من المعروف إن الإسلام منهج حياتي متكامل يشمل كل ما يحتاجه الإنسان معنوياً ومادياً، ليرتقي به في كل مجالات الحياة، على نحو يحقق له السعادة دنيوياً وآخروياً، إذ هو لا يقتصر على الحياة الآخروية والاهتمام بالقضايا الإعتقادية والعبادية دون غيرها فحسب، كما يعتقد البعض حتى من رجالات الدين من خلال الزهد وترك الدنيا والإنعزال في المساجد! بل يهتم بالحياة الدنيا على نحو كبير جداً، وعلى أساس إنها هدف طريق لا هدف غاية، حيث تشير الكثير من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية وأقول الأئمة عليهم السلام، على ان الحياة مزرعة الآخرة ودار عمل بلا حساب والتفكير في النهاية لإصلاح البداية...إلخ.
واحد مجالات الحياة التي يهتم بها الإسلام هو الاقتصاد، حيث يهتم الاقتصاد في كيفية إشباع الحاجات الإنسانية المتزايدة من خلال إدارة الموارد الاقتصادية بالشكل الأمثل الذي لا يؤدي إلى إسراف ولا تقتير، فالاقتصاد هو فضيلة بين رذيلتين ، كما يشير علم الأخلاق، بين الإسراف والتقتير، إذ الإسراف والإنفاق الترفي يؤدي إلى هدر الموارد الاقتصادية على حساب الأجيال القادمة والإضرار بحياتها كنتيجة لقلة الموارد والسبب تم استنزافها من قبل الأجيال الحالية، وعلاوةً على ذلك إن الاسراف يؤثر على الاجيال الحالية أيضاً بسبب مخلفات الانتاج كتلوث البيئة والمناخ مثلاً، كما إن التقتير والبخل الذي يعني ضغط الإنفاق أكثر مما ينبغي وهذا ما يضر بمتطلبات الأجيال الحالية.
الزكاة في القرآن وأثرها
والزكاة هي أحد الأدوات المالية الرئيسة التي يستخدمها الإسلام في الاقتصاد، لتلبية متطلبات المجتمع الواقع تحت حكم الإسلام، والوصول به إلى الاستقرار والسعادة الدنيوية ومن شاء السعادة الآخروية أيضاً!ّ لان الإسلام لم يقم على الإكراه والإجبار على السعادة الآخروية. والشواهد كثيرة بهذا الخصوص لكن سنقتصر على واحدة، حيث يقول القرآن الكريم في سورة البقرة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (256).
وما يدل على إن الاسلام يحقق السعادة الدنيوية والآخروية الآية التي تشير إلى الزكاة بشكل صريح وتشير إيضاً إن اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم من العذاب أي انهم في أمن وآمان، في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (277) وإن نتيجة المزكي ان الله معه وسيدخله في الحياة الأخرى جنات تجري من تحتها الأنهار، في سورة المائدة (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12).
فالإسلام يحث على الزكاة كونها من الأمور المهمة التي تسير العباد والبلاد، إذ تؤدي إلى شيوع أواصر التكافل والتضامن الاجتماعي، وهذا ما يزيد من تماسك افراد المجتمع فيما بينهم وانعكاس هذا التماسك على كافة الأنظمة إلى يتبناها، سواء السياسي او الاقتصادي أو غيرها، وهذا ما ينعكس على فرض هيبته أمام الدول والمجتمعات الأخرى التي تروم إخضاعه لأجندتها ومصالحها، لكن ليس من باب فرض الإرادات عليهم بقدر ما يتمثل في بناء وتحصين الداخل أمام تلك الدول والمجتمعات.
و في ظل غياب الزكاة وإهمال الشرائح الاجتماعية التي تستهدفهم، سيترتب عليه تدهور التماسك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لان غياب الزكاة تعني زيادة الفقر والتفكك الاجتماعي والتفاوت الطبقي والصراعات الداخلية للحصول على ما يلبي الاحتياجات، فضلاً عن الجانب النفسي الذي يدفع إلى الحسد والبغض وحتى القتل فتشيع الفوضى والفساد، وانهيار المصدات الداخلية فتنخفض قوته وهيبته أمام العالم الخارجي ويصبح ضعيفاً وغير قادر على تلبية متطلباته فيركع للدول والمجتمعات التي تروم إخضاعه لمصالحها ومخططاتها.
هل الإسلام يحبذ القوة؟
الاسلام دائما ما يحبذ القوة لمعتنقيه افرادا ودول ومجتمعات، حيث جاء في الخبر المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ، لكن ليس على حساب إضعاف الآخرين بقدر ما يريد الدفاع عن نفسه ومعتنقيه وحفظ حقوقهم من كل ظالم معتد، فالزكاة تجعل من الاقتصاد في ظل حكم الإسلام اقتصاداً قوياً مزدهراً، لا يمكن التأثير عليه، ليس هذا فحسب بل ان تفعيل مسألة الزكاة لها انعكاسات على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي والدولي لأنها تؤدي إلى إنهاء نقاط الضعف التي تعتريه، فالمجتمع المسلم الذي يدفع الزكاة من قناعة وإيمان وشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، تراه مجتمع مستقر نفسياً متماسك اجتماعياً يفرز نظاماً سياسياً يلبي متطلباته وتطلعاته حالاً ومستقبلاً، وهكذا مجتمع يفرض نفسه دولياً وغير خاضع وتابع، بل ان العالم يدير وجهه إليه وينظر إلى ما يفعله ويطبقه مبادئه حتى يقتفي أثره.
فلو فرضنا إن الزكاة تم توزيعها على مستحقيها التي سيرد ذكرهم لاحقاً، وحصل فائض بعد التوزيع، إلى أين سيتجه الفائض؟ فمادام الإسلام يحرم الاكتناز، سيتجه الفائض إلى الإنتاج والتصدير للخارج وبأسعار معقولة لانه لا يهدف إلى تحقيق القوة من خلال الاحتكار وظلم الآخرين، لان هذا الأخير أصلاً محرم في الإسلام، بل ويهدف إلى زيادة رفاهية الآخرين أين ما حلوا ولكن ليس حساب أنفسهم، فمثلاً تراه يحرم الخمر على سبيل المثال لان مضّاره أكثر من منافعه.
ويهدف إلى تحقيق القوة اقتصادياً من خلال تحقيق الإكتفاء الذاتي وعدم الخضوع للآخرين والتحكم بحق تقرير المصير، حيث يقول أمير المؤمنين" إحتج إلى من شئت تكن أسيرة" فتحقيق الإكتفاء الذاتي من خلال الاعتماد على النفس ووضع الخطط اللازمة لاستثمار الموارد الاقتصادية وتوجيهيها الوجه السليمة، هذا ما يزيد فاعلية وقوة الإسلام لمعتنقيه، وهذا يزيد من شعبية الإسلام رغبة وطموحاً لا رهبةً وخوفاً، بل والتعمق في التعرف عليه، ويتحقق أخيراً السلام والآمان في العالم، لان الفقر والاحتياج يدفع بالإنسان لعمل أي شيء للحصول على لقمة العيش، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام " لو كان الفقر رجلاً لقتلته" لانه يعلم كل العلم بآثاره السلبية التي يتركها.
الشرائح الاجتماعية المستفيدة من الزكاة
فالإسلام عالج مسألة الاحتياج بعدة وسائل مالية ومن أبرزها الزكاة ووضح تفاصيلها في كتب الفقه لدى أصحاب الاختصاص، من شرائطها وأنواعها ونسبها وأوقات استخراجها وغيرها. وما يهمنا في هذا المقال هو ما تستهدفه الزكاة من شرائح اجتماعية ذكرتهم الآية القرآنية
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة:60 . ويمكن توضيح تلك الشرائح بإيجاز من خلال اللجوء الى كتب الاختصاص وكما يأتي:
الأول والثاني: الفقير والمسكين
وكلاهما من لا يملك مؤونة سنته اللائقة بحاله له ولعياله، والثاني أسوء حالاً من الأول كمن لا يملك قوته اليومي، والغني بخلافهما فإنه يملك مؤونة سنت إمّا فعلاً- نقد أو جنساً- ى ويتحقق ذلك بأن يكون له مال في هو أو وارده بمؤونته ومؤونة عياله، أو قوة بأن يكون له حرفة أو صنعة يحصل منها مقدار المؤنة، وإذا كان قادراً على الاكتساب وتركه تكاسلاً، لم يجز له أخذ الزكاة، وإذا خرج وقت التكسب جاز له الأخذ.
الثالث: العاملون عليها
وهم المنصوبون لأخذ الزكاة وضبطها وحسابها وإيصالها إلى الإمام عليه السلام أو نائبه، أو إلى مستحقيها.
الرابع: المؤلفة قلوبهم.
وهم المسلمون الذين يضعف اعتقادهم بالمعارف الدينية فيعطون من الزكاة ليحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم، أو لا يدينون بالولاية فيعطون من الزكاة ليرغبوا فيها ويثبتوا عليها، أو الكفار الذين يوجب إعطاؤهم الزكاة لميلهم إلى الإسلام، أو معاونة المسلمين في الدفاع أو الجهاد مع الكفار أو يؤمن بذلك من شرهم وفتنتهم.
الخامس: الرقاب.
وهم الأرقاء المكاتبون من أجل التعجيل في حصولهم على حريتهم نظير قدر من المال.
السادس: الغارمون.
وهم الذين ركبتهم الديون وعجزوا عن أدائها، وان كانوا مالكين قوت سنتهم، بشرط أن لا يكون الدين مصروفاً في المعصية.
السابع: وفي سبيل الله.
ويُقصد به المصالح العامة للمسلمين كتعبيد الطرق وبناء الجسور والمستشفيات والمدارس الدينية والمساجد وملاجئ الفقراء ونشر الكتب الإسلامية المفيدة وغير ذلك مما يحتاج إليه المسلمون.
الثامن: إبن السبيل.
وهو المسافر الذي نفدت او تلفت نفقته، بحيث لا يقدر على الرجوع إلى بلده وإن كان غنياً فيه، فيُدفع له ما يكفيه لذلك، بشرط أن لا يكون سفره في معصية، وأن لا يجد ما يمكنه بيعه وصرف ثمنه في الوصول إلى بلده، وأن لا يتمكن من الإستدانة بغير حرج.
وما دام الزكاة هي من الصدقات الواجبة، فهي تعمل على تلبية متطلبات هذه الشرائح فهي تصب في خدمة الاقتصادي الاسلامي الذي يهدف إلى إشباع الحاجات الانسانية المشروعة. وان تلبية متطلبات هذه الشرائح الاجتماعية سيسهم في تخفيف الكفاف لهذه الفئات الفقيرة والحد من الفجوة الاجتماعية مما تعجز عنه موازنة الدولة، وحتى لا يصير المال حكراً على الأغنياء، حيث يقول القرآن الكريم(كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) سورة الحشر: 7 .