دخول القوات التركية للعراق: الاسباب والتداعيات

لم تكن العلاقات العراقية التركية السياسية حسنة قبل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ولكن السياسة التركية لم تكن في حالة عداء ولا حرب مع النظام السابق، بالرغم من وجود مشاكل ترتبط أساساً بالعلاقات التركية العربية عموماً والعراقية خصوصاً، ومن أهمها قضايا المياه حيث منابع نهري دجلة والفرات من الأراضي التركية، وعلاقات تركيا مع أمريكا وإسرائيل في ذلك الوقت، وتأثير الشمال العراقي الكردي على الحدود التركية العراقية، وبالأخص بعد تبني حزب العمال الكردستاني لنهجه المسلح الإرهابي ضد الدولة التركية منذ عام 1984 م، وضعف سيطرة الحكومة العراقية على الحدود العراقية التركية بفعل العقوبات والحصار الأمريكي والحظر الجوي الدولي على شمال العراق بعد حرب الخليج الثانية عام 1991م، حتى احتلاله، ومع ذلك فقد رفض البرلمان التركي السماح لأمريكا باستخدام الأراضي والقواعد التركية لضرب العراق عام 2003م، في ظل برلمان وحكومة حزب العدالة والتنمية، إلا إن موقف تركيا من العراق تغير جذريا بعد دخول داعش للعراق عام 2014. فقد بدا التدخل التركي المباشر في العراق من خلال قواتها العسكرية، وإقامة القواعد في شمال العراق ومدينة الموصل، لقد أثارت الإنباء والمعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام وتملك تركيا قاعدة عسكرية كبيرة في (بامرني 45 كلم شمال دهوك) في محافظة دهوك بإقليم كردستان منذ 1997 وتحديدا في موقع مدرج قديم كان يستخدمه رئيس النظام السابق لزيارة قصوره في مناطق سياحية قريبة، وتملك تركيا ايضا ثلاث قواعد اخرى صغيرة في (غير يلوك40 كلم) شمال العمادية و(كانيماسي 115 شمال دهوك) و(سيرسي 30 كلم شمال زاخو) على الحدود العراقية التركية، وهذه القواعد ثابتة وينتشر فيها جنود اتراك على مدار السنة، وباتفاق مع (سعود برزاني) رئيس الاقليم، بدون موافقة بغداد، او حتى حكومة الاقليم، الا ان المشكلة الحالية انطلقت مع ذكر شهود عيان عن دخول (3) أفواج عسكرية تركية كاملة العدد والتجهيز من معدات ودبابات ومدرعات واليات ومدافع وذخائر إلى معسكر الحشد الوطني في منطقة زليكان ضمن قضاء الشيخان التابع لمحافظة نينوى، كثيرا من التساؤلات والتكهنات عن تدخل عسكري تركي في شمال العراق، بين من اعتبره تدخلا في الشأن العراقي وخرقا للسيادة وبين من اعتبر مهمته عبارة عن عمليات قتالية مشاركا لمقاتلي ومتطوعي الحشد الوطني في إخراج مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية من مدينة الموصل. فعلى الرغم من ادعاء الجانب التركي إن هذا التدخل كان بعلم حكومة بغداد، وهو جزء من التحالف الدولي ضد داعش، إلا إن تصريحات المسؤولين العراقيين وعلى أعلى المستويات فندت ذلك الادعاء، فقد دعا السيد (حيدر ألعبادي) رئيس الوزراء العراقي، الحكومة التركية إلى سحب قواتها "فورا" من محافظة نينوى شمالي البلاد، معتبرا دخول قوات مع آليات عسكرية لتدريب مجموعات عراقية "خرقًا خطيرا للسيادة العراقية"، كذلك فعل رئيس الجمهورية (فؤاد معصوم) الذي اعتبر التدخل التركي عمل غير مسؤول، فيما دعا رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية في مجلس النواب إلى ضرب القوات التركية إذا تطلب الأمر ذلك. لقد فتح دخول القوات التركية إلى أراض عراقية في أطراف محافظة نينوى، الباب على قراءات متعددة، ولأسباب عديدة منها: 1- ذكرت معظم آراء المراقبين على أن الجيش التركي يحاول أن يخوض معركة مع حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية، بعد تسجيل الأخير حضورا واضحا في عملية تحرير قضاء سنجار، ومحاولة لإعادة تركيب خريطة التوازن مع وجود حزب العمال الكردستاني في عدد من المناطق الأخرى على الحدود في سوريا والعراق، إذ إن هدف تحركات حزب العمال يزيد من في سنجار غرب الموصل وتعزيز تواجده هناك، هو لفتح المزيد من الخطوط باتجاه الشمال السوري ملغيا الحدود مع العراق وتركيا، لهذا تأمل تركيا تحشيد قوات إضافية في شرقي نينوى والدخول إلى الموصل والغاء الحدود ايضا، وهو ما قد ينقل الطرفان معاركهما المؤجلة في جنوب تركيا وسوريا الى معارك داخل العراق، اذ كان تنظيم داعش الارهابي قبل اشتداد ضربات التحالف الدولي ضده، اشبه بقوة ضاربة وشرسة ضد الأكراد في المنطقة، سواء في سوريا، العراق أو في الداخل التركي، حيث يمثل التنظيم قوة مقاتلة بالوكالة لتركيا، بما ينسجم مع ضرب أية محاولات لنشوء دويلة أو واقع سياسي كردي في الحاضر أو المستقبل لا يقع تحت الهيمنة التركية أو لا ينسجم مع سياساتها. 2- ان بعض التقارير التي تذهب الى ان الوجود التركي الحالي في شمال العراق هو امتداد لاتفاق سابق مع الحكومات العراقية، هو غير صحيح، اذ أن الاتفاق السابق يسمح للقوات التركية بالتحرك على الشريط الحدودي ويمتد الى عشرين كيلوا متر داخل العراق وتركيا على السواء، وكان هذا مع النظام السابق لمواجهة الحركات الكردية المسلحة على جانبي الحدود، وليس لمسافة تصل الى أكثر من ١٠٠ كم، كما إن الاتفاق كان يسمح للطرفين باستخدام هذا الحق إلا إن تركيا لم ولن تسمح للعراق باستخدام هذا الحق منذ عقد الاتفاق، كما إن أسباب عقد الاتفاق لم تعد موجودة بالنسبة للعراق بعد 2003. 3- ماحدث هو هروب تركي الى الامام في الازمة مع روسيا، ومحاولة متأخرة لا ثبات جدية تركيا في حرب داعش. 4- إن كانت "تركيا المصنفة كأكبر حليف لداعش، تريد تدمير داعش فعلا، فلماذا تسمح له بالتنقل عبر اراضيها بكل حرية وتصدير النفط عبرها، ان هدف تركيا من اخراج داعش من الموصل هو خلق ترتيبات تمكن انقرة من اخراج التنظيم من واحدة من اهم ولايات الامبراطورية العثمانية من جهة، وادخال تركيا اليها من جهة ثانية، لأرباك الساحة السياسة العراقية بالشكل الذي يجعل العراق بلداً ضعيفاً يكون لتركيا فيه وضع التأثير المباشر فيه، خاصة مع زيادة الطلب التركي على الطاقة، متخذة كلاً من اقليم كردستان والموصل عمقاً استراتيجياً لها في العراق، خاصة بعد تدمير سلاح الجو الروسي لمعظم صهاريج النفط المهرب من سوريا اليها. 5- ارباك الوضع العالمي، اقليميا على اساس طائفي، الأمر الذي يهيئ لتركيا فيما بعد لأن تكون لاعباً وشريكاً مهماً في أية مفاوضات أو تحركات لا عادة ترتيب الأمور في المنطقة، ودوليا بالشكل الذي يجعل تركيا احد اللاعبين المهمين في السيطرة على الحركات المتطرفة السنية في المنطقة، بالإضافة إلى إرباك الوضع الأمني الأوربي، وجعله في حاجة إلى الدور التركي لتخفيف تأثير المقاتلين الأجانب عليه، بعد أن تحولت تركيا إلى ممر لهم الى سوريا والعراق، ولن يكون ذلك بالطبع بلا مقابل، بما يعظم فرص تركيا في الحصول على اية مكاسب سياسية أو اقتصادية، وتسعى تركيا لأن تكون احد أهم القوى التي يقع استقرار المنطقة تحت سيطرتها، خاصة أنها تمتلك جيشاً قوياً، وهي عضو في حلف الناتو. 6- تعرضت المنطقة الى اهتزازات سياسية واقتصادية واسعة وعميقة منذ أعوام تمثلت في انتشار تأثيرات الحرب الأهلية في سوريا على العراق وبلدان أخرى في المنطقة، ومن ذلك سقوط مناطق في العراق تحت سيطرة تنظيم داعش ومنها مدينة الموصل ذات الأهمية الاقتصادية الخاصة لتركيا في حزيران 2014، وقد سعت تركيا في محاولتها لبسط نفوذها على الحكومة في بغداد إلى تحويل اقليم كردستان العراقي تحت هيمنتها السياسية والاقتصادية، حيث تم تحويله وعبر سياسة الأمر الواقع ومنذ عام 2010 إلى منطقة شبه مستقلة فيما يتعلق بعلاقاتها مع الاقليم، أو فيما يتعلق بمستويات التبادل التجاري بينهما وخاصة النفط، وقد كان مسعود بارزاني أحد أهم الشخصيات التي سعت أنقرة الى تسويقه كراع للمصالح الكردية في المنطقة، لذلك ترى تركيا ان استمرار عمليات تحرير الانبار والموصل من قبل الجيش والحشد الشعبي من تنظيم داعش سوف تقترب كثيرا من مصالحها وخاصة الاقتصادية في شمال العراق لصالح دول اقليمية اخرى، وقد تطال عمليات التحرير اقليم كردستان نفسه بعد حدوث عدة مواجهات بين قوات البيشمركة والحشد الشعبي، لهذا تحاول استباق الاحداث ودخول الموصل بالاتفاق مع داعش والاكراد لفرض امر واقع في العراق. 7- يمكن أن يكون لأمريكا الدور الكبير في تأزم الاوضاع في المنطقة، فقد اصبحت تركيا اداة بيد امريكا لتنفيذ سياساتها في المنطقة، فرغم ان بعض وكالات الانباء قد ذكرت ، ان مسؤولين في دوائر الدفاع في الولايات المتحدة، بأن المبادرة التركية لا صلة لها بأعمال التحالف التي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الولايات المتحدة على علم بهذه العملية، وهذا الموقف المراوغ من الادارة الامريكية، يعني ان لامريكا ولتركيا اهداف اخرى وليس الاشتراك بالتحالف الدولي ضد تنظيم داعش. 8- بعد تصاعد الأحداث بين تركيا وروسيا على خلفية اسقاط الطائرة الروسية، فقد فرضت روسيا عقوبات اقتصادية على تركيا، ومنها حظر استيراد المنتجات الزراعية، وفرض تأشيرات دخول على الاتراك، وايقاف الاستثمار للشركات التركية في روسيا، وايقاف مد خط انابيب الغاز عبر تركيا الى اوروبا، كل هذه الاجراءات حسب المحليين الاقتصاديين سوف تكبد تركيا خسائر سنوية تقد ب(9) مليار دولار، هذه الخسائر الاقتصادية تحاول تركيا ان تعوضها من خلال التدخل في العراق لمساندة جهة فئوية على حساب اخرى، وذلك لكسب دول الخليج الى جانبها لحصول على الاموال الخليجية من اجل تعويض هده الخسائر. ان دخول القوات التركية للعراق سيكون له تداعيات كبيرة على تركيا والمنطقة، وقد تمتد الى العالم كله، وذلك ما للمنطقة من اهمية دولية واقليمية، خاصة وان دوا كبرى مثل امريكا وروسيا لها مصالح مهمة في المنطقة، ومن هذه التداعيات هي: 1- الحكومة التركية لا تزال تعاني من مأزق تورطها مع روسيا بسبب حادثة إسقاط الطائرة، والتي لم تنتهي بعد، وهذا التدخل العسكري التركي المباشر في العراق سوف يقوي الحجج الروسية ضد تركيا ورعايتها للإرهاب، واحتمال زيادة التوتر بين الطرفين، خاصة وان بض وكالات الإنباء أعلنت إن روسيا سوف تقدم مشروع قرار لمجلس الأمن حول التدخل التركي في العراق وسوريا، فعلى الرغم من احتماء تركيا بالفيتو الأمريكي، إلا إن أحداث المنطقة المتشابكة قد تقود إلى مساومات في غير صالح تركي، وبهذا ليس من مصلحتها أن تتورط مع العراق في مغامرة جديدة خاسرة. 2- لقد هددت الحكومة العراقية بانها سوف تتخذ كل السبل من اجل اخراج القوات التركية من العراق، ومنها وضع القوات الجوية على اهبة الاستعداد، كذلك ان الحكومة العراقية اعلنت انها سوف ترفع القضية الى الامم المتحدة خلال 48 ساعة، ورغم ضعف العراق العسكري مقارنة بالجيش التركي، الا ان أي مواجهة بين الطرفين ستكون عواقبها كبيرة على تركيا التي تعاني اصلا من المواجهات مع حزب العمال الكردستاني، كذلك تهديدات فصائل المقاومة العراقية المسلحة التي هددت الجيش التركي، وان مصيره سوف يكون نفس مصير الجيش الامريكي وهو الانسحاب من العراق بخسائر ثقيلة، كما ان المرجعية الدينية في العراق قد دعت الحكومة العراقية الى عدم التهاون مع أي انتهاك لسيادة العراق، فدعوة المرجعية الدينية وما تشكله من ثقل داخلي واقليمي سيكون له اثر مباشر على تركيا، ومصالحها في المنطقة، كذلك ان رفع القضية للأمم المتحدة سوف تقود الى تدخل الدول الكبرى ومنها روسيا وامريكا في القضية، خاصة وان أحداث المنطقة فيها الكثير من المساومات بين هذه الاطراف، وقد تنقلب الامور على تركيا، لهذا فان على تركيا ان تراعي مصالحها الاقتصادية وحياة رعاياها في العراق. 3- إن الاستراتيجية التركية الجديدة تحمل في طياتها تحديات جديدة في منطقة تعاني من أزمات كبيرة، وبالتأكيد ستكون لها تبعات خطيرة على أمن واستقرار تركيا نفسها، فالمنطقة ساحة للصراع والتنافس الدولي وخاصة الامريكي الروسي الايراني، وهناك بوادر دولية لحل الازمة السورية واليمنية، ودخول تركيا على خط الازمة ودخول قواتها في العراق يعد تجاوزا على اللاعبين الاساسيين فيه، لهذا سوف لن تسمح هذه الدول لتركيا بان تكون مصدر ازعاج لمصالحها في العراق. 4- لقد خرجت تركيا من حرب الخليج الثانية مثقلة بخسائر اقتصادية كبيرة، بعد أن فقدت رابع أكبر شريك تجاري هو العراق، الذي وصل حجم تبادلها التجاري معه في العام 1991إلى 5مليارات دولار سنويا، كذلك تكبدت تركيا خسائر جراء انخفاض حجم تجارتها مع دول الخليج عبر الأراضي العراقية، وبسبب افتقادها لمصدر أساسي كان يمدها بما يقرب من نصف احتياجاتها النفطية بأسعار مميزة نسبيا، وعلى الرغم من أن العلاقات العراقية - التركية قد شهدت تطورا ملحوظا في كافة المجالات، حيث عادت تركيا شريكا تجاريا مهما للعراق، الذي يصدر أكثر من نصف نفطه الخام عن طريق الأنبوب المار عبر أراضيها، الذي يصب في ميناء جيهان على البحر الأبيض المتوسط، واستثمار الشركات التركية في العراق وخاصة في اقليم كردستان، اذ وصلت الميزان التجاري مع العراق الى ما يقارب 11 مليار دولار 70% منها مع اقليم كردستان، واحتياج تركيا إلى التوسع الاقتصادي من جهة الاستثمارات والأسواق ، حيث يشكل القطاع الخاص 94% من الاقتصاد التركي، وهذا ما يعني ضرورة فتح أسواق للشركات والمنتجات التركية في العراق، الا ان دخول قواتها بهذه الطريقة الى الموصل قد يقود الى خسارتها للعديد من علاقاتها الاقتصادية، خاصة وان الحكومة العراقية عازمة وبقوة على تحرير كل مناطق من تنظيم داعش، كما ان اعتماد تركيا على حكومة الاقليم عمل غير مضمون العواقب خاصة بعد اتساع الصراع السياسي في الاقليم، وضد اهم اتباع تركيا وراعي مصالحها مسعود بارزاني، كما انه أعلن عن سحب الملحق التجاري العراقي من السفارة العراقية في تركيا، وظهور عدة دعوات في الداخل العراقي لمقاطعة البضائع التركية. 5- ان تدخل الجيش التركي في العراق يحتاج الى نفقات كبيرة، سوف ترهق الميزانية التركية التي تعتمد اساسا على الاستثمار الخارجي، والتصدير، لهذا فان حدوث مواجهات مع العراق قد يقود الى حدوث ازمات اقتصادية في تركيا. 6- ان حدوث ازمة حرب مع العراق قد تجر اليها سوريا وروسيا وإيران، ولو بشكل غير مباشر، وقد تؤدي الى حدوث اضطرابات في كل المنطقة، لهذا فان اغلب الدول ومنها امريكا الحليف الرئيسي لتركيا سوف لن تسمح بحدوث هكذا سيناريو، لان اي حرب اقليمية سوف تمتد بالتأكيد الى المصالح الامريكية في الخليج العربي، وقد تكون لها تأثيرات على امن اسرائيل. خلاصة القول، ان دخول قوات تركية الى العراق ستكون له عواقب كبيرة على تركيا والمنطقة عامة، لان منطقة الشرق الاوسط منطقة مهمة للعالم اجمع، لا نها ارض الثروات الطبيعية (النفط والغاز)، ومنطقة استراتيجية والتي تربط العالم، لهذا على تركيا ان تعي خطورة المنطقة، وان على دولها ان تكون اكثر حذرا لان النار التي تشتعل في بقعة منه سوف تنتشر الى بقية الدول شاءت ام ابت، قوية كانت ام ضعيفة هذه الدول، لهذا على تركيا ان تحترم تركيا سيادة العراق وتبحث عن حل لازمات المنطقة، بدلا من تأجيجها، لان عواقبها ستطال تركيا قبل غيرها.
التعليقات