ليس قليلا يدفع العراق الى استيراد العمالة الخارجية لتغطية العمل في قطاعاته الإنتاجية والخدمية الاساسية، كما انه ليس مرتفعا بشكل يجعل الحكومات العراقية عاجزة عن توفير حاجاته ومتطلباته المختلفة، بل على العكس من ذلك ان حجم سكان العراق إذا ما قورن بمساحته الجغرافية وثرواته الطبيعية ومقتضيات نهضته سيبدو حجما مريحا للغاية، وبإمكانه استيعاب اضعاف حجم سكانه في الوقت الحاضر بدون مشاكل، لو وجدت السياسات الفاعلة والإدارات الحكومية الكفوءة لبناء الدولة.

 ان العوامل الثانوية لقوة العراق تبقى مجرد عوامل ثانوية او مساعدة تعزز مسار النهوض الحضاري، لكنها تكون بلا قيمة مؤثرة ما لم يتم تحييد عوامل الضعف المذكورة في أعلاه، وتوفير واستثمار عوامل القوة الرئيسة، لذا سيكون جل اهتمامنا فيما تبقى من الحديث مركزا على العوامل الرئيسة، والتي يمكن تحديدها بأربعة عوامل هي:

1-وجود القيادة الاستراتيجية.

ان كثرة كلام العراقيين عن حاجتهم الى قائد قوي شريف، وما تزخر به كتاباتهم الفقهية والسياسية -قديما وحديثا-من آراء وأفكار حول الحاجة الى المستبد العادل او الحاكم المستنير او الامام العادل وما شابه هي ليست مجرد ثرثرات مجالس اجتماعية او ترف مثقفين ومفكرين يسكنون في قصورهم العاجية، بل هي تعبير ضمني عن حاجة واقعية من جهة، وإدراك لحقيقة تاريخية من جهة أخرى، كيف؟

هي حاجة واقعية؛ لأن الدول لا ترتقي الى اعلى مقامات المجد إذا لم يتولى زمام القيادة فيها أفضل رجالها حكمة وخبرة وإدارة، بل ان كثير منها كانت يوما ما رازحة تحت نير التخلف والبدائية، لكنها اليوم تقدمت بفضل ظهور قيادات جيدة على رأس هرم السلطة فيها.

ومن طبيعة القيادة الجيدة في حياة المجتمعات انها تتراكم بمرور الوقت وتتحول من تفكير وسلوك فردي الى تفكير وسلوك اجتماعي ينتج المزيد من الخبرات الجيدة في القيادة والادارة، مما سيحفز المجتمعات لتتناغم فكريا وسلوكيا مع قيادتها، فتكون النتيجة حكاما ومحكومين يحركهم الالهام والرؤية الواضحة للقيام بالأفعال المبدعة المحفزة للتقدم.

لذا لا غنى عن وجود القيادة الجيدة لمن يرغب في النجاح والتقدم الحضاري، والعراقيون (عامة ونخبة) يدركون أن معظم مصائبهم التي عاشوها ولا زالوا يعيشونها انما هي ناجمة عن وجود خلل جوهري في قياداتهم، فهم بالنتيجة يتحدثون عما ينقصهم، ويضعون اصبعهم على ما يعتقدون أنه سبب بلواهم.

وهي إدراك لحقيقة تاريخية؛ لأن التجربة التاريخية لسكان العراق اظهرت ارتباط تقدمهم وقوة شوكتهم دائما بظهور الشخصيات القيادية الفذة في حياتهم، فغالبا ما كان فعلهم الاجتماعي وحماستهم الفكرية والمعنوية تمثل انعكاسا لطبيعة من يقودهم، ولا غرابة في ذلك، فهذا ما يحصل في جميع المجتمعات ذات الطبيعة التقليدية، مع الانتباه هنا الى اننا لا نتحدث عن قيادات قوية فحسب، فالطغاة والمستبدين أقوياء –غالبا-وسبق ان ذكرنا ان استبدادهم السياسي كان عاملا مهما ورئيسا من عوامل ضعف العراق سياسيا واجتماعيا، بل ان ما جلبه بعض الطغاة للعراقيين من قوة في تاريخهم البعيد والقريب سرعان ما ظهر انها مجرد قوة مؤقتة خادعة أقيمت على جماجمهم، وتغذت على تعاستهم ثم قادت الى دمارهم في حياة هؤلاء القادة او بعد موتهم بقليل.

ان ما نقصده بالقيادة الاستراتيجية ليس قوة جبروتها، بل كفاءتها الإدارية، وحكمتها القيادية، ورؤيتها الاستراتيجية، هي تلك القيادة التي تعرف اين تقف؟ وماذا تريد؟ وكيف تبلغ ما تريد؟ رابطة بعد ذلك فعلها بنهضة بلدها وشعبها.

وما تدركه أي قيادة استراتيجية فذة تريد بناء عراق قوي وقابل للسير في طريق التقدم الحضاري هو أن عليها القيام بمهمتين أساسيتين هما: وحدة المجتمع، واستقراره.

ففيما يتعلق بوحدة المجتمع فأنها تعد الخطوة الرئيسة التي حولت قديما بلاد سومر من دويلات صغيرة متنازعة ومتصارعة الى امبراطورية عظيمة شامخة. فسكان العراق أقوياء عندما يتحدون؛ لأنهم يتوقفون عن تبديد طاقاتهم على النزاعات والصراعات العبثية فيما بينهم ويوجهونها باتجاه البناء والابداع والتنافس الخلاق، لكنهم عندما يتفرقون، يصبحون ضعفاء تعيبهم كثرة الانقسام والصراع والاستغراق في تفاصيل جزئية تعيق حركتهم الإبداعية وتعطل نهضتهم الحضارية.

وإذا كانت الوحدة قد حققها العراقيون-ولو جزئيا-في الماضي بفعل القوة القاهرة، فهذا الشكل من الوحدة لم يعد مفيدا في الوقت الحاضر، بل تتخطى اضراره أي فائدة مرجوة؛ لأن الوحدة بالإكراه غير منتجة، وغير قابلة للاستمرار. لذا على أي قيادة عراقية ذات رؤية استراتيجية وراغبة باستعادة قوة بلدها أن تدرك أن عليها الاعتماد على الاستراتيجيات الحديثة في إدارة التنوع والاختلاف وتطبيقها ببراعة للوصول الى الوحدة بالتراضي في إطار دولة واحدة.

ولا فائدة ترتجى من الوحدة ما لم تتعزز بالاستقرار، فلقد اثبتت تجارب التاريخ ان العراقيين يتقدمون بسرعة مذهلة عندما يحظون بالاستقرار، كونهم شعب حركي لا يقنع بما لديه، ويبحث دائما وبلا هوادة عن دور يؤديه تحت الشمس، ولكن عندما يفقدون شعورهم بالاستقرار سترى أن نزعتهم الحركية نفسها التي رفعتهم الى العلى تقودهم الى الانحدار، بسبب سقوطهم في فخ الانقسام والصراع والفوضى والتسافل الاجتماعي، لذا من الأخطاء التي يرتكبها أي نظام حكم يحكم العراق هو تجاهله لأهمية الاستقرار في حياة شعبه وبلده، ولا نتكلم هنا عن الاستقرار المؤقت لبضعة سنين أو حتى عشرات السنين، وانما نتكلم عن الاستقرار طويل الأمد، لكونه السبيل الوحيد لتغيير العقول والثقافات غير المناسبة، والتأسيس لأنماط قيم وسلوك جديدة تتلاءم مع متطلبات التطور والتنمية الاجتماعية الشاملة.

وعليه فأن الوحدة بالرضى والاستقرار الطويل هما مفتاحا قوة العراق، وغياب ظهور القيادة العراقية القادرة على تحقيقهما في الوقت الحاضر ترك نتائجه السلبية على الدولة والمجتمع.

وإذا ارتبطت القيادة في الماضي بوجود قائد فرد فذ يقود شعبه ودولته الى الامام، فان الوضع في القرن الواحد والعشرين تغير كثيرا، مع وجود الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، فالقيادة أصبحت مفهوما أكبر من مجرد وجود قائد استثنائي، هي ترتبط بشكل وثيق بوجود مؤسسات حرة استثنائية تعمل بكفاءة على مستوى الرؤية والتفكير، ومستوى الأداء والانجاز.

ان ما ينقص العراقيين اليوم ويؤخر تقدمهم هو افتقارهم الى قيادة استراتيجية فاعلة تقوم بها مؤسسات حرة وكفوءة يمكنها الحفاظ على وحدتهم واستقرارهم، وهذا الافتقار هو نتيجة منطقية من نتائج تعطيل بناء الدولة بمفهومها الديمقراطي الحديث، ولكنهم لن يتمكنوا من بناء هذه الدولة ما لم يتركوا الاحاديث والروايات الباحثة عن القائد الشريف أو الامام العادل أو المستبد المستنير ويركزوا جهودهم على المطالبة بإقامة المؤسسات القوية العادلة والكفوءة، ليتناسب توجههم هذا مع اتجاه حركة التطور البشري المعاصرة، فمن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها أي مجتمع واي مفكر هي انشغاله بالتفكير في حلول لقضايا معاصرة بعقلية قديمة تجاوزها الزمن

2-الجيش القوي.

عندما احتلت الولايات المتحدة العراق في التاسع من نيسان سنة 2003م قام بول بريمر بصفته حاكما مدنيا لسلطة الاحتلال-آنذاك-باتخاذ أول قراراته، الا وهو حل الجيش العراقي. لم يكن هذا القرار ناجم عن غباء من السلطة المحتلة أو تهورا وتخبطا قصير الرؤية، كما صوره عدد من الخبراء وصناع القرار داخل الولايات المتحدة وخارجها، بل هو قرار ذكي مقصود ومخطط له بعناية، فقوة العراق عبر التاريخ ارتبطت بامتلاكه لجيش وطني فتاك، وبقاء العراق قويا منيعا بوجه الطامعين لن يكون ابدا بدون وجود مثل هذا الجيش. فالعراق لا يقع في أطراف العالم أو على حافة حضاراته الرئيسة، بل يقع في قلبه الاستراتيجي، وفي منطقة الصراعات الأكثر سخونة وقلقا واستمرارا، وبحكم موقعه الحرج هذا لا يمكنه الدفاع عن نفسه الا بامتلاكه جيشا محترفا شديد البأس، لذا لا نستغرب من ارتباط اختراع العراقيين القدماء للكتابة باختراعهم للعجلة المحاربة، فالخط المسماري وعجلة القتال شكلا منطلقا رئيسا لبناء حضارة وادي الرافدين الاولى، ولا يمكن ان نتصور اليوم إمكانية التفريق بين قوة العلم وقوة الجيش لاستعادة العراقيين لحضارتهم من جديد.

وهذه الحقيقة يدركها المواطن العراقي البسيط بحكم ما ترسخ في تقاليده وعاداته المتوارثة من شعور بالأمن والسيادة والاستقلالية والمنعة في ظل وجود جيشه القوي، لذا ترى معظم العراقيين يحملون في داخلهم اعجابا وحبا لافتا لجيشهم، على الرغم مما قاساه الكثير منهم -في بعض الأحيان-من مشاكل على يده عندما تحكمت به قيادات مستبدة جعلت فوهات بنادق الجند موجهة الى صدور الشعب أكثر من توجهها لحماية حدوده، وقهر اعدائه.

ان تحول العراق الى دويلات قزمية تابعة كما هو الحال بعد سقوط بابل، او الى قبائل وطوائف متناحرة كما هو الحال بعد سقوط بغداد العباسية، او الى أحزاب أوليغارشية ومليشيات مسلحة متعددة الانتماءات والولاءات تتصارع فيما بينها على مراكز السلطة والنفوذ والثروة كما هو الحال بعد سقوط البعث يفقده ميزته الاستراتيجية وقوة دفعه الحضارية، وهذا ما انتبهت اليه القوى المحيطة به على مر التاريخ، فهي لا تخشى من عراق ممزق متصارع، انما تخشى اشد الخشية من عراق قوي موحد؛ لأنه سيكون مقتدرا للمطالبة بدوره الطبيعي في تقرير مصيره ومصير الشرق الأوسط برمته، وهذا ما لا تريده القوى الاخرى، بصرف النظر عن بعدها وقربها من حكام العراق.

وعليه، فان ما جرى على العراق بعد الاحتلال الأمريكي من تدمير ممنهج لمصادر قوته العسكرية، ومؤسساته الأمنية، واثارة مقصودة لنعراته الدينية والمذهبية والقومية والقبلية والعشائرية، وتأجيج لصراعاته السياسية، وتشتيت لرأيه العام، وتمزيق للحمته الاجتماعية ما هي الا محاولات مدروسة لمنعه من استعادة عافيته وقوته من جديد.

لقد تقاطعت مصالح القوى الخارجية المحيطة بالعراق فيما بينها في كثير من القضايا والمصالح، لكنها تضامنت واتفقت على هدف واحد الا وهو بقاء هذا البلد ضعيفا منهكا وغير مستقر، ولا يمكن الخلاص من هذا الوضع الا بتوحد إرادة العراقيين واصرارهم على امتلاك جيشهم الوطني المحترف، فقد كان الجيش عاملا من عوامل قوتهم تاريخيا وسيستمر اليوم وفي المستقبل.

3-الموقع الجيواستراتيجي.

من الأمور العجيبة والمحيرة هو كلام بعض العراقيين عن الاهمية الجيواستراتيجية لبلدهم، وهذا الكلام واقعي ولا تنقصه الأدلة الامبيريقية، ولكنه في الغالب كلام عن هذه الاهمية في حسابات القوى الإقليمية والدولية، وليس عما يمكن ان توفره من إمكانيات إيجابية هائلة للعراق نفسه، وما تقتضيه من سياسات وآليات عمل هادفة لتحويلها الى مرتكز لقوته واقتداره.

ان الافذاذ من القادة العراقيين القدماء أدركوا القيمة الجيواستراتيجية لبلدهم، فعملوا على توظيفها بفاعلية لمصلحته، فهذا سرجون الأكدي قبل ثلاثة وعشرين قرنا من ميلاد السيد المسيح، تراه بعد توحيد بلاد سومر وأكد يتحرك ليغسل أسلحته في البحر السفلي (الخليج العربي اليوم) اولا، ثم لا يلبث كثيرا حتى يعبر بلاد الأرز (لبنان اليوم) ليغسلها-أيضا- في البحر العلوي (البحر المتوسط اليوم) رابطا  من خلال امبراطوريته الخليج العربي بالبحر المتوسط، ومؤكدا بذلك على دور العراق كعقدة مواصلات مهمة في التجارة العالمية لحواضر العالم القديم.

لقد كانت أهمية العراق الجيواستراتيجية حاضرة في جميع الممالك والدول التي سادت فيه، ولم يخسرها الا عندما تجاهلها حكامه -ضعفا وجهلا-فسمحوا لبلدان أخرى اقل منهم شأنا بأخذ ما هو حقهم ودورهم، ومع ذلك لم يفقدها ابدا، اذ لا زال العالم يرى فيه مركز جذب لربط التجارة العالمية، على الرغم من ظروفه الصعبة، وهذا ما نراه ماثلا في الوقت الحاضر من خلال مشروع الحزام والطريق الصيني الهادف الى الربط التجاري بين أسيا وأوروبا.

ان مما يؤسف له حقا سوء فهم زعماء العراق المعاصر للأهمية الجيواستراتيجية لبلدهم، وعدم قيامهم بخطوات عملية في الطريق الى استثمارها استثمارا امثلا لتعزيز قوتهم، فتراهم يتفرجون تفرج العاجز على القوى القريبة والبعيدة وهي تتصارع فيما بينها لتنفيذ مشاريعها الجيواستراتيجية في الشرق الاوسط دون ان يحفزهم ذلك على القيام بشيء ما لاستثمار موقع بلدهم المهم، وكأنهم يريدون البقاء مجرد محطة في مشاريع الاخرين دون التفكير بامتلاك مشروعهم الجيواستراتيجي الخاص.

4-القوة الناعمة العراقية.

في شهر أيلول-سبتمبر سنة 2019 نشر كاتب هذه السطور مقالا بعنوان (القوة الناعمة العراقية...اهمال حكومي وفرصا مهدورة)، وقد جاء فيه:" للعراق مصادر مذهلة من القوة الناعمة كثيرا ما تم اغفالها –جهلا او عمدا-وبالإمكان توظيفها بصورة أكثر فاعلية لتحقيق مصالحه الدولية". وبين -في حينها-ان من أبرز مظاهر القوة الناعمة العراقية ما يلي:

- " الموروث التاريخي للعراق والذي يتجسد بحضاراته القديمة: سومر وأكد وبابل وآشور، اذ لا زالت بلاد ما بين النهرين في التفكير العالمي تمثل مهد الحضارات الأولى، التي تثير رغبة الكثير من اجل زيارتها والتعرف عليها، بل والوقوف أمامها بتبجيل واحترام، وكان بالإمكان توظيف هذا الامر بعناية أكثر لجذب السياحة العالمية الترفيهية والاثارية؛ لاكتشاف هذا الموروث والتواصل من خلاله مع العالم".

- رمزية العراق العربية والإسلامية كونه "يمثل ... في الذهن العربي رمزا مهما من رموز قوته واعتزازه القومي والديني، فهو يمثل حاضرة العالم في القرون الوسطى، ومدنه الرئيسة كالكوفة والبصرة وبغداد كانت ولازالت هي مدن العلماء والفقهاء، وعلى ارضه تشكلت المذاهب الإسلامية، وفيها دُفن الاولياء والصالحين الذين هم مقصد العربي والمسلم من كل مكان، ولا يمكن للتفكير العربي والاسلامي بالعراق ان يتحرر من هذه الصورة المؤثرة التي تجعل هذا البلد سيدا تنساق النفوس اليه وتعجب به وتتألم لكل كارثة أو مصيبة تحل به".

- رمزية العراق الدينية، فهو يشكل " في الوجدان الديني العالمي منبع الأديان التوحيدية الرئيسة في العالم، ولدى هذا العالم شعورا فطريا بالانجذاب اليه".

- جاذبية الادب والفن العراقي حيث لهما "إيقاع وتأثير طيب لدى المتلقي العربي –على الأقل-تجده جليا عندما تزور وتتحدث مع الشعوب العربية من المغرب العربي الى مشرقه".

- خريجو الجامعات العراقية، فهناك "كثير من العرب (وغيرهم) درسوا في الجامعات العراقية وأصبحوا قادة سياسيين وأساتذة جامعات وقادة رأي في بلدانهم وهم يحملون ذكريات طيبة عن العراق وشعبه، ويمثلون قوة اجتماعية منحازة فكريا ولا شعوريا للعراق كان لا بد من استثمارها أكثر من خلال التواصل الدائم بهم بكل طريقة ممكنة، فضلا عن تعزيز مستوى الجامعات العراقية في استقطاب المزيد منهم".

- " العراقيون في الخارج الذين هاجروا او هُجروا لسبب أو آخر، وأصبح الكثير منهم أرقاما مؤثرة في المجتمعات التي استقروا فيها، وكان يمكن ان يكونوا قوة عراقية مؤثرة في تلك البلدان تقود اعمالها الى دعم وجهة النظر العراقية" في المحافل الدولية عموما، وفي البلدان التي استقروا فيها بشكل خاص.

- الديمقراطية في العراق، فهي "أقوى مصادر القوة الناعمة المهدورة للعراق ... تلك الديمقراطية التي كان يمكن لها ان تشكل طوفان جارف من القيم الايجابية على امتداد الشرق الأوسط لا يقل تأثيره ابدا عن تأثير الثورتين: الفرنسية والأمريكية في العالم لو كان لدى العراق قوى سياسية تصب اهتمامها على احترام وتكريس قواعد واحكام الحكم الديمقراطي الرشيد".

ان القوة الناعمة هي عامل مهم من عوامل قوة العراق، ومصدر هائل لم يتم استثماره في بناء الدولة وتعزيز نهوضها الحضاري، ولكنها للأسف لم تجد من يوظفها بالطريقة المناسبة، بل على العكس جرى التعامل معها بطريقة سيئة تزرع المزيد من الشقاق والانقسام السياسي والاجتماعي، وبصورة انعكست سلبا على وحدة العراقيين، وسمعتهم الإقليمية والدولية.

خلاصة القول: أن لدى العراق عوامل ضعف مزمنة، كما أن لديه عوامل قوة  حقيقية كامنة، ولا يمكن لسكانه –أيا كانوا- استعادة دورهم الحضاري، وبناء دولتهم المقتدرة الا بتحييد عوامل الضعف وإيجاد العلاجات المناسبة للخلاص منها، واستنهاض عوامل القوة واستثمارها بحدها الأقصى لتحقيق مصالحهم، وحصول ذلك سيكون المقدمة التي لابد منها لنهضة العراق الحقيقية، وهذا –قطعا- سيتطلب درجة عالية من النضج لدى الحكام والمحكومين، كما سيتطلب استعدادا تاما لتحمل الضريبة المادية والبشرية المترتبة عليه، اما ما عدا ذلك، فسيبقى مجرد ثرثرة حمقاء، وتكرارا بائسا لمسار الفشل والاخفاق.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية