تعمقت ازمة السودان الاقتصادية نتيجة الأنخفاض الحاد في موارد العملة الأجنبية وما ترتب عليها من تضخم ارتباطا بتدهور قيمة العملة الوطنية، ثم التقشف والغاء الأعانات ومعاناة الفئات واطئة الدخل. وتنطوي هذه الصعوبات الأقتصادية على احتمالات زيادة التوتر اوالأهتداء الى سياسات مغايرة
تعمقت ازمة السودان الاقتصادية نتيجة الأنخفاض الحاد في موارد العملة الأجنبية وما ترتب عليها من تضخم ارتباطا بتدهور قيمة العملة الوطنية، ثم التقشف والغاء الأعانات ومعاناة الفئات واطئة الدخل. وتنطوي هذه الصعوبات الأقتصادية على احتمالات زيادة التوتر اوالأهتداء الى سياسات مغايرة. ونحاول في هذه المقالة عرض بعض الحقائق التي افصحت عنها البيانات ومسار الوقائع لفهم الوضع الحالي.
1. حول التكوين السياسي للسودان:
يمكن النظر الى احتلال محمد علي باشا للسودان عامي 1820- 1821 بانه البداية المبكرة للتكوين السياسي في هذا البلد نحو الوحدة. وكانت قبل الأحتلال ممالك صغيرة وبسيطة التنظيم والأدارة حول النيل، وقبائل حافظت على نمط حياتها خارج سيطرة الدول ما أمكنها ذلك.
وتذكرالمدونات ان الحملة كانت قاسية سفكت فيها الكثير من الدماء، وتعرض السكان الى الأبتزاز والنهب، وأُخِذ الآلاف قسرا وارسلوا الى سلطة الأحتلال رقيقا. وقد اندلعت ثورات في اكثر من مكان ضد سياسات الولاة التي بالغت في الضرائب والرق. واستمرت هذه الاوضاع القلقة لحين حكم المهديين في العقد التاسع من القرن التاسع عشر الذي عاجله الأحتلال البريطاني - المصري عام 1889. وأُخضعت السودان، فيما بعد، الى الولاية الثنائية البريطانية- المصرية حتى الأستقلال عام 1956 وتأسيس الجمهورية الحالية.
عندما استقلت السودان اقامت نظاما سياسيا يحاكي بريطانيا، دولة الكيان الواحد وديمقراطية نيابية، وبعد سنتين من الاضطرابات السياسية داخل الائتلاف الحاكم سيطر انقلاب عسكري على السلطة عام 1958 ، وفي غضون ست سنوات تمكنت انتفاضة شعبيية من استعادة الديمقراطية ، وايضا ادت الاضطرابات السياسية الى انقلاب آخر عام 1969 ، وفي عام 1985 استعيدت الديمقراطية ثم اسقطت بانقلاب عام 1989 الذي اسس لنظام الحكم الحالي.
وانفصل الجنوب عن السودان عام 2011 نتيجة لأستفناء تقرر الأحتكام اليه في اتفاقية عام 2005. ودارت بين القوات المسلحة الرسمية وحركة التمرد في الجنوب حروب طويلة للسنوات 1955-1972 و 1983-2005 تقدر ضحاياها بمليوني انسان. ولم تُحسم بعد عائدية منطقة ابيي، الغنية بالنفط والمياه، بين السودان ودولة الجنوب في انتظار نتائج استفتاء لازال معلقا، ويثيرالأنتقال الموسمي للقبائل بين الشمال والجنوب جدلا، بالأضافة الى مسائل خلافية تتصل بعلاقة دولة الجنوب مع نزاعات اخرى.
و بدأت حرب دارفور في شباط ، فبراير، عام 2003 بين مجموعات مسلحة من القبائل الأفريقية المسلمة والقوات الحكومية والمحلية المساندة لها. لقد كانت مواجهات ضارية وصفت فضائعها بانها مجازر او جرائم حرب، والضحايا من المدنيين والمسلحين مائة الف او مئات الآلاف علاوة على مليوني نسمة نازحين في الداخل و250 الف في دولة التشاد المجاورة. في شباط ، فبراير، 2010 اتفقت الحكومة مع حركة العدالة والمساواة، الممثلة للتمرد المسلح في دارفور، على وقف اطلاق النار والسعي من اجل السلام، لكن المباحثات توقفت بتجدد القتال آنذاك، الذي يندلع بين آونة وأخرى، وتطمح حركة العدالة والمساواة الى حكم ذاتي واسع الصلاحيات. وتمثل حروب دارفور، وبقية الحروب الداخلية، التصادم بين هوية الدولة والتعددية الأثنية والثقافية لشعبها من بين عوامل اخرى.
كانت منطقة قبائل الفور سلطنة في القرن الرابع عشر، والتحقت بالحكم المصري للسودان عام 1875 ... وفي عام 1916 صارت محافظة ضمن السودان الخاضع لولاية ثنائية بريطانية - مصرية وبعد الاستقلال ضمن جمهورية السودان. والى جانب دارفور تشهد جنوب كوردوفان والنيل الأزرق عدم انسجام مع الحكم المركزي وحصلت مصادمات عنيفة. ومع نزاعات الجنوب والغرب واجهت الحكومة في العقد الأول من القرن الحالي استعدادا للتمرد المسلح في ولايتي البحر الأحمر وكسالى جهة الحدود مع اريتريا، حيث "الجبهة الشرقية" ومطالبها السياسية والاقتصادية. ويلاحظ ان السودان تهدده مخاطر الحروب الأهلية دائما والتي راح ضحيتها الملايين من القتلى والجرحى والنازحين وانتشار البؤس ونقص الغذاء في مناطق النزاع، وخسائر في البنى التحتية، وضياع الكثير من فرص الرفاه والتنمية. وتتعدد اسباب الحرب الأهلية بين اثنية وثقافية ودينية واقتصادية وسياسية ولها ابعاد اقليمية ودولية.
دخلت مشكلة حكم البلاد طورا جديدا عندما قاطعت الأحزاب الرئيسة في المعارضة انتخابات عام 2010 . واشتد التوتر الذي غذته الأحتجاجات الشعبية، الرافضة لسياسات التقشف وقطع الأعانات الحكومية عام 2013 ، وزادت عليه المواجهة العنيفة لتلك الاحتجاجات. ونتيجة لذلك فشلت انتخابات عام 2015 التي قاطعتها ايضا الاحزاب المؤثرة في المعارضة والتي تعرضت، والصحافة، للكثير من المضايقات.
وهناك خلافات تطفو على السطح احيانا بين التشكيلة الحاكمة ذاتها تربك سيطرة المركز على الجهاز البيروقراطي. وثمة جدل حول مضمون الأسلام في السياسة ومن غير المتوقع اتفاق جميع مسلمي السودان على التفسير الرسمي للمعتقدات والمنهج الفقهي. علاوة على ان بعض الجماعات المحلية تختلف مع الحكم المركزي في فهمها لهويتها الأثنية مثل انهم أفارقة او افارقة عرب ... وهكذا يؤثر التنوع في المزاج السياسي ودرجة الأنشداد الى المركز. ويتعرض الحكم الى ضغوط غربية لتعديل النظام القانوني خاصة من جهة الحقوق المدنية والحريات. وتشير التقارير ان الجهاز الحكومي يعمل جيدا على مسار النيل لكن كفاءته في تقديم الخدمات تنخفض في المناطق الأخرى وتضعف كثيرا في الأطراف حيث الأيرادات المحلية قليلة ولا تخصص الحكومة المركزية اموالا كافية هناك.
ان تفاوت التطور بين وادي النيل المركزي وبقية السودان لا يستهان به، ويرتبط توزيع الثروة بين المناطق والفئات بابعاد سياسية وثقافية وكثافة الأنصال بالخرطوم. ويشتبك تدافع اهل الطموح على الدور والنفوذ، مع مشكلات التنوع الثقافي والهوياتي، ومطالب المناطق في العدالة والمشاركة، وتدخلات اقليمية ودولية، في اذكاء الحروب وادامة عدم الأستقرار. والسودان مثل غيرها من دول جوارها، ونطاقها الأقليمي الكبير، لم تتمكن نخبها من ارساء قواعد راسخة لتداول سلمي للسلطة، واشاعة الحريات السياسية والمدنية، دون تعثر وتردد، واعتماد الوسائل الديمقراطية لتسوية النزاعات. ومثلما تسخّر سلطة الدولة واجهزتها لأهداف وتطلعات على حساب ادائها لوظائفها الوطنية الشاملة، كذلك تستخدم المطالب المشروعة للفقراء والمناطق المحرومة والحقوق الثقافية لمصالح واهواء زعماء وطامعين على حساب امن الناس وحقهم في حياة كريمة.
2. نقص العملة الأجنبية والتغذية المتبادلة بين التضخم وسعر الصرف:
أُكتشف النفط عام 1978 واكثره في الحنوب، وبدء انتاجه وتصديره نهاية التسعينات، وتكونت في الفترة التي سبقت عام 2011 بعض الخصائص السلبية للأقتصاد النفطي التي يعاني السودان الآن اعباء التخلص منها. وانتعش الأقتصاد بين عامي 2001 و 2010 من صادرات النفط وزيادة اسعاره ، وانكفأ منذ عام 2011 نتيجة لأنقطاع اوانحسار موارد النفط على أثر انفصال الجنوب إذ خسر ثلاثة ارباع انتاجه النفطي وثلثي صادراته.
ويعزى اساس الأزمة الأقتصادية الحالية الى النقص الحاد في الأيراد السنوي من العملة الاجنبية على اثر الأنفصال. وتحاول الحكومة تدبير تدفقات تعويضية من الأستثمار اجنبيي والمنح وقروض خارجية وتشجيع المغتربين على زيادة تحويلاتهم الى السودان. وفي نفس الوقت خفض الطلب على العملة الاجنبية بزيادة سعر صرفها.
ويتوقع المتعاملون في السوق تصاعد سعر صرف العملة الاجنبية فترتفع معدلات حيازتها وعاءا لحفظ القيمة، ليضاف عامل آخر يغذي الطلب الزائد في سوق الصرف. وإن توقع تقييد السحب على الودائع في المصارف يدعم الميل للأحتفاظ بالعملة الوطنية لدى الجمهور اوتحويلها للنقد الأجنبي، وهكذا تتراجع قدرة الحكومة في السيطرة على الاسعار وسعر الصرف على وجه الخصوص، وبالمختصر تبدأ العملية من شحة النقد الأجنبي وتنتهي اليها.
ازدادت الصادرات غير النفطية من 461 مليون دولار عام 2007 الى 3.7 مليار دولار عام 2017 . لكن الصادرات النفطية تراجعت من 11.1 مليار دولار عام 2008 الى 1.7 مليار دولار عام 2013 ثم الى 417 مليون دولار عام 2017 . ولذلك انخفضت موارد الصادرت من 11.4 مليار دولار عام 2010 الى 4.1 مليار دولار عام 2017 ، في حين لا يمكن للأقتصاد السوداني الأكتفاء بأقل من 11 مليار دولار للأستيرادات لذلك يواجه السودان عجزا كبيرا في الميزان التجاري وتمتص تحويلات العاملين في الخارج جزءا من هذا العجز.
ويبقى عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات كبيرا بنسبة 8.9 بالمائة من الناتج المحلي عام 2016 حسب تقرير صندوق النقد الدولي اواخر عام 2017 حول استدامة المديونية في السودان. و كان الحساب الجاري لميزان المدفوعات عاجز للفصلين الأخير من عام 2017 والاول من عام 2018 بحوالي 3 مليار دولار، حسب بيانات البنك المركزي، بمعنى ان العجز قد يصل 6 ملياردولار في سنة واحدة، وهو كبير يعادل 150 بالمائة من الصادرات السلعية. لكن التدفقات الراسمالية والمالية من الخارج بالصافي قد تساعد على سد الجزء الاكبر من هذا العجز لكنها متقلبة وتتسم بعدم التأكد لذلك لا يعول عليها.
ويتوقع الصندوق استمرار العجز في حدود 9 بالمائة من الناتج المحلي حتى عام 2022 وفي الأمد ألابعد في حدود 6.3 بالمائة، ويعوِّل على الأستثمار الأجنبي والأقتراض من الخارج لسد العجز، ما يعني ان الأقتصاد السوداني في مأزق وتشتد ازمته.
في تقرير صندوق النقد الدولي وصل الدين الخارجي السوداني 52.4 مليار دولار ما يعادل صادرات السلع لأكثر من عشر سنوات، ونسبتة الى الناتج المحلي الأجمالي 111 بالمائة. ويتضمن هذه المؤشر تقديرا منخفضا للناتج المحلي الأجمالي بحيث لا يزيد متوسط الدخل للفرد عن 1200 دولار، وربما تأثر التقدير بالأضطراب الأخير للأسعار. إذ كان 2414 دولار في بيانات البنك الدولي عام 2016. لذلك تتعذر معرفة عبئ الدين الأجنبي على الأقتصاد الوطني لكنه يبقى مرتفعا وخارج نطاق الأستدامة عندما ينسب الى موارد الصادرت، وهو المهم لأنها مصدر سداد الدين الخارجي.
وحوالي 84 بالمائة من الدين الخارجي صار متأخرا عن السداد عام 2016 ، و 75 بالمائة منه للحكومات مناصفة، تقريبا، بين دول نادي باريس والدول الأخرى، و11 بالمائة من الدين لمؤسسات متعدةة الأطراف مثل الصندوق والبنك واخرى، و14 بالمائة للقطاع الخاص الاجنبي. وكان الدين الخارجي 19.3 مليار دولار عام 2001 ثم وصل الى 41.5 مليار عام 2011 قبل بلوغ الحجم المشار اليه آنفا. و تضاءلت قدرة الأقتصاد السوداني على الأقتراض من الخارج في السنوات الأخيرة، كما لا يستطيع المجتمع تحمّل خفضا في الأستيرادات دون مستوياتها المتدنية وهو مأزق بمعنى الكلمة.
وارتفع متوسط سعر الصرف الرسمي الى 47.5 في تشرين الاول ، اكتوبر، عام 2018 ، وكان 18 جنيه سوداني نهاية آذار، مارس، 2018 ، و 6.68 جنيه نهاية آذار، مارس، 2017 . وارتفع معدل التضخم على اساس سنوي من 25.1 بالمائة نهاية كانون الثاني ديسمبر عام 2017 الى 55.6 بالمائة نهاية آذار ، مارس، 2018 . ويخشى ان السودان دخل في الحلقة المفرغة بين التضخم المرتفع وهبوط قيمة العملة. وما لم تتوفر حقنة قوية من العملة الاجنبية في سوق الصرف قد يستقر السوق عند مستوى متدني لقيمة العملة السودانية وتتآكل القوة الشرائية للقطاع الاسري. أي ان التضخم صار يقاد من سوق الصرف وهو ما شهده العراق سنوات الحصار في التسعينات .
3. التقشف والغاء الأعانات:
لقد إزداد الأنفاق الحكومي بنسبة 38 بالمائة عام 2017 عن سابقه، وبعجز مقداره 14 مليار جنيه من مصروفات 77 مليار جنيه. وهذه الدفعة الاضافية من الانفاق كبيرة مع انها لا تزيد على امتصاص اثر التضخم.
يعادل الانفاق الحكومي 18.8 بالمائة من الناتج المحلي عام 2009 لكنه انخفض الى 10.6 بالمائة عام 2016 وارتفع قليلا في السنتين التاليتين. ويراد للأنفاق الحكومي الاّ يتجاوز 10 بالمائة بحلول عام 2023 ، نتيجة السياسات التي استجابت لضغوط المؤسسات الدولية. وبذلك ينخفض كثيرا عن متوسط الانفاق الحكومي للدول واطئة الدخل في افريقيا جنوب الصحراء ، الذي كانت نسبته الى الناتج في عام 2016 حوالي 16.7 بالمائة والمتوقع لعام 2023 في حدود 17 بالمائة. ويفسر كبح الانفاق في السودان بضخامة الدين الحكومي الذي يقدر 122 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي عام 2017 ويرتفع الى 168 بالمائة عام 2018 . وللتقشف صلة وثيقة بالتضخم وتدهور قيمة العملة السودانية في السوق الموازية ومن ثم الخفض الرسمي لها.
ويرتبط التقشف بتحذير المؤسسات المالية الدولية من عجز الموازنة العامة، الذي يمول بالأقتراض الداخلي اساسا وبتدابير تقترن بالتوسع النقدي ودفع الطلب الكلي بعيدا عن حدود العرض. آخذين بالأعتبار القدرة المحدودة على الأستيرادات لشحة العملة الأجنبية، فيرتفع سعر الصرف في السوق الموازية ويرفع التضخم المغذى بتنقيد الدين، شراء البنك المركزي لأوراق الدين الحكومي او عبر ترتيبات مع المصارف. وهكذا تستمر عملية التغذية السلبية بين عجز الموازنة العامة وعجز ميزان المدفوعات الخارجية، وتظهر بتصاعد التضخم وسعر الصرف وتنخفض القوة الشرائية للرواتب والدخول النقدية الثابتة وعوائد الأنشطة التي لا تواكب اسعار منتجاتها للتضخم.
ويتضح من البيانات ان هذا التصور قد بالغ في التخويف من عجز الموازنة العامة الذي ينخفض نتيجة لتقليص الأعانات. وتبين آنفا ان المشكلة تركّزت في عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات الخارجية، لتكون السودان مثالا لأقتصاد نامي تقيده شحة العملة الأجنبية. ولذا لا بد من الأنتباه الى ان التضخم الحاد محفز برفع الاعانات وارتفاع سعر الصرف وليس بالأنفاق الحكومي الزائد او صدمات عرض داخلية ، بل ان الأنفاق الحكومي بالكاد يواكب التضخم بحيث من المستبعد تصور ارتفاع الأنفاق الحكومي الحقيقي.
اهتم صندوق النقد الدولي في تقريره عن السودان المعد في تشرين الثاني نوفمبر والصادر في كانون الاول ديسمير عام 2017 بالغاء الاعانات وهي الفقرة الاولى في التقرير. وخاصة اعانات الطاقة ، الوقود والكهرباء، واعانات الحنطة. ويرى انها سياسة ليست كفوءة لحماية الفئات واطئة الدخل. لأن السلع المعانة اغلبها يستهلكها الاغنياء، والأعانات، لذلك، تعني توجيه موارد نادرة بعيدا عن المجالات الاكثر انتاجية. وتؤثر الاعانات سلبا في تخصيص الموارد فالاسعار المنخضة تؤدي الى استهلاك مبالغ به من السلع المعانة. وفي نفس الوقت ينخفض الاسثمار لتطويرالطاقات الأنتاجية لتلك السلع لأن اسعارها واطئة. وتستورد السلع المعانة عبر تفضيل استيرادها على سلع اخرى في الحصول على النقد الاجنبي باسعار صرف مغالى بها ، المقصود مغالي بقيمة الجنيه السوداني، ولذا تبقى اسعار الصرف للعملة الاجنبية منخفضة لتسهيل استيراد السلع الاساسية .
وبقدر تقرير الصندوق ان الاعانة من خلال سعر الصرف تبلغ 5.2 بالمائة من الناتج المحلي ومجموع الاعانات 8.4 بالمائة. وصحيح ان سعر الصرف المنخفض للعملة الاجنبية يمثل اعانة للمستوردات وضريبة على الصادرات ، لكن كيف يمكن سياسيا واجتماعيا تحمل ازالة الاعانات إذ تنخفض مستويات الاستهلاك و الرفاه لفئات عريضة من المجتمع التي لا تنتفع مباشرة من رفع سعر العملة الاجنبية والاسعار. بتعبير آخر لو تمكنت الدولة من الحفاظ على مكتسبات الفئات واطئة الدخل باجراءآت تعويضية فسوف يسهّل ذلك كثيرا مهمات التحول.
وقد عرض الصندوق بيانات اظهرت ان 58 بالمائة من اعانات الكهرباء ينتفع منها الأعلى دخلا من السكان بنسبة 20 بالمائة من مجموعهم، في حين ان الفئة الأدنى دخلا بنفس التعريف لا تستفيد بأكثر من 2 بالمائة. وان 68 بالمائة من اعانات الغازولين تنتفع منها 20 بالمائة الأعلى دخلا اما الفئة الأدنى دخلا بنفس الحجم السكاني فلا يصيبها سوى 1 بالمائة. وتثير هذه التقديرات تساؤلات لأن الفقراء ايضا بحاجة الى خدمات نقل ترتفع اسعارها برفع الأعانات عن الوقود ولذا يبدو ان المؤشرات آنفا ليست واقعية. واشار الصندوف الى ان اعانات الحنطة ينتفع منها سكان المدن لأن سكان الريف يستهلكون السورغوم ، الذرة الرفيعة، لكن مقادير الحنطة المستوردة تبدو اكبر من الأستهلاك المحتمل لأهل المدن من الدقيق.
وهناك تحفظات على هذا الفهم للأعانات لأن الوقود والكهرباء لا يستخدم فقط استهلاكيا بل في محالات الانتاج وعند تعديل الاسعار سوف ترتفع التكاليف واسعار المنتجات وتنتقل الزيادات الى انشطة اخرى تستخدم تلك المنتجات ومن خلال علاقات المستخدم – المنتج تستمر زيادات الاسعار لسلسلة من الدورات الى ان يستقر الاقتصاد عند مستوى عام جديد للأسعار غاية في الأرتفاع. وبذلك قد تزداد اسعار المنتجات الوطنية الى الحد الذي يجعلها ضعيفة امام المستوردات، كما تنخفض قدرتها على المنافسة في الاسواق الخارجية.
اما السلع الاستهلاكية حصرا فإن رفع الاعانات عنها يقتضي تقديم تعويضات نقدية للأسر واطئة الدخل وهذه تتطلب نظاما دقيقا لتشخيص الفقراء، وايصال تلك الأعانات النقدية، وهنا لا تستبعد خروقات الفساد كما في تجارب دول اخرى، فالمسألة ليست سهلة. ويشير الصندوق ، عادة، الى تهريب السلع المعانة الى الدول المجاورة وهذه مبررات اخرى لأزالة الأعانات.
وحول تراجع دوافع الاستثمار في انتاج السلع المعانة فهذه الثغرة تعالج عادة بتقديم الاعانات اصلا للمنتجين ليقدموا سلعهم باسعار واطئة، او تشتري الحكومة انتاجهم باسعار مجزية، وفي العراق، على سبيل المثال، تشتري الحكومة الحبوب من المنتجين باعلى من الأسعار الدولية.
4. الأقتصاد ومعاناة المجتمع في الأزمة:
السياسات الأقتصادية والمقترحات التي قدمتها المؤسسات الدولية، وحتى الأبحاث المتخصصة، تكاد لا تتجاوز نطاق الأمد القصير، وتنتظر آليات نظام الأقتصاد الحر لأخراج السودان من مأزقه الأقتصادي . وخلاصتها ان اصل المشكلة في تشوه الأسعار واعاقة الأسواق عن عملها الطبيعي. لا شك ان للأسعار دورها وخاصة سعر الصرف، لكن في نهاية المطاف يتعلق الأمر بالجهد الأستثماري وتخصيصه القطاعي لتغيير بنية الطاقات الأنتاجية وقدرة الأقتصاد السوداني على توليد الدخل والتشغيل والتصدير. ومن المعروف ان مرونة النظام الأنتاجي بأكمله واطئة في الوضع الأبتدائي، ولا بد من تدابير بإجرءآت حكومية تساعد على كسر الحلقة المفرغة والنهوض الزراعي والصناعي.
السودان من البلدان واطئة الدخل ، اقتصاده زراعي في اساسه، وكان يعيش 89 بالمائة من سكانه عام 1960 في الريف، واكثر من نصف ناتجه المحلي زراعي آنذاك. في عام 2017 يعيش في الريف 66 بالمائة من السكان، واسهام الزراعة 30 بالمائة من الناتج المحلي. اما الصناعة التحويلية فقد بقي دورها ثانويا لا يتجاوز 6 بالمائة من الناتج في السنوات الاخيرة. ومعدل نمو الناتج طيلة تلك المدة 3.8 بالمائة سنويا ، ومنذ عام 2000 حوالي 5 بالمائة سنويا وتراجع بعد عام 2010. وينمو السكان بمعدل مرتفع 3 بالمائة سنويا تقريبا في تلك المدة، ومنذ عام 2000 انخفض الى 2.3 بالمائة.
14.9 بالمائة من السكان يقل دخلهم اليومي عن 1.9 دولار متعادل القوة الشرائية باسعار عام 2011 عام 2009، وربما زادت هذه النسبة. اما الفقراء دون 3.2 دولار في اليوم فهم 41 بالمائة. و73 بالمائة اقل من 5.5 دولار في اليوم ، ودون خط الفقر الوطني 46.5 بالمائة من السكان عام 2009 ، ولا تتوفر بيانات احدث . لقد تحسنت الطرق والأتصالات وفرص التعليم توسعت لكن الملاكات التعليمة والمستلزمات ليست كافية. والخدمات الصحية الرسمية امكاناتها محدودة و العلاج في القطاع الطبي الخاص مكلف، والمياه المحسنة لا تصل الى حوالي 40 بالمائة من السكان .
يعاني الأقتصاد والمجتمع نقصا في توليد الكهرباء وشح الوقود وانقطاع مياه الشرب في بعض المناطق. وتعرّض سوق الدواء للأرتباك بعد الصعود العنيف في سعر الصرف الرسمي للعملة الأجنبية وشحت بعض ادوية الأمراض الشائعة والمزمنة او اختفت. وتأثر المستوردون والمنتجون بضبابية المستقبل حول الموقف الرسمي من اسعارالدواء، الذي تنتج السودان 40 بالمائة من حاجتها اليه. ويبدو من الصعب الزام الصيدليات بالتسعيرة المحددة مع ارتفاع سعر الصرف. ويلاحظ مراقبون ان هوامش الوساطة التجارية على اسعار المُنتَج المحلي باهضة ويضربون المثل بسلع زراعية قد يصل سعر المستهلك الى اضعاف سعر المزرعة.
وشهدت السودان احتجاجات متكررة استياءا من الغلاء وتدهور القوة الشرائية لفئات عريضة من السكان ذوي الدخل المنخفض، واشتدت قسوة العيش على الضعفاء والفقراء حتى يشتكي البعض من صعوبة تدبير الغذاء والضروري من الدواء. وقد شملت الادانة سياسات الخصخصة وتحويل مهمات اقتصادية من القطاع العام الى القطاع الخاص وخفض الاعانات واطلاق الاسعار او رفعها والتي ترتبط في الذهن العام بوصفات صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الاخرى والغرب.
ان مشكلة السودان في امكاناته الأنتاجية المحدودة وقدراته الضئيلة للتصدير وليس في حجم الانفاق الحكومي او تدخل الحكومة في عمل المصارف وقطاع المال. ولا تبين التقارير ان دول الخليج على استعداد لأنقاذ الأقتصاد السوداني، رغم مشاركة السودان في حرب اليمن حيث وجدت السياسة فرصا سانحة لصناعة المآسي في ذلك البلد الفقير.
اضافةتعليق