يختلف دور الدولة في جميع بلدان العالم من بلد لآخر تبعاً لفلسفة النظام المتبع فيه ومهما كبر او صغر دور الدولة فان له اهمية كبيرة في حياة المجتمعات ، فعندما يكون دورها هو حفظ الامن الداخلي والدفاع الخارجي وتحقيق العدالة بين الافراد وتقديم الخدمات العامة ، فان هذا دور ذو اهمية لجميع الافراد لكن لم تتدخل في المجال الاقتصادي، فيكون دورها هو الحراسة ولذلك تسمى في بعض الاحيان بـ "الدولة الحارسة" . لكن في حال تدخلها في الحياة الاقتصادية والدخول في معترك النشاط الاقتصادي وامتلاك وسائل الانتاج وغيرها، عندئذ يطلق عليها "الدولة الانتاجية، الانمائية، التنموية".
في العراق والدول النفطية نلاحظ ان دور الدولة يختلف عن الادوار الممكن ان تتخذ، اي انها سلكت وظيفة اخرى ويسميها البعض دولة رصد التخصيصات اي تخصيص الايرادات التي تحصل عليها نتيجة تصدير الموارد الطبيعية الى الخارج، عبر قناة الانفاق بشقيه الاستثماري وخصوصاً التشغيلي(الاستهلاك)، دون الاهتمام بالأنشطة الاقتصادية الاخرى التي تمارس دوراً بل تعد اساس قوة الاقتصاد عند تفعيلها بشكل حقيقي. هذا ما يؤثر على اداء النشاط الاقتصادي وسيبقى هذا التأثير مالم تتخذ الاجراءات الكفيلة بمعالجة هذا الوضع.
يلاصق دولة رصد التخصيصات عدة مشاكل من اهما : ان الموارد الطبيعية هي ثروة وطنية ينبغي ان تكون لجميع المواطنين الحاليين واللاحقيين. لكن الذي يحصل في العراق واغلب الدول النفطية، هو ان الثروة الوطنية يستأثر بها الموظفون فقط، كيف؟ بما ان الدولة تعتمد على المورد الطبيعي بشكل كبير جداً وان نسبة الانفاق الاستهلاكي المتمثل بالأجور والرواتب والمشتريات الحكومية اللازمة لسير اداء الحكومة، هي النسبة الاكبر من حجم الانفاق العام التي تتراوح ما بين 90-98% مع بقاء نسبة الانفاق الاستثماري هي الاقل والتي تتراوح ما بين 10-2%، ان لم تنخفض بفعل انخفاض اسعار الموارد الطبيعية التي تتحدد بفعل عوامل خارجية لا تستطيع الدولة التحكم بها، هذا ما يعني ان هناك خلل كبير في ادارة وتوزيع الثروة الوطنية ليس بين الاجيال الحالية والمقبلة فحسب بل بين الاجيال الحالية عندما يحصل عليها الموظفون في القطاع العام دون المواطنين الاخرين الذين لهم الحق فيها لأنها ثروة وطنية وللجميع.
كما ان الاعتماد على الموارد الطبيعية يؤدي الى اصابة الاقتصاد الوطني بالمرض الهولندي، الذي يشير الى الآثار الغير مرغوب بها على القطاعات الانتاجية وخصوصاً القطاع الصناعي نتيجة اكتشاف الموارد الطبيعية، وسُميَّ بهذا الاسم نسبة الى حالة من الكسل والتراخي الوظيفي التي اصابت الشعب الهولندي في النصف الاول من القرن الماضي 1900-1950، بعد اكتشاف الغاز في بحر الشمال، حيث هجع للترف والاتفاق الاستهلاكي، لكنه دفع الضريبة بعد ان افاق على حقيقة نضوب الآبار التي استنزفها باستهلاكه غير المنتج. ظهر هذا المرض كنتيجة للدور الذي سلكته الدولة الهولندية وهو التخصيص ثم التوزيع عبر الانفاق وخاصة الاستهلاكي، دون الاهتمام بالجانب الاستثماري لأجل تفعيل القطاعات الانتاجية الاخرى، مع صرف النظر عن مدى استمرار اهمية النفط.
من اهم الاثار التي يتركها المرض الهولندي على الاقتصاد بالنسبة للبلد الذي يصاب بهذا المرض، البطالة، اذ ان من المعروف ان الصناعات النفطية الاستخراجية هي صناعات كثيفة راس المال وبالتالي فهي لا تحتاج الى ايدي عاملة إلا بقدر محدود على ان تكون ذات خبرات ومهارات عالية، وفي حالة عدم توفرها في الداخل سيلجأ البلد الى الاستعانة بالخبرات الاجنبية وهذا يؤدي الى تحويل العملات الاجنبية الى الخارج (هدر الثروة). وما دامت اغلب الايدي العاملة هي غير ماهرة وتفتقر الى الخبرات والمهارات، هذا ما يعني ان اغلبها ستتعطل عن العمل وتدخل دائرة البطالة، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى، ان ارتفاع اجور العاملين في قطاع الصناعات الاستخراجية سيجعل الافراد العاملين في القطاعات الاخرى ينتقلون الى هذا القطاع رغبةً في الاجور المرتفعة التي يحصل عليها العاملون في الصناعات الاستخراجية.
ومن ناحية ثالثة، فيما اذا كانت الادارة للثروة النفطية ادارة سيئة، وعملت على زيادة الانفاق بغض النظر عن نوعيته، فان تلك الزيادة تؤدي الى مزيد من الطلب على السلع، وعندما يكون الجهاز الانتاجي غير مرن الذي يعني عدم استجابة الجهاز الانتاجي للطلب المتزايد، يؤدي الطلب على السلع زيادة الطلب على العملة الاجنبية لتمويل الاستيراد، وهذا ما يعني انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل ارتفاع قيمة العملة الاجنبية، وبما ان هناك علاقة عكسية بين قيمة النقد والمستوى العام للأسعار ، فان انخفاض قيمة العملة المحلية يعني ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهذا ما يؤثر على المنتجات المحلية من خلال ارتفاع تكاليف انتاجها وهذا ما يدفع الى تسريح بعض الايدي العملة لتخفيض التكاليف.
وعلى الرغم من استمرار انخفاض اسعار النفط في عام 2016 إلا ان نسبة الايرادات النفطية لا تزال مرتفعة حيث شكلت 85.18% من الايرادات العامة، هذا ما يعني ان الدولة لا تمتلك تنوع في الايرادات ، ويدلل على ان دور الدولة هو رصد التخصيصات، وما يؤكد ذلك هو نسبة النفقات الجارية الى النفقات العامة وكذا الحال بالنسبة للنفقات الاستثمارية، حيث شكلت النفقات الجارية ما يُقارب 76%من النفقات العامة، في حين لم تبلغ النفقات الاستثمارية سوى 24% من النفقات العامة، علماً ان هذه النسبة بالغالب لم يتم تنفيذها بشكل فعّال بسبب التلكؤ وضعف الجهاز التنفيذي وتفشي الفساد وعدم الاستقرار السياسي والامني بفعل سيطرة داعش الارهابي على ما يقارب ثلث ارض العراق.
كما يمكن ملاحظة دور الدولة في العراق والمتمثل برصد التخصيصات من خلال وجهة النفقات الاستثمارية اي هل تم انفاقها نحو المشاريع ذات الموارد التي تتسم بالتنوع والتجدد وذات الحيوية التي تخدم الاقتصاد العراقي أم تم توجيهها نحو القطاعات التي يمكن ان تساهم بشكل سريع في توفير الاموال لتغذية التخصيصات التي تتبعها الدولة كمنهجاً لها ؟. شكلت النفقات الاستثمارية الموجهة نحو وزارة النفط في موازنة 2016 اكثر من 57% من اجمالي النفقات الاستثمارية. في حين استأثرت القطاعات الاخرى جميعها بـ 43% من النفقات الاستثمارية، وهذا ما يزيد من المشاكل الاقتصادية الاجتماعية، إذ لم تتجاوز نسبة التخصيصات الاستثمارية الموجهة للقطاع الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي، 0.5% من اجمالي النفقات الاستثمارية، وبالتحديد كانت 0.23% من اجمالي النفقات الاستثمارية، وكذا الحال بالنسبة للقطاع الصناعي حيث شكلت التخصيصات الاستثمارية الموجهة اليه 0.19% من اجمالي النفقات الاستثمارية، هذين القطاعين يُعدَّان من اكثر القطاعات انتاجية وحيوية ولهما دور كبير في انتشال الاقتصاد من مشاكله التي يعاني منها في حال تفعيلهما. إلا ان الدولة في العراق لم تزيد الاهتمام بهما وما يوضح هذا، النسب المُشار اليها اعلاه ، لذا ظل العراق يعاني من مشاكل اقتصادية كثيرة من بطالة وانخفاض الصادرات وزيادة الاستيرادات وهروب العملة الاجنبية وزيادة النفقات التشغيلية على حساب النفقات الاستثمارية وانخفاض النمو الاقتصادي وغيرها.
وحتى في ظل اهتمام الدولة بالقطاع النفطي من خلال توجيه 57% من اجمالي النفقات الاستثمارية، إلا ان هذا الاهتمام لم يعطي ثماره بالشكل المرغوب والمخطط له لحد الآن، وحتى لو اعطى ثماره بالشكل المرغوب والمخطط له لا يمكن استمرار الاعتماد عليه وذلك لأسباب تتعلق بسلعة النفط من حيث نضوبها وتذبذب اسعارها وعدم السيطرة على اسعارها محلياً لأنها سلعة دولية فهي تخضع لمحددات دولية وليس محلية. فتجعل الاقتصاد المُعتمد عليها اقتصاد تابع للعالم الخارجي المتحكم بأسعار النفط وهذا ما يجعل الاقتصاد المحلي رهنية التغيرات الدولية التي تؤثر على النفط سواء كانت بشكل مخطط او غير مخطط .
في حين شكلت النفقات الاستثمارية المخصصة للأعمار والاسكان والبلديات العامة 0.80% من اجمالي النفقات الاستثمارية ولا يزال العراق يعاني من نقص في الوحدات السكنية الذي يبلغ ما يُقارب مليون وحدة سكنية. اما بالنسبة لقطاع الكهرباء فكان اقل وطأه من حيث نسب النفقات الاستثمارية حيث شكلت 4.60% من اجمالي النفقات الاستثمارية، ومع هذه الافضلية إلا ان العراق لا يزال يستورد الكهرباء من الدول الجوار، حيث تشير بعض المصادر الى ان العراق يستورد حاليا ما يُقارب 1000 ميكاواط كهرباء من إيران تغذى أربعة محافظات، ويستورد 415 ميغاواط من تركيا، بواسطة بارجات لإنتاج الطاقة، راسية قرب مدينة البصرة، ويمكن ارجاع ذلك القصور الى التلكؤ في الجهاز التنفيذي من ناحية والفساد المالي والاداري من ناحية اخرى.
نستنتج مما تقدم، ومن خلال جانبين الاول الخاص بالموازنة العامة المتمثل بارتفاع نسب الايرادات النفطية مقارنة بالإيرادات الاخرى وخصوصاً الضريبة من ناحية وارتفاع النفقات الجارية(التشغيلية) مقارنة بالنفقات الاستثمارية(الرأسمالية) من ناحية اخرى. والجانب الثاني الخاص بالتخصيصات الاستثمارية المتمثل بانخفاض نسب الاستثمار المخصصة للقطاعين الزراعي والصناعي مع ارتفاع تلك النسبة للقطاع النفطي من اجمالي النفقات الاستثمارية، ان دور الدولة في العراق لا يعكس سوى الدور التوزيعي للدولة دون الاهتمام بالدور التنموي المتمثل بزيادة الاهتمام بالقطاعين الزراعي الصناعي من خلال زيادة نسب الاستثمار فيهما من اجمالي النفقات الاستثمارية.
ورُب قائل يقول، ان الدولة تفسح المجال للقطاع الخاص لقيادة الدور التنموي وبالتالي يكون دورها دور توزيعي، فلماذا تُطالب بالدور التنموي؟ الدولة تمسك بالدور التوزيعي على وفق اهوائها والدليل تعطي الثروة النفطية للموظفين في الدولة دون المواطنين هذا من ناحية ، وعدم تبنيها للدور التنموي بل وتمنع قيادته من قبل القطاع الخاص من ناحية اخرى، والدليل هناك الكثير من المعوقات التي تعرقل سير القطاع الخاص لقيادة الاقتصاد العراقي، التي لم تعمل على ايجاد الحلول لها، ومن اهمها العقلية الريعية للقطاعين العام والخاص، البيروقراطية، صعوبة الاجراءات، عدم توفر البنى التحتية …إلخ، ويمكن اجمال تلك المعوقات بغياب المناخ الاستثماري الجاذب والمحفز للاستثمار المحلي والاجنبي.
الحل، هو تحسين المناخ الاستثماري ومحاربة الفساد بكافة اشكاله وانواعه وتوفير البنى التحتية وتبسيط الاجراءات لتسهيل مهمة قيادة القطاع الخاص للدور التنموي مع بقاء الثروات الوطنية ذات الطابع الاستراتيجي بيد الدولة لتمارس دورها التوزيعي بالشكل العام والعادل بين جميع المواطنين، وزيادة نسب النفقات الاستثمارية الموجهة للقطاع الزراعي والصناعي والاعمار والبناء والاعمار والكهرباء لمعالجة مشكلة زيادة الاستيرادات من السلع الغذائية والصناعية والحفاظ على العملة الاجنبية وتقليل عجز الموازنة العامة وكذلك تقليل عجز الوحدات السكنية وتوفير الطاقة الكهربائية لمنع استيرادها من الخارج مع العلم ان العراق لديه مقومات اغلب مصادر انتاج الطاقة الكهربائية.
وما تجب الاشارة اليه هو ضرورة ان يكون هناك توائم وتنسيق ما بين القطاع العام والقطاع الخاص لمنع التضارب الذي يمكن ان يؤدي الى تثبيط انتاجية كل منهما في حال وقوعه وهذا ما يزيد من تعقيد المشكلة أكثر مما يسهم في حلها، اي ينبغي ان تكون حقوق وواجبت كل قطاع على أبين صورة وكل ما له وما عليه.