مقومات ترسيخ ثقافة الاعتدال أو اللاعنف عند السيد محمد الحسيني الشيرازي

شارك الموضوع :

يمثل السيد محمد الحسيني الشيرازي امتدادا أصيلا للفلاسفة والفقهاء الذين يبحثون في كتاباتهم عن مفقود عزيز في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبشر ألا وهو العدالة ، تلك المفردة التي شغلت اغلب فلاسفة اليونان ، فطفقوا يبحثون عن مصاديقها في الوجود من خلال رؤى مختلفة قادهم إليها تأملهم العقلي العميق ، كما انشغل بها اغلب فقهاء وعلماء المسلمين ، فانبثقت من عقولهم مختلف المدارس الفكرية الإسلامية التي لا زالت مؤثرة في عالمنا الإسلامي ، ولا زال أصحاب العقول الحكيمة من مختلف حضارات بني الإنسان يبحثون عنها ويأملون الوصول إلى السعادة من خلال تحقيقها . إن انشغال السيد الشيرازي بتحقيق العدالة جعله يبحث عن مرتكزاتها وأسسها التي تقوم عليها ، وبنيتها الثقافية التي يجب أن تستند إليها ، فكانت هذه البنية الثقافية متمحورة حول الاعتدال أو اللاعنف ، فالاعتدال واللاعنف عنده يمثلان وجهان لعملة واحدة ، فالمعتدل غير عنيف ، والغير العنيف معتدل ، لذا سنتعامل مع المفردتين في هذه الورقة كمصطلح واحد ، على أن يكون واضحا في الأذهان أن اعتدال الشيرازي وعدم عنفه لا يعنيان بأي حال التنازل والتفريط في الثوابت الدينية التي يرتكز إليها منهج الحق والعدل ، إنما يعني تهذيب نفوس ، وطباع وسلوك ، المنتمين إلى هذا المنهج ، فلا يأخذهم التمسك المتزمت بالحق إلى حد التطرف المنفر أو العدواني ، كما لا يأخذهم حب تبليغه ونشره إلى حد الإفراط أو التهاون فيه . والاعتدال كما فهمه قدماء الفلاسفة يمثل السعادة أو الفضيلة الكبرى ، وبعضهم وصفه بأنه من أمهات الفضائل التي لا بد من التحلي بها لبلوغ المراد ، وهذا الاعتدال له عند السيد الشيرازي مقومات ، لابد وجودها لكي تأخذ ثقافة الاعتدال فضائها الرحب في الانتشار والترسخ في حياة المجتمعات ، قد يعتقد البعض أن هذه المقومات تتمثل في وجود الأحزاب الإسلامية ، وكثرة الدعاة والوعاظ ، وتأسيس وسائل الإعلام الإسلامية كالفضائيات ودور النشر وكثرة المؤلفات الإسلامية وغيرها ، نعم إن هذه الأمور مطلوبة لتمتين ثقافة الاعتدال ، لكنها ليست مقومات لها ، بل إنها بدون وجود المقومات المذكورة ستواجه تحديات قد تذهب بدورها وتضعف تأثيرها . إذا ، ما هي مقومات ثقافة الاعتدال عند السيد الشيرازي ؟ . إن هذه المقومات ، في اعتقاد معد هذه الورقة ، والتي خلص إليها من خلال تحليل وتأمل معمق لما كتبه السيد الراحل ، تتمثل في ثلاثة مقومات هي : وجود المنهج الصحيح ، ووجود المجتمع الذي يتقبل هذا المنهج ، ووجود نظام الحكم الذي يطبق هذا المنهج . أولا : وجود المنهج الصحيح يتمثل المنهج الذي تستند إليه ثقافة الاعتدال في كتابات الشيرازي بالدين الإسلامي ، وان الارتباط بأي منهج آخر يمثل لغوا فارغا ، الهدف منه ترقيع حياة المسلمين ، وتشويه منظومة قيمهم ، فالإسلام لديه " لم يكن لفترة معينة من الزمن ، بل هو لكل الأمم ولكل الأزمنة ، وقد تكفل بوضع العلاج لكل مشكلة ، يمكن أن لها أن تحدث في عصر من العصور ، كما أنه تدارك حدوث المشكلات قبل تحققها بوضع الطرق الوقائية السليمة للحيلولة دون وقوعها " ، وتغيير حياة البشرية نحو الأفضل ، يتطلب " أن نبدأ بنشر العقيدة الإسلامية في قلوب الناس ، ابتداء من التوحيد والنبوة ، وانتهاء ببقية أصول ومعتقدات الإسلام " ، كما أن " الإسلام هو الدين المستوعب لإحكام ما يفعله الإنسان سواء كان فعل الجوارح الظاهرة ، أو فعل الجوانح ، حتى أن تفكيره السيئ منهي عنه نهي تحريم أو كراهة ، وتفكيره الحسن مأمور به أمر وجوب أو استحباب " ، فالإسلام " هو الدين الصالــح لكل زمــان ومكــان ، وفيـه من الأسس والقواعــد مــا يجعله قابلا للتطبيق في مختلف الظروف ، وهو الذي يضمن سعادة البشر وتطوره وازدهاره " . إن تأكيد الإمام الراحل على وجوب العمل بمنهج الإسلام لنيل السعادة يتكرر في كثير من كتاباته ، وقد دفعه الإيمان بهذه الحقيقة إلى محاربة مقولة فصل السياسة عن الدين الإسلامي في حياة المسلمين ، فيقول في هذا الصدد: " .. السياسة من صميم الإسلام ، وان كل محاولة لفصل الدين عن السياسة هي من قبيل فصل العبادة عن الإسلام ، وقد كان رأي الأنبياء والأئمة عليهم السلام والعلماء أخذ زمام السياسة بأيديهم ما قدروا ، فان لم يتمكنوا من ذلك وجهوا الناس إلى وجوب ذلك ما قدروا " ، وينتهــي السيـد الشيرازي من تركيزه على هــذه النقطــة إلى القـول : " فالدين إنما يحدد سلطة الدولة لا أنه يحق للدولة أن تحدد سلطة الدين " . لكن قد يقول قائل : أن المدارس السياسية والفكرية الإسلامية كثيرة ، فأية مدرسة يأخذ بها السيد الشيرازي لتكون المعبر الأمين عن منهج الدين الصحيح ؟ ، يجيب الشيرازي على هذا التساؤل بشكل واضح عندما يحدد هذه المدرسة بمدرسة الرسول الأكرم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم ، ليقفز بذلك عبر الزمان رابطا منهجه الإسلامي الصحيح ربطا محكما بهذه المدرسة ، فالرسول صل الله عليه وآله " هو منبع الأخلاق ، ويعد بحرا زاخرا من المثل العليا ، والقيم الإنسانية ، والفضائل الأخلاقية في كل مناحي الحياة وجوانبها ، فهو القائد المعلم ، وهو الأب الروحي ، وهو المرشد ، وهو المصلح ، وهو الأمين " والاقتداء به سيقود الإنسان إلى الفوز والسعادة في الدارين ، وكذلك أهل بيته الطاهرين عليه السلام ، والإسلام الذي جاء به وطبقه الرسول وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام هو الذي يمثل المنهج الصحيح للأمة ، لأنه يوفر لها " الإيمان والرخاء والسعادة ، ويظهر الكفاءات وينميها ، ويكون أسلوب الحكم فيه حكما بالتساوي بين الناس ، دون مراعاة طبقية أو قومية أو عرقية أو ما أشبه ، ويكون حكما بالاستشارة دون استبداد وإلجاء وإكراه " ، والانحراف عن هذا المنهج هو " انحراف عن الإيمان والأخوة الإسلامية والحريات المشروعة ، بل هو ضرب للكفاءات ، وتعميم للاستبداد .. وهذا يوجب تأخر الإنسان وتشتت الأمة " ، وينتهي السيد الشيرازي في تثبيت موقفه هذا إلى القول : " الإسلام هو دين السلم والسلام وهو يعمل على نشر الأمن والأمان ، والسلم والسلام في العالم ، ويسعى في إطفاء نائرة الحرب وإخماد لهيبها وانتزاع فتيلها من بين الناس " . ثانيا : وجود المجتمع الذي يتقبل المنهج إن المتتبع لكتابات السيد الشيرازي لا تغيب عنه حقيقة ناصعة أراد السيد أن يقولها ومفادها : إن وجود المنهج الصحيح يحتاج إلى وجود المجتمع الذي يتقبله ، ويطالب بالعمل به ، فالإنسان مخلوق فريد من نوعه ، وهو " إذا لم يصرف فطرته الخلاقة في البناء ، لا بد أن يصرفها في الهدم ، سواء في هدم نفسه ، أو هدم مجتمعه " ، وهذه الفطرة الخلاقة " إما أن تخلق الحياة ، أو أن تخلق الدمار " . ولأجل أن تتحرك فطرة الإنسان باتجاه البناء والحياة ، لابد من اعتمادها القانون أو المنهج الصحيح الذي يحكم الفرد والمجتمع ، وهذا المنهج هو دين الإسلام ، كما جاء وعمل به الرسول وأهل بيته صلوات الله عليهم . يتضح هذا المذهب الشيرازي من خلال دراسة الكتابات الاجتماعية للإمام الراحل ، ففي هذه الكتابات يتم الحديث عن أنواع عدة من الاجتماعات الإنسانية ، سواء من حيث حجم الاجتماع أو طبيعة الفلسفة السائدة فيه ، أو النمط الاقتصادي السائد ، أو طبيعة الفضائل السائدة ، لكن الشيرازي يخلص من كل كتاباته الاجتماعية إلى جعل أفضل أنواع الاجتماعات الإنسانية هو الاجتماع الذي يعمل بمنهج الإسلام الصحيح ، " فحماية الوحدة الاجتماعية ونيلها للسعادة لا يكون إلا من خلال الرسالة السماوية التي جاءت عن طريق الأنبياء ، فيجب أن تكون الرسالة هي القانون ( أو المنهج ) الحاكم للاجتماع .. فهذا القانون .. مرتبط بالسماء ، والارتباط بالسماء يعني الارتباط بالآخرة ، والبشر حيث خرج من مظلة الأنبياء وقع في التخاصم والتشاجر ، فان قطعهم جذورهم السماوية سبب أن يكون بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " . إن وجود المجتمع الذي يستوعب المنهج الصحيح ، ويعمل به ، أمر ضروري لتحقيق السعادة في الحياة الإنسانية ، تلك السعادة التي تقوم على السلم والسلام والأمن والتعاون والتكامل ، وهذا الرأي للإمام الشيرازي ، يحكم على المجتمعات الإسلامية المعاصرة أنها تفتقد السعادة في حياتها لأنها لم تأخذ بمنهج الإسلام الصحيح ، وعملت بمناهج أخرى لم تجلب لها إلا الخراب والدمار وإثارة الشحناء والبغضاء فيما بين الناس حتى لو لبس بعضها ظاهرا ثوب الإسلام المزيف . وتأكيد الشيرازي على الحاجة لوجود مجتمع يتقبل المنهج الصحيح ويعمل به ، ينسجم تماما مع ما توصلت إليه الكتابات السياسية والاجتماعية المعاصرة ، التي وجدت أن تشريع القوانين ، وإقامة الهياكل الدستورية المؤسساتية للدول ، ومعالجة مشاكل الفساد ، والأمراض الاجتماعية الأخرى ، لن يكتب لها النجاح ولن تتوفر لها الظروف الملائمة للعمل بها ، ما لم تتحول إلى مطلب اجتماعي عام يضغط على صناع القرار ، وأصحاب النفوذ ، لدفعهم دفعا نحو إقامتها ، والعمل بها . ثالثا : وجود نظام الحكم الذي يطبق المنهج أدرك السيد الشيرازي أهمية وجود نظام الحكم المطبق للمنهج الإسلامي الصحيح في تحقيق التغيير ، للوصول إلى السعادة ، وتعميم ثقافة الاعتدال أو اللاعنف في حياة المسلمين ، فهو تأمل شأنه شأن الفلاسفة والعلماء المبدعين واقع نظم الحكم السائدة في عالمنا الإسلامي ، فخلص إلى نتيجة مفادها " إننا نعيش في يومنا هذا ولا نرى حكومة واحدة تعمل بالإسلام الذي قرره القرآن الكريم والسنة المطهرة ، سواء على ما رواه علماء الشيعة أو على ما رواه علماء السنة ، نعم ما يحكم به في بلاد الإسلام هو عادة مزيج من الأهواء والحكومة الشيوعية الشرقية ، وحكومات الغــرب ، وبع،،ض ما نسبوه إلى الإسلام " ، وقـــد تدعي بعــض هــذه النظــم أنهــا " صالحة لما فرضته من حالة سلم في الاجتماع من خلال استعمال القوة المفرطة أو الترهيب أو الترغيب وما أشبه ، ولكنها إذا لم تنجح في خلق الرضا الاجتماعي ، فإنها لن تستمر طويلا ، ولكي يتوفر الرضا الاجتماعي لا بد أن يكون الإطار القانوني المطبق مقبولا من الأفراد ( وجود المنهج الصحيح ) ، وكل إطار يفقد هذا القبول سوف يواجه النفور ، فالرفض ، وربما الثورة والتمرد عليه " ، ووجود حالة الرفض والنفور والبيئة الممهدة للثورة والتمرد ، بسبب فساد النظام الحاكم ، هو من أكثر الأمور الداعية إلى انتشار ثقافة التطرف أو العنف المناقضة لثقافة الاعتدال ، لذا يكثر السيد الشيرازي في كتاباته من ذكر أهمية الدور المحوري للنظام الحاكم المطبق لمنهج الإسلام الصحيح في تحقيق السعادة للناس ، وغير مهم طبيعة الآليات التنفيذية التي يمارس بها هذا النظام عمله ، سواء تلك التي ذكرها الشيرازي أو لم يذكرها في كتاباته ، فهذا أمر متروك إلى اختيار الأمة وتفضيلها ، المهم هو وجود هذا النظام ، وتأكيدا على ذلك يجعل الشيرازي : " نجاة المسلمين بإيجاد حكومة واحدة لهم ، تكون بالاختيار الحر لرئيسها المرضي لله " ، وهذه الحكومة ستنشر ثقافة الاعتدال أو اللاعنف من خلال : - تطبيق منهج السلم واللاعنف مع المعارضة السياسية المحتملة - وفي علاقاتها مع دول الجوار الإسلامية وغير الإسلامية - ومع الأقليات الدينية الموجودة - وعدم تشجيع ودعم جماعات العنف والإرهاب - وعند وضع السياسة العامة للدولة - والتركيز على العمل بسيرة الرسول وأهل بيته صلوات الله عليهم - ومنع تعذيب السجناء - وعدم ممارسة النفي والإبعاد لمواطني الدولة - واعتماد الشورى في الحكم - وعند وضع القوانين وتطبيقها - وفي وسائل الإعلام بجميع صورها - وفي مسائل العقيدة وحرية الاعتقاد - وفي المنظومة الأخلاقية للمجتمع بتطهيرها من الأخلاق الذميمة المحرضة على العنف كالكذب والحسد والغيبة والنميمة والغصب والرياء والقتل والتهمة وغيرها - وعند وضع البرنامج الاقتصادي للدولة - وفي قضايا الزواج وتكوين الأسرة - وعند تشكيل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وإدارتها - وفي التعامل مع المنظمات الدولية .... إن المهام الملقاة على عاتق نظام الحكم المطبق لمنهج الإسلام الصحيح من اجل ترسيخ ثقافة الاعتدال كبيرة وكبيرة جدا ، بحيث لا يمكن تصور إمكانية النجاح لهذه الثقافة بدون وجود النظام الحاكم ، وقد أوكل السيد الشيرازي للحوزة الدينية الشريفة مهمة العمل على أقامة هذا النظام بقوله " الحوزة هي عصب الدين ، وهي التي تقود المسلمين إلى شاطئ الأمن والسلام ، وبالتالي فهي تقودهم إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم " . هذه المقومات الثلاثة هي باعتقادنا التي تستند إليها ثقافة الاعتدال أو اللاعنف في كتابات السيد الشيرازي لترسيخ الوجود ، والانتشار ، والتطبيق ، والتأثير في حياة الناس ، والوصول إلى السعادة التي يحلمون بها في دنياهم وآخرتهم ، وبدون هذه المقومات لن يملك أي فكر إسلامي لأي مفكر أو قوة اجتماعية الإمكانية الحقيقية لجعل الاعتدال ثقافة عامة تحكم حياة الإفراد ، والمجتمعات ، والأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين ، أما المناهج الفاسدة ، والمجتمعات غير المؤهلة للعمل بالمنهج الصحيح ، والأنظمة الحاكمة الفاسدة فإنها ستخنق ثقافة الاعتدال ، وتشوهها ، وتحرفها عن جادة الصواب في نهاية المطاف .
شارك الموضوع :

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية