صنف التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية حول الفساد في العالم، العراق ضمن الدول العشر الاكثر فسادا لعام 2016، اذ احتل التسلل 166 من مجموع 176 دولة على مستوى العالم. وبهذا حافظ العراق على موقعه ضمن المراكز العشرة الاخيرة في مؤشر الشفافية الدولية منذ العام 2006. ويرتبط مؤشر الفساد العراق بعناصر متعددة، أهمها الفساد السياسي والفساد المالي والفساد الاداري والفساد الاقتصادي، ومن امثلة هذه الصور الوصول إلى السلطة وتفشي المحسوبية وتدني الوضع المعيشي للمواطن رغم غنى البلد، وتعاطي الرشا في المؤسسات الحكومية والتفاوت الاقتصادي بين المواطنين وغيرها الظواهر التي اتسعت بعد سقوط النظام السابق عام 2003. ولا توجد دولة في العالم تخلو من شبهات الفساد والفاسدين، إلا أن هذا الواقع يُعد ظاهرة غريبة جداً في بعض الدول ويمكن السيطرة عليه، في حين يشكل ظاهرة مألوفة في دول أخرى، وتصعب السيطرة عليه، كما هو الحال في العراق.
منابع الفساد في العراق
تعد ظاهرة الفساد الاداري والمالي من الآفات التي تعيق تقدم البلد والمجتمع بأكمله وتساعد على نهب ثرواته وتكبح حركة البناء والتقدم وتحقيق الرفاهية الاقتصادية وارساء اسس العدالة والمساواة بين المواطنين. وهناك مجموعة من الاسباب التي ساهمت في توليد وتنمية مظاهر الفساد المالي والاداري والسياسي في البلد، خصوصا في السنوات العشر الاخيرة، لعل اهمها:
1- المورد النفطي : تشير الادبيات الاقتصادية المتعلقة بالاقتصاد السياسي للبلدان النفطية الى ان وفرة المورد النفطي كانت سببا رئيسا في تفشي ظواهر الفساد والمحسوبية في هذه البلدان. فقد ولد دفق الريع النفطي صراعا عنيفا على السلطة من لدن الاحزاب السياسية من اجل السيطرة على موارد البلد وامكاناته المادية والمالية. حيث تسعى الاحزاب والتيارات السياسية في الاقتصادات الريعية، وبرعاية رجال اعمال وشركات ودول، الى الوصول الى سدة الحكم عبر البذخ المادي وشراء اصوات الناخبين والتلاعب بالنتائج لأجل الاستحواذ على السلطة وموارد البلد واعادة تسديد تكاليف الحملة الانتخابية عبر اللجان الاقتصادية في هذه الاحزاب ومنح العطاءات والمقاولات للجهات الراعية واستغلال المناصب السيادية لتحقيق مصالح الحزب والداعمين له على حساب المصلحة العليا للبلد والمواطن.
2- ضعف الجهات الرقابية: رغم تعدد الجهات الرقابية في العراق بعد العام 2003 (مجلس النواب، ديوان الرقابة المالية، هيئة النزاهة، مفتشية الوزارات والدوائر الحكومية وغيرها)، الا ان العراق استمر في تسلق سلم التصنيف العالمي للفساد وبقي يتأرجح ضمن الدول العشر الاكثر فسادا في العالم. ويبدو ان خضوع هذه الجهات الرقابية للمحاصصة الحزبية والطائفية قد افرغ هذه المؤسسات من محتواها وبدد جهودها في رصد ومتابعة ملفات الفساد الكبرى في البلد لصالح خضوع حالات الفساد في مختلف وزارات الدولة ومؤسساتها الى المساومة والمناكفات السياسية.
3- البيروقراطية الادارية: على الرغم من تضمين هدف مغادرة الاجراءات البيروقراطية وتعدد الحلقات الادارية في مختلف خطط وسياسات الحكومة العراقية بوزاراتها ومؤسساتها العامة منذ العام 2003 الا انها لم تغادر الورق والتصريحات الاعلامية الا ما ندر، وقد اسهم ذلك في احكام قبضة الحلقات الادارية الفاسدة على مصالح المواطن وعرقلة السير التلقائي لها دون دفع الرشا المادية والمالية وبشكل علني في معظم الدوائر الحكومية (خصوصا في المنافذ الحدودية والهيئات العامة للضرائب).
4- تردي الوضع الاقتصادي في البلد : رغم التحسن الذي طرأ على دخول موظفي الدولة بعد العام 2003 الا ان سوء توزيع الدخل وغلاء المعيشة وازمة السكن والكهرباء دفعت بالعديد من الموظفين الى الانخراط في تعاطي الرشا والعمولات مقابل التجاوز على القوانين والاضرار بالمصالح العليا للمؤسسة او الدائرة المعنية لتحقيق ثروات غير مشروعة، خصوصا بعد ان اصبح الفساد ظاهرة عامة لا يطالها القانون بشكل حاسم.
5- انعدام الوعي وضعف الشعور بالمواطنة: ولد اتساع الطبقة السياسية الفاسدة وانعدام المصداقية والنزاهة لدى معظم الحركات والاحزاب السياسية في البلد احباطا لدى المواطن البسيط واصبحت الحكومة في نظر العديد من المواطنين لصا جشعا لم يكتفي بابتلاع موارد وامكانات الدولة وانما يحاول ايضا الاستيلاء على قوت الشعب عبر وسائل عدة ولأسباب واهية. هذا الواقع دفع بالعديد من المواطنين الى التعاون مع الموظفين الفاسدين للتهرب من دفع الضرائب او الايفاء بأجور الخدمات الحكومية كالماء والكهرباء خشية وصول هذه الاموال الى جيوب الفاسدين في نهاية المطاف.
6- ضعف القضاء والقانون: تفصح تجربة العراق السياسية عن شرخ خطير يهدد المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلد، وهو ضعف القضاء العراقي في التصدي لحيتان الفساد في الوزارات ومؤسسات الدولة والاكتفاء بمعاقبة صغار الفاسدين ومتابعة القضايا الصغيرة، نظرا لارتباط معظم القيادات العليا لوزارات ودوائر الحكومة بجهات سياسية نافذة من جهة، وضعف الجهات المنفذة للقانون والتهاون في مكافحة جرائم الفساد المالي والاداري من جهة اخرى.
7- انعدام الشفافية: اوصت العديد من المنظمات والمؤسسات الدولية الحكومة العراقية بضرورة تبني الشفافية في ادارة الوزارات والمؤسسات العامة لأجل التخلص من افة الفساد المالي والاداري والوقاية من اتساع رقعة الفساد في المستقبل. ورغم الوعود التي اطلقها العديد من كبار المسؤولين في الدولة على تبني الحكومة الالكترونية والشفافية في مختلف مؤسسات ودوائر الدولة الا ان المنجز لا زال دون مستوى الطموح ولا زال الوصول الى المعلومة ومتابعة خيوط الفساد امراً مستحيلا في العديد من مؤسسات الدولة.
سياسات مكافحة الفساد
1- حوكمة مؤسسات الدولة العراقية عبر انتهاج قواعد الحكم الرشيد وتصميم دوائر مراقبة وتقييم لخطوات الحكومة في هذا الاتجاه، ولا باس من الاستعانة بتجارب وجهود دولية من خبراء ومؤسسات من اجل رسم سياسات حوكمة ملائمة تتابع اليات التنفيذ في مختلف وزارت ودوائر الدولة وتصدر تقارير رصد وتقييم دورية لمختلف وزارات ومؤسسات الدولة.
2- تغليظ القوانين الخاصة بمكافحة الفساد ومعاقبة الفاسدين وزيادة العقوبات الموجه بحق العابثين بموارد وامكانات الدولة او التعامل بالرشا والاختلاس والمحسوبية. والتأكيد على دور اجهزة الامن والشرطة في تنفيذ العقوبات المقرة قضائيا بحق مختلف العناوين الادارية والوظيفية المتهمة بالفساد وهدر المال العام.
3- اعادة النظر بالحصانة الوظيفية التي يمارسها رؤساء الدوائر في حماية موظفيهم من المحاسبة حيث يبالغ هؤلاء في توفير الحماية لموظفيهم مما يجعل ذلك حجر عثرة في الجهود الرامية لمكافحة الفساد. فالحصانة الوظيفية ضرورة لتوفير الحماية القانونية للموظفين من الدعاوي الكيدية المرفوعة ضدهم على ان لا يتم استغلال ذلك في حماية المفسدين من الموظفين. ولا بد ان يتحقق التوازن بين ضرورة خضوع الموظفين لسيادة القانون ومسائلتهم عن الجرائم التي يرتكبونها كالرشا والاختلاس، وبين ضرورة توفير الحماية للموظفين النزيهين من الدعاوي الكيدية.
4- استخدام الاعلام في بناء ثقافة النزاهة وتشكيل القيم والعادات من خلال تخصيص برامج ثابتة في الاذاعة والتلفزيون تهتم بمعالجة هذه المشكلة بوسائل مختلفة تشمل الندوات والاعلانات والتحقيقات مع المتهمين وغيرها من البرامج الهادفة الى تطويق هذه الافة والتعريف بمصير مرتكبيها.
5- إصلاح كافة المؤسسات الحكومية من خلال تطوير هياكلها وتحديث اساليب العمل فيها واعتماد الشفافية والطرق الالكترونية الحديثة في انجاز معاملات المواطن. فضلا على إتباع الوسائل العلمية المتقدمة لحفظ الوثائق والسندات في أقراص مضغوطة واستحداث شعب خاصة في المؤسسات الحكومية لحفظ جميع البيانات والمستمسكات وكما معمول به في مخلف بلدان العالم.
6- تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في مكافحة الفساد من خلال ترسيخ مفاهيم الاستقامة والنزاهة والانضباط السلوكي، سواء في المجال الوظيفي العام أو الخاص وفي مجال السلوك الاجتماعي. فالمجتمع المدني اضحى مشاركاً في ادارة الدولة ورسم سياساتها ويلعب دوراً في عملية صياغة القرارات وسن التشريعات ويتحمل مسؤولية تصحيح مسارات الدولة ومنها مكافحة الغش والفساد الاداري والمالي من خلال الرقابة والتوجيه والاحتجاج.
7- تفعيل دور مجلس النواب كجهة رقابية عليا من خلال متابعة شبهات الفساد بعيدا عن الاستهداف السياسي والمذهبي.
8- تفعيل العمل باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تمت الموافقة على انضمام العراق إليها، ومحاولة الاستعانة بتجارب دول مماثلة استطاعت تحجيم مظاهر الفساد وتقليص نفوذه السياسي.
9- ابعاد المناصب العليا في البلد عن المحاصصة والمحسوبية واختيار شريحة مختصة من التكنوقراط لإدارة المفاصل الادارية العليا في البلد.