ترتكز معيشة أغلب البلدان صاحبة الموارد الطبيعية وخصوصاً النفطية على تداول ما يدره النفط عليها، وهذا العيش مهما كان يتصف بالهناء والرخاء سيتحول في ظل استمرارية الاعتماد على النفط، مع غياب السياسات الكفيلة بالمحافظة على العيش الكريم، إلى عيش هنيء معكوس، مصطحباً معه الويلات لشعوب هذه البلدان، وذلك لكونه لا يتصف بالاستدامة والاستمرارية.
من المعروف إن اغلب البلدن التي تعتمد في اقتصادها على الموارد النفطية هي بلدان تتصف بعدة صفات متلازمة فيما بينها، وذلك لغياب السياسات التي من شأنها محاربة ظهور مثل هذه الصفات، ومن أبرز هذه الصفات هيمنة الدولة وانحسار دور القطاع الخاص في الاقتصاد، ومتلازمة الفساد والبطالة، ويمكن تناول هذه الصفات بإيجاز وكما يلي
- هيمنة الدولة وانحسار القطاع الخاص في الاقتصاد
تتطلع الدول في الغالب إلى اشباع الحاجات العامة الموكلة إليها عن طريق حشد الموارد العامة سواء كرها كالضرائب مثلاً أو اتفاقاً كالقروض أو مما تمتلكه من موارد خاصة بها كامتلاكها للأراضي والمشاريع وغيرها، ولكن اغلب الدول التي تمتلك موارد طبيعية وخصوصاً النفطية، تلجأ إلى فرض هيمنتها على هذه الثروة للتخلص من الصراع مع المواطن بخصوص الضرائب من جانب واستخدام هذه الثروة لاهداف سياسية من جانب آخر. وكنتيجة لغياب السياسات الفاعلة والسليمة، ستفضي الهيمنة إلى نشوء الريعية اقتصاداً واجتماعاً، فيصبح الاقتصاد والمجتمع يعتمد بالدرجة الأولى على الريع الذي هيمنت عليه الدولة، فينحسر دور القطاع الخاص في الاقتصاد أو يكون هو الآخر يعتاش على هامش النفط.
- الفساد والبطالة
تظهر متلازمة الفساد والبطالة في البلدان النفطية كون هذه البلدان تفتقد للأنظمة الكفوءة التي تضمن توجيه هذه الثروة نحو الأوجه التي تصب في مصلحة البلد، وان غياب هذه الأنظمة مع توفر الثروة ذات التكاليف المنخفضة بالتزامن مع قصور وعي النخب والمجتمع في توجيه النظام السياسي لادارة هذه الموارد بالشكل الذي يلبي طموحه وتطلعاته، سيفضي الأمر إلى الاقتصار على النفط دون الاهتمام بالأنشطة الاخرى، هذا من جانب، وتوظيف الاموال النفطية لخدمة الطبقة السياسية ولمن يرتبط بها من جانب أخر دون الاخذ بعين الاعتبار ان النفط ثروة عامة للجميع. إضافة لذلك ان قطاع النفط يعد من الصناعات كثيفة رأس المال وليس كثيفة العمل، أي كلما ارتفع حجم الاعتماد على النفط كلما تطلب ذلك رأس مال أكبر ومن ثم زيادة حجم البطالة.
لا يسهم الفساد بعرقلة مسيرة الاقتصاد بالشكل الصحيح فحسب بل يؤدي بالاقتصاد إلى الأزمة والانهيار والإعلان عن الإفلاس لاحقاً، نعم الفساد يؤدي إلى احتكار الثروات من قبل قلة قليلة بحكم موقعها السياسي والإداري، وهذا ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص فيحصل سوء توزيع الموارد ما بين المستثمرين فينخفض حجم الاستثمار ومن ثم ظهور البطالة، إذ إن الحصول على حق استثمار هذه الثروة يتطلب تكاليف إضافية، هذه التكاليف الإضافية تعرف ب" الرشوة" والتي تظهر إلى الوجود في حال غياب السياسات اللازمة للجميع على الالتزام بالشفافية والإفصاح عن المعلومات الخاصة بموارد الاستثمار وكيفية وأوجه إنفاقها.
النفط ثروة ناضبة
ان زيادة تركز اعتماد البلدان الغنية بالموارد الطبيعية وخصوصاً النفطية، على ما تدره من إيرادات مالية في ظل غياب السياسات السليمة، سيفضي إلى العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وهذا ما يجعل المجتمع يعيش على هامش النفط حالياً ومستقبلاً، كون هذا الاخير لا يتسم بالدوام والاستمرار والاستقرار، إذ معروف ان النفط ثروة ناضبة غير متجددة تكوّنت في الماضي من بقايا حيوانات ونباتات وغيرها، وهذا النضوب يكون مرهون بمدى الضغط على النفط، فكلما كان الضغط(الانتاج) أكبر كلما كان النضوب أسرع والعكس صحيح، هذا من جانب عدم الدوام والاستمرار، ومن جانب الاستقرار ان الايرادات النفطية تعتمد على آلية تحديد أسعاره، فأسعاره لا يمكن أن تتحدد داخلياً فحسب بل إن المحددات الخارجية لها دور كبير في تحديد أسعاره وذلك لكون النفط سلعة ستراتيجية دولية تنتج من قبل دول معينة وتستهلك من قبل دول كبيرة وكثيرة.
فعندما تتشكل منظمات وكارتلات متعلقة بالمنتجين والمستهلكين كل على حده سيفضي الأمر إلى عدم استقرار الاسعار ومن ثم عدم استقرار الايرادات، بفعل حروب الاسعار ما بين المنتجين والمستهلكين، إذ ان الاتفاق من جانب المنتجين على رفع اسعار النفط، رغبة في زيادة الايرادات النفطية لتمويل نفقات المالية العامة التي تعتمد بشكل كبير في البلدان النفطية على الايرادات النفطية، وذلك من خلال تخفيض الانتاج فينخفض المعروض النفطي فترتفع أسعاره ومن ثم أيراداته، بالمناسبة هذا الاتفاق الخاص برفع أسعار النفط لايخدم أصحاب الاحتياطيات الهائلة على المدى البعيد كالسعودية والعراق مثلاً، لان الدول المستهلكة ستتخذ الاجراءات المضادة لسياسات المنتجين على المدى القصير والبعيد، والتي يمكن توضيحها كما يلي.
سياسات الدول المستهلكة لمواجهة الدول المنتجة
ان ارتفاع اسعار النفط سيدفع الدول المستهلكة إلى التفكير في إيجاد السياسات والاجراءات المناسبة للحد من الاعتماد على النفط كونه يهدد مستقبل هذه الدول المستهلكة ويجعلها تابعة وخاضعة لاجراءات وسياسات الدول المنتجة للنفط، حيث تتمثل اجراءات الدول المستهلكة في اللجوء إلى خفض الاستهلاك من النفط الخام من خلال رفع الضرائب على المنتجات النفطية، وهذا ما يقلل من الطلب على النفط الخام، أو اللجوء إلى تنويع موارد استيراد النفط الخام جغرافياً، وهذا ما يقلل من أهمية الدول النفطية التي كانت تحتكر النفط وتتحكم بأسعاره، أو اللجوء إلى استخدام وسائل تكتيكية تتمثل في بناء المخزون الستراتيجي الذي يستخدم في الأجل القصير، أي تقوم الدول المستهلكة بشراء النفط الخام وقت انخفاض اسعاره وتستخدمه كورقة ضغط على الدول المنتجة للنفط عندما ترفع اسعار النفط، فتضطر هذه الاخيرة الى مراجعة سياستها بخصوص ارتفاع اسعار النفط المرتفعة، وهذا ما يؤثر على سياسات البلدان النفطية في الأجل القصير لاحقاً في حال حاولت هذه البلدان رفع الاسعار مرة أخرى.
واما على المدى البعيد، فقد تلجأ الدول المستهلكة لمجابهة سياسات الدول النفطية بخصوص ارتفاع اسعار النفط، إلى سياسة ترشيد استهلاك النفط الخام عبر الاهتمام بتطوير الاجهزة المستهلكة للنفط الخام، وهذا ما يقلل من الطلب على النفط الخام. أضف إلى ذلك أنها (الدول المستهلكة) تلجأ إلى ايلاء التطور التكنولوجي اهتمام كبير جداً لكي يفضي إلى إيجاد البدائل التي تعوض عن النفط المحتكر من قبل الدول النفطية، وهذا ما يؤثر على الايرادات النفطية في الامد البعيد، لان ايجاد البدائل يعاني إيجاد المصادر المنافسة للنفط الخام التقليدي وهذا ما يجعل الدول المنتجة محرجة اقتصادياً واجتماعياً كونها تعتمد على النفط بشكل كبير جداً.
نلاحظ مما سبق ان اعتماد البلدان الغنية بالموارد الطبيعية وبالخصوص النفط على الايراد الاحادي كالايرادات النفطية مثلاً تجعل البلد يتعرض للكثير من المشاكل على الامد القصير والبعيد، لان طبيعة الموارد الطبيعية وبالخصوص النفط هو ثروة ناضبة بالاضافة إلى انه سلعة دولية لا يمكن التحكم بسياساتها داخلياً من دون مشاركة العالم الخارجي وبالخصوص الدول المستهلكة له وسياساتها، ولذا فالاعتماد على النفط يجعل العيش لا يتصف بالاستقرار والدوم وانما يكون غير مستقر في الغالب حتى في حال ارتفاع أسعاره.
ويمكن التخلص من العيش على هامش النفط من خلال عدة نقاط يمكن إيجازها بالتالي:
اولاً: التخلص من الصفات المتلازمة والملاصقة للثروة النفطية وإيراداتها، أي العمل على ترشيق الدولة وزيادة فاعلية القطاع الخاص في الاقتصاد، وذلك من خلال اتباع السياسات السليمة والفاعلة والهادفة نحو التقدم إلى الامام.
ثانياً: العمل على تنويع مصادر الطاقة والايرادات المالية والتخلص من الاحادية الطاقوية والمالية، علماً ان كلاهما (تنويع الطاقة وتنويع الايرادات المالية) يغذيان بعضهما البعض.
ثالثاً: التقليل من أهمية السياسات المتبعة من قبل الدول المستهلكة للنفط على مستوى الأمد القصير والبعيد لمواجهة سياسة الدول المنتجة النفط من خلال الحفاظ على السعر العادل للنفط.
رابعاً: الاهتمام بمصادر الطاقة المتجددة وذلك من أجل تعويض خصائص الطاقة الاحفورية السلبية المتمثلة بالنضوب والتذبذب والتلوث، وهذا ما يحقق العيش المستقر.