سياسة التكيف والاندماج المرن للولايات المتحدة الامريكية تجاه العراق بعد عام 2014

مفهوم الاندماج المرن.

برز هذا المفهوم في الخمسينيات وكان أساساً وصفاً لتغيرات اوروبا السياسية والاقتصادية، فهو آلية تتضمن حركة باتجاه زيادة التعاون بين الدول، وثمة مستويين من الاندماج قائمين في العلاقات الدولية هما: -

المستوى الأول: هو الاندماج على مستوى النظام وهو يدل على آلية تنقل فيها الدول درجة معينة من سلطة صنع القرار السياسي والاقتصادي التي تتمتع بها الى مؤسسات فوق وطنية على مستوى عالمي كالأمم المتحدة.

المستوى الثاني: الاندماج الإقليمي وفيه ينضم عدد من الدول القريبة الواحدة من الأخرى لتؤلف اتحاداً فيدرالياً على المستويين السياسي والاقتصادي كالاتحاد الأوربي.

تكيف العراق.

دخل العراق إلى دائرة الاهتمام الأمريكي منذ وقت مبكر وبالتحديد بعد أن أضحت الولايات المتحدة الأمريكية قوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، لذلك سعت إلى زيادة نفوذها في العراق بعد أن باتت مقتنعة تماماً بأنه لا يمكنها السيطرة على منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط إلا بسيطرتها على العراق، ومن هنا باشرت الولايات المتحدة الأمريكية بتطبيق مخططها الاستراتيجي تجاه الوطن العربي عبر بوابة العراق متذرعة بالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان وحماية الأقليات بعد احتلاله عسكرياً وقبل احتلاله عملت على المبالغة والتهويل بالخطر العراقي على أمن العالم عبر أسلحة الدمار الشامل.

إذ بعد أحداث 11 أيلول 2001 تقلصت سياسة الاحتواء والردع، عبر اتباع سياسة التكيف وأصبح الهدف واضحاً وهو تغيير النظام العراقي تماماً بوسيلة الاجتياح العسكري، ومع ذلك فأن تكيف الولايات المتحدة الامريكية للعراق كوسيلة لتحقيق أهداف استراتيجية تتمثل بالآتي:

1- هدف اقتصادي: يتمثل أساساً بالسيطرة على النفط والثروات المعدنية العراقية الأخرى.

2- هدف سياسي: يتجسد في السيطرة الكاملة على مقدرات العراق من أجل اخضاع المنطقة العربية والضغط عليها لتطبيع العلاقة مع إسرائيل.

3- هدف استراتيجي: يتعلق بضمان زعامة الولايات المتحدة الأمريكية للمنطقة العربية عامة، كذلك تحقيق زعامة إسرائيل لها وذلك بتحقيق هدفهم الاستراتيجي بـ" دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات".

الاندماج المرن تجاه العراق بعد عام 2014.

أن سياسة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما تجاه العراق ، لاسيّما في فترته الثانية أظهرت كثيراً من الاستمرارية مع بعض التغيير عن الفترة الأولى نتيجة للظروف والمستجدات التي طرأت أثناء فترته الثانية، ففيما يتعلق بفك الارتباط بالعراق أظهر أوباما اهتماما محدوداً تجاه الحالة العراقية وهو جزء من تراجع الاهتمام الأمريكي العام بالمنطقة فقد كان هم أوباما هو الانسحاب من العراق والتخلص من التركة الثقيلة التي تركها له سلفه بوش الابن، إلا أن تطورات وضع العراق وصعود التنظيمات المتطرفة وعلى رأسها تنظيم “داعش” ساعدت على حصول نوع من العودة الأمريكية للساحة العراقية دون تدخل مباشر. أما فيما يتعلق بالموقف من العملية السياسية في العراق، فقد أعطت إدارة أوباما لموضوع مكافحة الإرهاب وقضايا التعاون الاستراتيجي والأمني أهمية قصوى كجزء من سياسة الاندماج المرن وذلك على حساب العملية السياسية وما تتطلبه من توازنات عبر الديمقراطية التوافقية التي حكمت العراق منذ عام 2003. 

  وكان من اللافت للنظر هنا هو تحول لغة أوباما من لغة الدبلوماسية والتركيز على فتح صفحة جديدة في العلاقة بالعالم الإسلامي، والتي بدئها في فترته الأولى وكما جاء في خطابه بالقاهرة في 2009، فقد حاول أوباما اقناع العالم بأن الحرب التي أعلنت على داعش هي حرب ضرورة وليست حرب اختيار، كتلك التي شنها سلفه بوش الابن على العراق عام 2003، وأن الهدف الوحيد من هذه الحرب هو مكافحة الإرهاب العالمي، ولان الحرب على داعش قد تستمر سنوات طويلة وهنا يستوجب تظافر كل الجهود الدولية للوقوف بوجه هذا الإرهاب.

وقد استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من الوقت والجهد في العراق على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية ، من خلال التعاون الأمني والاستخباراتي وتأهيل الأجهزة الأمنية العراقية، إضافة إلى قيامها بتدريب القوات العراقية المسلحة بكل صنوفها، و اعادة تأهيلها من حيث التنظيم والتسليح، وكذلك إعادة تأهيل المناطق المتضررة ، فلدى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر قنصلية في العالم في "أربيل " عاصمة إقليم كردستان العراقي، وتبلغ تكلفة المرحلة الأولى من بنائها 600 مليون دولار أمريكي، فهي تعد من بين أكبر السفارات الأمريكية من حيث المساحة، إذ تهدف زيادة النشاطات الأمريكية على الأراضي العراقية، والتأكيد الرسمي للإدارة الأمريكية حول التواجد العسكري، إلى تحقيق عدد من الأهداف بالنسبة لهذه الأخيرة، منها ما يتعلق بالعراق و مساعدة المؤسسات العراقية للاعتماد على نفسها في الفترة القادمة ومكافحة الجماعات الإرهابية حيث من الممكن تكثيف التواجد العسكري في العراق ًلاتخاذه منطلقا للعمليات العسكرية في سورية في ظل الانسحاب الجزئي منها، فضلاً عن مراقبة طهران وتحجيم النفوذ الإيراني في العراق عن طريق تشجيع الدول العربية على التعامل مع الحكومة العراقية وتنشيط العلاقات التجارية وفتح باب الاستثمار في العراق لمنع استفراد إيران بالسوق العراقية خلال الفترة القادمة ،  ومن المؤكد أن دونالد ترامب، الذي عارض الحرب على العراق عند شنها وعلى الرغم من قراره بتقليص خيارات وجوده في سورية أخلى الساحة تقريبا لروسيا وإيران، إلا أن تمسكه بالساحة العراقية كان واضحاً باعتبار العراق عقدة الاتصال بين إيران وسورية ولبنان،  وهذه الإستراتيجية اعتمدت على فضاء إعلامي واسع الانتشار ، إذ بدأت عملية الدعم لحكومة (عادل عبد المهدي) تتقلص امريكياً وتنعدم قنوات الاتصال معها ، فضلاً عن الضغط الاقتصادي على ايران وعلى غيرها من القوى الاقليمية من اجل تطويع ارادات القوى السياسية العراقية المحلية وابدالها بقوى سياسية تكون جاهزة لبناء تعاون استراتيجي طويل الامد مع الولايات المتحدة الامريكية ، فأن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب " كان عازم على تصحيح الخطأ الذي ارتكب من قبل الإدارتين الأمريكيتين السابقتين بوش الابن وباراك أوباما فالأول باحتلاله للعراق سنة 2003 ، حينما أسقط نظام الرئيس العراقي السابق "صدام حسين "قدم للنظام الإيراني هدية استراتيجية لا تقدر بثمن ، والثاني عززت سياساته المتهاونة مع النظام الإيراني نفوذه وتغلغله بكل مفاصل النظام السياسي العراقي بشقيه الحكومي وغير الحكومي، إذ بسياساتهما إزاء العراق دشنا لنظرية جديدة في العلاقات الدولية وهي نظرية المستفيد من الاحتلال ، لذا تعمل الولايات المتحدة على تغيير نهجها في العراق بالاعتماد على القوة الناعمة بدلاً من القوة العسكرية بهدف ضمان استمرار وجودهاـ

  إلا أن جائحة كورونا فرضت على الولايات المتحدة الامريكية استراتيجيات تكيّف مرحلية على الأقل لمواجهتها، تسعى من خلالها  لتصعيد الضغوط على إيران، وإضعاف نفوذها في العراق، ولو بالاستهداف المباشر للجماعات المسلحة المتحالفة معها، إلا ان احتلال الولايات المتحدة للمركز الأول للمصابين بالجائحة عالمياً، مع أكثر من 400 ألف حالة، وتداعياتها الكارثية على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، دفعها إلى الاتجاه بالحد الأدنى نحو صيغة تخفيض توتر ولو مؤقتة، مع إيران وحلفائها في العراق ، إذ أن تخفيض التصعيد في العراق هو مصلحة أميركية، فهو قد يساعد على تأمين الظروف لتشكيل حكومة عراقية جديدة ولتعزيز العلاقات العراقية – الأميركية.

نتائج سياسة التكيف والاندماج المرن.

وإن كان التكيف السياسي يعني: " ترسيخ المبادئ والافكار العامة لترسيخ السلطة في بنية المجتمع"، فهذا يعني أن رهان المرحلة على الأقل في العراق المعاصر قد فقد الكثير من مقومات بقائه، لاسيّما وأن النظرة السياسية في الأعم الاغلب وكما هي في حركتها التاريخية قد ارتبطت بالشخصيات السياسية نفسها، بل ولا يوجد هناك سياسي ما مجرد عن سلسلة من المبادئ والقيم يؤمن بها ومنها تخرج الافكار العامة لمشروع ترسيخ السلطة السياسية.

 وفي ظل هذه البيئة السياسية الدولية المتغيرة ، التي تحيط بالعراق وتفرض تحدياتها العديدة على جميع دول العالم بمستويات مختلفة تبعاً لإمكانيات الدول وفاعليتها في السياسة الدولية، أصبحت الدول وبالأخص الضعيفة أمام خطر الحفاظ على وجودها ككيانات سياسية، والعراق واحد من تلك الدول التي وجدت نفسها في مرحلة تاريخية تتسم بالتسارع، إذ فرض التغير والتغيير عليه تحدي الحفاظ على وجوده السياسي في بيئة دولية جعلت من منطقة الشرق الأوسط فضاءات لحسم صراعاتها في إعادة تشكيل النظام الدولي، مما يفرض عليه تحدي تطوير إمكانيات التكيف لديه إلى جانب إمكانيات الفاعلية من خلال تطوير فاعليته السياسية على صعيد السياسة الدولية.

 ويمكن للعراق بالرغم من كل عوامل الضعف التي تعتريه، ولاسيمّا بعد تجربة المواجهة مع وسائل الإرهاب العنيفة المتمثلة بالفكر والسلوك المتطرف للقاعدة وداعش أن ينتقل من التكيف بالمواجهة إلى التكيف بالمحافظة على النصر والانتقال به إلى مرحلة أعلى أمنياً ومجتمعياً بالشكل الذي يزيد من مناعته في مواجهة الإرهاب، إلى جانب الانتقال بالنصر من نصر محلي إلى نصر دولي، وذلك بتعزيز دور العراق في المنظمات والمحافل الدولية كفاعل دولي مهم في مواجهة خطر الإرهاب.

التعليقات