تؤثر الظروف التي عاشها ويعيشها الانسان (زماناً ومكاناً) في واقعه ومستقبله تأثيرا مباشرا والسبب لأنها تبرمج سلوكه وتحدد الاطر الفكرية العامة له ، فالإنسان يولد وينشأ وينمو ويموت في بيت معين واسرة معينة ومكان معين ، وزمان معين ، ويعيش في جماعة معينة لها تأريخها ومعتقداتها وعاداتها ، بمعنى ان الخصائص المادية الوراثية ، اضافة الى الخصائص التراثية ، والتاريخية ، والعقيدية لهذه الجماعة ، تنسحب على كل افراد المجتمع وتتحول وعيا وسلوكا .
ومهما حاول الانسان الافلات من الماضي وقيوده ومؤثراته ، من عادات وتقاليد ، وعقائد وافكار ، فانه لن يستطيع الافلات من قيوده ومؤثراته الا من خلال برنامج عقلي يستهدف من خلاله منظومته الفكرية ، بغية تغيير آليات تفكيره من حالة الى حالة اخرى ، والسبب لان كل من الماضي والبيئة الناشئة من خلاله يصنعان مستوى معرفي معين تقف عنده حدود الايديولوجيا الفردية والجماعية والاجتماعية الامر الذي تٌكتسب بفعله معرفة وتتشكل من خلاله بيئة معرفية تؤثر وتتأثر بالأوضاع العامة بصورة مباشرة او غير مباشرة ، ومن الضروري جدا اكتساب القدرة على المفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل آخذين بنظر الاعتبار قاعة التمييز بين مرحلة ومرحلة اخرى وماهو آت من مراحل ، وتتوقف عملية التنمية المعرفية والفكرية على الاستقلال المعرفي ونقصد به التفكير بعيدا عن المدارس المعرفية والأيديولوجية الوافدة والاستعانة بها لتتبنى التفكير الخالص ، وهنا ستحدث عملية أيديولوجية خطيرة جدا متضمنة الفصل اللامنطقي بين الاصالة والحداثة وهنا تبدأ عملية الارباك المعرفي الذي يساعد على ظهور منظومة البيئة بكما الهائل من الافكار والمعتقدات والقيم المعرفية الخاصة بكل مجموعة ، الامر الذي يؤدي الى التشطير الأيديولوجي فتطفو الى السطح مفاهيم مقيدة وأيديولوجيات محددة بأسس ومبادئ معرفية تقيد حدود التفكير او تؤدلج القادم منها باُطرها وقواعدها الخاصة.
من الضروري ان يكون عمل العقل وفق قاعدة التكييف السلمي الغير ملغم بالغام البيئة المعرفية القادمة ، منسجم تمام الانسجام مع القواعد الزمانية والمكانية ، عائدا للتراث بأصالته متحرك نحو الفضيلة بأسس ثابتة ، فالسؤال عن ما هو المطلوب لأمر المستقبل لكي تواصل الامة الاسلامية نموها وتبلغ آفاقا جديدة تتخطى بها واقع العطاء الحضاري المعاصر ، وتتصدى له ولتحدياته بدفعة معرفية جديدة لدرء المفاسد ورد المخاطر ، ومعالجة القصور والاشكال الناتج عنه بحيث يعيد العقل للدين والامة طاقتها وقدرتها وريادتها في اصلاح الواقع والانطلاق نحو المستقبل.
ومن البرامج العقلية والمعرفية التي ينبغي ان يتجه العقل الاسلامي المعاصر معها ، هي عملية التحرك او الانتقال من فترة التلفيق والتقليد الى مرحلة الاستعانة بالأصالة والتجديد والمبادرة ، لان الغوص في عمليات التلفيق والتقليد يحقق نتيجة طبيعية تنتهي عند الجمود والتقليد وتدهور منهجي معرفي ، بل يُبتنى على هذا الحال منهجية لفظية تجريدية تدور في دائرة النظر اللفظي في النصوص بعيدا عن التفهم والمتابعة العلمية المنهجية المنظمة للطبائع والوقائع والمتغيرات في النفوس والجماعات والمجتمعات الاسلامية والانسانية على مر القرون اللاحقة للعصور والتي لاتزال تتلاحق بفعل حركتي الزمان والمكان .
الاصالة الفكرية والمعرفية تنكر التقليد الأيديولوجي والمحاكاة واختيار منهجية التلفيق او التقليد او العودة الى العقدة المعرفية ، ذلك السهل العقيم على حد تسمية الحداثويين الاسلاميين ينعزل ويعزل كل الظروف المرتبطة به عن الواقع وممارساته العلمية لينحصر في دائرة النصوص من زاوية نظرية لفضية بحتة ، في الوقت الذي تحتاج فيه الامة الاسلامية الى انطلاقة اصلاحية تستهدف اشكالية التوقف عند حدود ثقافية معينة مؤطرة باطر الاصل او العرق او الانتماء او النظام الاجتماعي السائد او طبيعة النظام السياسي القائم او الاخلاق العامة ، او طبيعة النظام الاقتصادي القائم ، فكل محور من هذه المحاور يُشكل في ذهن الانسان برنامج معين من برامج التفكير لأنه يؤسس لمدرسة ذهنية تنتج أجيالا جديدة من الافكار الغير قابلة للانسجام مع أصل المجتمع وأصالته ، ومستقبل المجتمع بكل ماهو قادم اليه من باب المجهول الآتي ، وهكذا الحال يبقى كلما تقدم الزمن على ماهو عليه مالم تحدث هناك نهضة معرفية مرتبطة ارتباط وثيق بالماضي السحيق ذلك الماضي الاصيل ، متحرك نحو المستقبل بأسس ثابتة ، لبناء مجتمع سليم معرفيا متجه نحو التكامل المعرفي ، سائرا نحو المستقبل بخطى صحيحة من الصعب ان تتعرض للاضطراب والتغيير او الارباك.
الربط الدقيق بين الاصالة والحداثة لا يتم الا من خلال المعرفة وعبر (الايديولوجيا) فكلما كان البناء المعرفي والايديولوجي يخلو من المشاكل كلما ازدادت العلاقة بين الاصالة والحداثة واختفت بالتدريج فجوة النزاع مع الزمن ، وحل الصلح محل النزاع بين الامس (وحش الماضي ) وبين الغد (وحش المستقبل) ويصبح الفكر والواقع نتيجة طبيعية للإداء الاسلامي المعاصر، وهذا يعني بداية مرحلة علمية معرفية إيديولوجية ناهضة مستقلة تبلورها علوم اجتماعية اسلامية لها منابعها ومصادرها المعرفية المتميزة ، تمتلك فرضيات دقيقة خالية من المؤثرات ، ومنطلقات وغايات متميزة أيضا ، فتتبلور رؤى علمية معرفية وتنظيمية بديلة أصيلة ، ولا يضيرها ما يمكن ان تفيده من معلومات وانجازات توصل اليها غيرها ، بل انها تسعى الى ذلك وترحب به ، مادامت تأخذها بمقاييسها ومن منطلق معرفي متزن وغير مربك ، فخير ما وهبه الاسلام للإنسان المعاصر هو تكامل معرفته بتوثيق الوحي وحفظه وتحرير العقل واطلاق عقاله لكي يمارس دوره البناء في مجالات العلم والمعرفة والاصلاح والاعمار الايديولوجي.
اضافةتعليق