يعاني العراق من مشاكل عديدة دائماً ما يتم ترحيلها للمستقبل وعدم معالجتها مما يجعلها مشاكل متراكمة ومركبة ومن أبرز هذه المشاكل انخفاض الموارد المائية التي انعكست وستنعكس بشكل سلبي على العديد من مجالات الحياة مستقبلاً.
حيث تتمثل مشكلة المياه في العراق في اختلال الميزان المائي من حيث زيادة الاحتياجات المائية مقابل انخفاض الإمدادات المائية، اللازمة لتلبية مجالات الحياة المختلفة.
وما يزيد من تعميق المشكلة هو استمرار انخفاض الإمدادات المائية مقابل استمرار الاحتياجات المائية، إذ تشير التقديرات إلى أن تصريفات نهري دجلة والفرات ستستمر في الانخفاض مع مرور الوقت، وستجف تمامًا بحلول عام 2040(1 ) بمعنى إن مشكلة المياه في العراق تنمو وتكبر مع مرور الزمن.
وإذا ما أردنا تشخيص حجم الاختلال المائي بشكل دقيق سنواجه صعوبة كبيرة في ذلك بسبب عدم وجود بيانات كافية عن جانبي الاختلال وبالخصوص جانب الطلب على المياه، إذ لا توجد بيانات رسمية تتعلق بجانب الطلب على المياه.
أما على مستوى الإمدادات المائية فقد نشرت وزارة التخطيط بيانات عن الموارد المائية واتضح من خلالها إن متوسط الموارد المائية هو 50 مليار متر مكعب للمدة 2015 – 2020. وإذا ما نظرنا للوراء قليلاً سنجد إن متوسط الموارد المائية للمدة 1990-2009، هو 60 مليار متر مكعب( 2)، هذا ما يعني إن منحنى الإمدادات المائية نحو الانخفاض وليس الارتفاع.
وحسب الأطلس الإحصائي الزراعي تبلغ الموارد المائية 44 مليار متر مكعب في موسم الجفاف و77 مليار متر مكعب في المواسم الجيدة( 3)ونظراً لوقوع العراق في منطقة الاسكو التي تصنف من أكثر المناطق جفافاً في العالم(4 )، فإن نقص المياه سيكون هو النتيجة الحتمية، بمعنى إن حجم الفجوة بين عرض المياه والطلب عليها سيكون أكبر.
حيث تشير التوقعات إن العراق سيعاني من نقص حاد في المياه عام 2035 يُقدر بأكثر من 10 مليارات متر مكعب حسب تصريح المستشار لوزارة الموارد المائية في شهر الثالث من العام الجاري.
واذا ما استمر هذا الاختلال في الميزان المائي بعيداً عن التوازن سيفضي لمزيد من التداعيات السلبية على مختلف المجالات في نطاق المديات المختلفة القريبة والمتوسطة والبعيدة، والتي سيتم التطرق إليها تباعاً.
الأسباب
لم يحصل هذا الاختلال في الميزان المائي بشكل اعتباطي لولا وجود مجموعة الأسباب تختفي وراء كلا الجانبين يمكن تناولها باختصار في الآتي:
أسباب زيادة الاحتياجات المائية
1- النمو السكاني، حيث توجد علاقة طردية بين النمو السكاني والحاجة للماء، ونظراً لارتفاع النمو السكاني في العراق أصبح هناك مزيد من الضغط على الموارد المائية المتاحة وسيصبح الضغط أكبر
مرور الزمن بسبب النمو السكاني المتزايد.
2- ارتفاع نسبة الاغمار، حيث ارتفعت نسبة من 28% عام2015 إلى 76% عام 2020( 5)، من أجل إنعاش الأهوار التي تبلغ مساحتها 5500 كم2، بعد إدراجها على لائحة التراث العالمي 2016.
3- ثقافة الاستهلاك، حيث دفعت إلى زيادة استهلاك المجتمع العراقي للمياه في مختلف الاستخدامات المنزلية أو الزراعية أو الصناعية أو الحيوانية أو غيرها.
4- استصلاح الأراضي، إن استصلاح الأراضي يعني مزيد من الطلب على الموارد المائية خصوصاً وإن العراق في بداية الإصلاح الاقتصادي القاضي بتفعيل القطاع الزراعي الذي يتطلب المزيد من المياه.
أسباب انخفاض الإمدادات المائية
هناك أسباب طبيعية وأخرى بشرية أدت لانخفاض الإمدادات المائية في العراق
حيث تتعلق الأسباب الطبيعية بالتغيرات المناخية المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة من جانب وانخفاض هطول الأمطار من جانب ثانٍ، كلا الأمرين أديا لانخفاض الإمدادات المائية.
إذ يشير الواقع والدراسات إلى ارتفاع درجات الحرارة التي جعلت التبخر من السدود والخزانات يفقد البلاد ما يصل إلى 8 مليارات متر مكعب من المياه كل عام (6 ) كما إن الاتجاه العام للأمطار سارٍ نحو الانخفاض (7 ).
أما الأسباب البشرية فهي تتعلق بعوامل داخلية وأخرى خارجية:
- العوامل الداخلية تتمثل في الآتي:
1- ارتفاع نسبة الهدر في مياه الري إذ تصل لأكثر من 50% بسبب الضائعات الحقلية وتدني كفاءة الري والنقل نتيجة لاستخدام أساليب قديمة وتقليدية في إدارة المياه.
2- انخفاض مستوى الاستثمارات في مشاريع الموارد المائية، حيث شكل حجم النفقات الرأسمالية 0.5% من حجم النفقات الرأسمالية الكلية في الموازنة لعام 2021.
3- ارتفاع نسبة التلوث الناتج عن انخفاض عدد محطات معالجة مياه الصرف الصحي وتصريف مياه المبازل.
4- ازدياد معدل السحب للمياه الجوفية الذي يصل إلى ما يقرب من 5 مليار م3 والذي يمثل ما يُقارب 9% من مصادر المياه العذبة، وفق خطة التنمية الوطنية الصادرة عن وزارة التخطيط.
- أما العوامل الخارجية تتمثل في سياسات الدول المجاورة التي تنبع معظم موارد العراق المائية، فتركيا لديها مشروع شرق الأناضول المتمثل ببناء 22 سداً لتلبية متطلباتها الاروائية، كذلك أثرت المشاريع التي نفذتها إيران على الأنهار الحدودية المشتركة مع العراق وتحويل مجرى بعض الأنهر إلى داخل أراضيها، إضافةً إلى تصريف مياه البزل باتجاه الأنهار العراقية.
وبهذا الصدد صرح به وزير الموارد المائية العراقي مهدي رشيد الحمداني حيث قال "ان الواردات المائية العراقية القادمة من تركيا لنهري دجلة والفرات انخفضت بمقدار 50%، وان روافد سد دربندخان وصلت وارداتها الى صفر بالمائة، فيما انخفضت واردات الزاب الأسفل بنسبة 70%". وإن العراق سيرفع شكوى إلى المجتمع الدولي من أجل تقاسم الضرر وإطلاق حصة المائية حسب المواثيق الدولية.
وإذا ما تم استكمال المشاريع المائية للدول المجاورة ستؤثر على العراق من خلال أمرين:
1- انخفاض الإمدادات المائية من 43 مليار م3 عام 2015 إلى 28 مليار م3 عام 2035.
2- ازدياد التراكيز الملحية من 320جزءاً بالمليون إلى 500 جزء بالمليون بالنسبة لنهر دجلة، ومن 540 جزءاً بالمليون إلى 930جزءاً بالمليون بالنسبة لنهر الفرات حسب خطة التنمية الوطنية 2018-2022.
أبرز التداعيات
هذا الاختلال في الميزان المائي أدى وسيؤدي إلى مزيد من التداعيات السلبية على البيئة والاقتصاد والمجتمع والسياسة والعلاقات الخارجية.
تداعيات بيئية، حيث تؤدي شحة المياه إلى الجفاف وتركز الملوحة والتصحر وانخفاض المساحات الخضراء وارتفاع درجة الحرارة وشحة المياه مرةً آخرى.
تداعيات اقتصادية، تترك شحة المياه اثارها السلبية على الاقتصاد حيث تؤدي إلى زيادة البطالة والفقر واختلال هيكل الناتج المحلي الإجمالي والصادرات السلعية وانخفاض الاحتياطي الأجنبي من العملات الأجنبية.
تداعيات اجتماعية، تتمثل في خلق التفاوت الطبقي-اقتصادياً وخدماتياً-بين المجتمع الريفي والمجتمع الحضري، هذا التفاوت يؤدي إلى هجرة المجتمع من الريف إلى المدينة وتوليد المزيد من الضغوط على فرص العمل والخدمات.
تداعيات سياسية، إن زيادة البطالة والفقر والهجرة وانخفاض الخدمات وغيرها ستؤدي إلى الاحتجاجات للمطالبة بإصلاح النظام السياسي أو إسقاطه.
تداعيات إقليمية، يؤدي انخفاض الموارد المائية خصوصاً وإن النسبة الأكبر منها خارجية، إلى تعكير العلاقات مع دول الجوار كاللجوء إلى المجتمع الدولي لضمان حصة المياه المقررة أو المقاطعة الاقتصادية أو اللجوء للحرب وهذا ما تنوه عنه الكثير من الكتابات.
خلاصة القول، إن مشكلة المياه في العرق تتعلق بثلاثة أبعاد:
بُعد عالمي يتعلق بالتغيرات المناخية المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة وزيادة التبخر وانخفاض هطول الأمطار.
بُعد اقليمي يتعلق بتعلق بمنابع المياه في العراق، حيث أن أكثر من 70% من مياه العراق تأتي من دور الجوار.
بُعد محلي يتعلق بسوء إدارة الموارد المائية من حيث حجم الاستثمار وكفاءة الاستخدام والتلوث.
المقترحات
مقترحات تتعلق بالشأن الداخلي كالاتي:
1- العمل على إدارة الموارد المائية بشكل مهني بعيد عن السياسة.
2- تقليل هدر المياه من خلال توعية المجتمع بمدى حجم المشكلة وخطورتها.
3- اعتماد أساليب الري الحديثة في الزراعة كالري بالرش والتقطير.
4- تطوير البحث العلمي في الزراعة بما يؤدي لجعل النباتات والمحاصيل الزراعية أقل استهلاكاً للمياه.
5- العمل على تسعير قطاع المياه على المستويين الخدمي والإنتاجي ( 8).
مقترحات تتعلق بالشأن الخارجي كالاتي:
1- عقد اتفاقية ملزمة طويلة الأمد مع الدول المتشاطئة بما يضمن استمرار تدفق المياه صوب العراق.
2- وفي حال عدم الوصول لاتفاقية ملزمة يتعين اللجوء للمجتمع الدولي من أجل الضغط على الدول المتشاطئة لضمان حصة العراق المائية.
3- استخدام المسائل الاقتصادية كأوراق ضغط بما يؤمن حصة العراق المائية.
4- المشاركة الفاعلة في مؤتمرات المناخ العالمية التي تروم الحفاظ على البيئة من ارتفاع درجات الحرارة وتقليص التبخر وزيادة هطول الأمطار.
المصادر :
1 - نذير عبد الرحمن الانصاري، إدارة الموارد المائية في العراق: وجهات نظر وتوقعات، 2013، دراسة (انكليزي) متاحة على موقع البحث العلمي وعلى الرابط أدناه:
https://file.scirp.org/Html/6-8101946_35541.htm
2 - وزارة التخطيط العراقية، الأطلس الإحصائي الزراعي، الجزء الخامس، ص1.
3 - نفس المصدر، نفس الصفحة.
4 - نفس المصدر، ص13.
5 - تقارير وزارة الموارد المائية عن الموارد المائية لسنوات المتوسط.
6 - معهد تشاتام هاوس، السياسة القديمة نفسها لن تحل أزمة المياه في العراق، متاح على الرابط أدناه: https://www.chathamhouse.org/2020/04/same-old-politics-will-not-solve-iraq-water-crisis
7 - التغير المناخي في درجة حرارة وامطار العراق، بحث متاح على الرابط أدناه: