لا يختلف اثنان بان خفض قيمة الدينار قلص الدخل الحقيقي للمواطن العراقي، وتضررت بشكل كبير الطبقات الفقيرة نظرا لانخفاض دخولها اصلا... لكن هل كانت تلك الطبقات مرفهة قبل خفض سعر الصرف؟ الجواب ان مشكلة الفقر في العراق نتيجة لضعف سياسات توزيع الثروة الوطنية واستئثار قلة على موارد البلد بشكل مشروع وغير مشروع
توسع النقاش مؤخراً حول اسباب وتداعيات تخفيض سعر صرف الدينار نهاية كانون الاول عام 2020، خصوصا مع دعوات سياسية لإعادة سعر الصرف الى مستواه السابق، وتصحيح سياسة خفض سعر صرف الدينار. وقد اسهم الاعلام وتصريحات غير مسؤولة لبعض الجهات الى ترجيح فرضية اعادة سعر الصرف لمستواه السابق، نتيجة تحسن ايرادات النفط من جهة، وزخم الضغط السياسي من جهة اخرى. واستجابت اسواق الصرف قليلا لتلك التوقعات وتراجع سعر صرف الدولار في الاسواق الى قرابة (1400) دينار للدولار، فيما انخفضت مبيعات البنك المركزي من قرابة (200) مليون دولار الى (33) مليون دولار مطلع الاسبوع الجاري. في هذا السياق يمكن مناقشة خمسة اسئلة متكررة حول موضوع سعر صرف الدينار وكما يلي:
السؤال الاول : لماذا تم خفض سعر صرف الدينار في كانون الاول عام 2020؟
- عام 2020 واجه العراق ازمة مزدوجة (صحية / تفشي وباء كورونا) و (اقتصادية / انهيار اسعار النفط وركود الاقتصاد المحلي نتيجة الاغلاق الذي ترتب على القيود الصحية آنذاك)
- تراجعت الايرادات النفطية للعراق بشكل حاد جراء ضعف الطلب العالمي على النفط. ففي شهر نيسان 2020 تراجعت اسعار النفط الى دون (20) دولار للبرميل وانخفضت الإيرادات النفطية الى اقل من (1.4 ) مليار دولار بعدما كانت في كانون الثاني، من نفس العام، اكثر من (6) مليار دولار، اي تقلصت الايرادات النفطية الى دون الربع.
- اضطرت الحكومة الى الاقتراض الداخلي بقرابة (27) ترليون دينار من البنك المركزي، بشكل غير مباشر، عبر خصم حوالات الخزانة المباعة للمصارف من أجل تمويل العجز المالي الناتج عن ضخامة النفقات الحكومية وتراجع الايرادات النفطية بشكل حاد.
- الاقتراض الداخلي رفع الكتلة النقدية من (52) ترليون دينار نهاية عام 2019 الى اكثر من (66) ترليون دينار عام 2020، مما زاد من الطلب على الدولار وقلص الاحتياطي الاجنبي بشكل سريع، نتيجة تراجع اقيام الصادرات النفطية من جهة وارتفاع الطلب على الدولار في السوق المحلية من جهة اخرى.
وبالتالي وفر تخفيض سعر صرف الدينار فرصة لتعظيم الايرادات النفطية بالدينار وتقليص عجز الموازنة العامة من جهة، وفرصة اخرى لتقليص مبيعات الدولار والحفاظ على الاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي لمدة اطول، اذا ما استمرت تداعيات جائحة كورونا وبقيت اسعار النفط دون (50) دولار للبرميل، من جهة اخرى.
السؤال الثاني/ هل كان الاحتياطي الاجنبي في خطر ؟
- تراجعت الدولارات النفطية المباعة الى البنك المركزي بشكل حاد نتيجة تراجع الصادرات النفطية التي انخفضت بسبب تراجع الاسعار وانخفاض الكميات المصدرة نتيجة قيود تحالف (اوبك+) الذي حدد حصص الدول الاعضاء، لضبط المعروض النفطي والحد من تراجع الاسعار. (مثلا في شهر نيسان 2020 تراجعت الايرادات النفطية الى اقل من الربع مقارنة بكانون الاول من نفس العام) .
- ارتفاع الكتلة النقدية من (52) ترليون دينار عام 2019 الى (66) ترليون دينار عام 2020 نتيجة الاقتراض الداخلي زاد من الطلب على الدولار في مزاد العملة الاجنبية.
- زخم توقعات المصارف ورجال الاعمال والجمهور بانخفاض قادم في قيمة الدينار نتيجة تراجع الايرادات النفطية ضاعف من عمليات بيع الدينار واستبداله بالدولار كمخزن للقيمة، مما زاد من معدلات الطلب على الدولار.
كل هذه العوامل ضاعفت من مخاطر الاستنزاف السريع لاحتياطي البنك اذا ما استمرت اسعار النفط بالهبوط.
السؤال الثالث / ما هي البدائل المتاحة لتعويض تراجع الايرادات النفطية عام 2020؟
لا يمتلك العراق وفرة من الخيارات لمواجهة صدمات اسعار النفط نتيجة انكشاف الموازنة والاقتصاد على الايرادات النفطية بشكل كبير وضعف الجهود الحكومية في تنويع القاعدة الانتاجية والتصديرية للبلد، فضلا على تبديد جزء مهم من الايرادات النفطية في ابواب هدر وفساد ضيعت فرصة مراكمة حيز مالي يستخدم لامتصاص الصدمات النفطية كما هو الحال في العديد من البلدان النفطية. وبالتالي كانت المصادر المتوفرة لتقليص العجز المالي الناجم عن التراجع الحاد في الايرادات النفطية تنحصر في:
- اتباع وزارة المالية سياسة مالية تقشفية قائمة على تقليص النفقات العامة، خصوصا بند الرواتب، و/ او رفع معدلات الضريبة بمختلف انواعها، اضافة الى رفع الدعم عن الوقود وبعض السلع الاساسية. لكن هذا السياسة مرجح ان تواجه مقاومة اجتماعية كبيرة، خصوصا مع تصاعد موجة الاحتجاجات التي شهدها البلد اواخر العام 2019 احتجاجا على الاوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفساد المستشري في مختلف المؤسسات الحكومية في العراق.
- اللجوء الى الاقتراض العام ، وخصوصا الداخلي، وقد تم اعتماده في ازمات متعددة منها الازمة المزدوجة عام 2014 وازمة كورونا عام 2020 حين اقترضت الحكومة قرابة (27) ترليون دينار لدفع الرواتب وتغطية بعض النفقات العامة. لكنه اجراء غير مستدام نظرا لان المشكلة في قيد العملة الاجنبية ..... اذا يؤدي الاستمرار في الاعتماد على الاقتراض الداخلي الى استنزاف الاحتياطي الاجنبي اذا ما استمرت معدلات الصادرات النفطية بالتراجع .
- تخفيض قيمة الدينار، خصوصا وان الدينار مقيم بأكثر من قيمته الحقيقية. وفي الحقيقة لم يكن تخفيض اصيل لسعر صرف الدينار بل عودة لأسعار الصرف عام 2003 اذ كان سعر صرف الدينار قرابة (1500) مقابل الدولار.
وقد تم اختيار البديل الثالث (تغيير سعر الصرف) لمجموعة من الاسباب منها فورية، كتقليص العجز عبر توفير قرابة (15) ترليون دينار للموازنة، نظرا لتعظيم الايرادات النفطية بالدينار حين تباع دولارات الحكومة الى البنك المركزي بـ (1450) بدلا من (1192). وايضا لتقليص مبيعات الدولار الى الاسواق المحلية والحفاظ على الاحتياطي الاجنبي لمدة اطول.
السؤال الرابع / هل كان قرار خفض سعر صرف الدينار سليم؟
حقيقة الامر فان اتخاذ القرار لم يكن سليما من حيث التوقيت والمقدار، بل كان متأخرا، نظرا لتعدد الصدمات التي واجهت العراق عام 2020.. لكن حراجة الوضع المالي وعدم قدرة الحكومة على تسديد الرواتب وتناسل موجات جائحة كورنا ..كلها عوامل عجلت باتخاذ القرار الصعب. وقد تم الاتفاق على قرار نخض سعر صرف الدينار في اجتماع جمع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مع رؤساء الكتل السياسية يوم 8 كانون الاول 2020 وتم اختيار خفض سعر صرف الدينار العراقي لمواجهة الازمة المالية بدلا من خفض الرواتب ورفع الضرائب والغاء الدعم الحكومي. مع ذلك، يلاحظ استيعاب الاقتصاد والاسواق الصدمة بشكل افضل من المتوقع، اذ ساعد ثبات أسعار الوقود والكهرباء على خفض معدل التضخم في العراق.
السؤال الخامس / هل هناك مبررات لرفع قيمة الدينار من جديد ؟
راجت منذ مدة العديد من الآراء غير المدروسة لإعادة سعر صرف الدينار الى مستواه السابق (1200) دينار نظرا لانتعاش الايرادات النفطية وانتفاء الحاجة للخفض السابق لسعر صرف الدينار وغيرها من الحجج نستعرضها ادناه مع التحليل.
الحجة الاولى: مكافحة التضخم
نهاية عام 2020 تغير سعر الصرف إلى (1450) دينار مقابل الدولار، بزيادة قدرها (21.6%) عن السعر الرسمي السابق (1192) دينار للدولار. على اثر ذلك ارتفعت مستويات الاسعار وفقا للرقم القياسي المحسوب في ايلول 2021 بنسبة (7.3%) عن أيلول 2020، وهي زيادة واطئة مقارنة بتغير سعر الصرف وتدل على ميل الاقتصاد العراقي نحو الاستقرار السعري. واما عن ارتفاع بعض اسعار السلع بشكل مضاعف فيعود الى جملة من العوامل منها:
- ضعف الرقابة الحكومية لحركة الاسواق المحلية وغياب العقوبات الرادعة بحق التجار والمتلاعبين بالأسعار في مختلف الاسواق.
- ارتفاع اسعار السلع نتيجة تزايد تكاليف الانتاج العالمية ما بعد جائحة كورونا.
- انهيار سلاسل التوريد بسبب الاغلاق الكبير الذي شهده العالم عام 2020، وارتفاع كلف الشحن بشكل كبير.
- ارتفاع اسعار العديد من السلع الاولية وخصوصا النفط والنحاس وغيرها بسبب توقف الاستثمار نتيجة قيود العمل والتوقعات المترتبة على جائحة كورونا.
الحجة الثانية: دعم النمو الاقتصادي
وهذه حجة غريبة إذ المعروف، والمتفق عليه، أن رفع قيمة العملة الوطنية لا تساعد في النمو الاقتصادي أبدا لأنها تنطوي على خفض القدرة التنافسية الدولية. أما تخفيض قيمة العملة الوطنية فهذه سياسة مألوفة وقد زاولتها العديد من الدول، وهي مشروطة بحزمة من الاجراءات لكي تنجح في الواقع (1).
الحجة الثالثة: تحسين مستوى معيشة الفقراء
لا يختلف اثنان بان خفض قيمة الدينار قلص الدخل الحقيقي للمواطن العراقي، وتضررت بشكل كبير الطبقات الفقيرة نظرا لانخفاض دخولها اصلا... لكن هل كانت تلك الطبقات مرفهة قبل خفض سعر الصرف؟ الجواب ان مشكلة الفقر في العراق نتيجة لضعف سياسات توزيع الثروة الوطنية واستئثار قلة على موارد البلد بشكل مشروع وغير مشروع... وايضا ضعف سياسات اعادة توزيع الدخل وانعاش الطبقات الفقيرة سواء من خلال ضبط وتنويع نظام البطاقة التموينية ام تفعيل شبكة الحماية الاجتماعية. علما إن خفض سعر الدولار تقديم إعانة، متناسبة مع مستوى الدخل، من مورد النفط للجميع، يصيب الأغنياء منها أضعاف ما يصل إلى الفقراء.
المصادر:
1 - أحمد إبريهي علي، سعر الصرف، الموازنة، واحتياطيات البنك المركزي في العراق، شبكة الاقتصاديين العراقيين، تشرين الثاني، 2021.
اضافةتعليق