ضرورات التنويع الاقتصادي في البلدان النفطية

شارك الموضوع :

أن قيام الدولة الريعية سيفضي إلى تعطيل الجهاز الإنتاجي للبلد وانفصال العلاقة بين الإنتاج والعمل والسماح بشيوع الفساد في أغلب مفاصل الدولة فيتجه البلد نحو الانهيار

أصبح التنويع الاقتصادي يحتل مكانة مهمة في البلدان التي تعتمد على مصدر واحد في تمويل وتسيير حياتها الاقتصادية، إذ إن استمرار الاعتماد على هذا المصدر وخصوصاً إذا اتسم بغياب التجدد وعدم الاستمرار أي أنه ينفذ وتزداد سرعة النفاذ كلما تم الاعتماد عليه بشكل أكبر، سيجعل اقتصاد هذا البلد اقتصاد ركيك وغير متين بل هش ينهار بمجرد تعرض المصدر الذي يعتمد عليه إلى التقلبات.

فالتنويع الاقتصادي للبلد الذي يعتمد على مصدر واحد سيسهم في جعل اقتصاده غير ركيك ومتين ولم يتعرض للانهيار بفعل تعرض أحد مصادره إلى التقلبات سواء كانت داخلية أم خارجية أو غيرها ، المهم هناك مصادر متنوعة يعتمد عليها الاقتصاد تعوض الآثار السلبية الناشئة عن تعرض ذلك  المصدر للتقلبات.

قيام الدولة الريعية وانفصال الإنتاج عن العمل

وان الكثير من البلدان النفطية تعاني من مشكلة الريعية النفطية بالتزامن مع الهيمنة الحكومية، أي هيمنة الحكومات في البلدان النفطية على القطاع النفطي، وبهذا الخصوص يمكن الإطلاق على ما يعرف بالثنائية الذي تم تناوله في مقال بعنوان"ثنائية الاقتصاد العراق"، وهذا ما تسبب في خلق مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية، وكما يوضح خالد مطر مشاري في رسالته ، أن توفر موارد مالية هائلة من مصدر طبيعي أو استراتيجي يكون بحاجة إلى سلطة ريعية تسيطر على هذه الموارد وتعيد توزيعها على فئات المجتمع المتلقي لهذه الموارد(ونتيجة لانفصاله عن تكوينها يسمى بالمجتمع الريعي) وبالطريقة التي تضمن استمرار السلطة وديمومتها، ونتيجة لهذه العناصر الثلاثة موارد ريعية هائلة، سلطة ريعية، مجتمع ريعي، يكون قيام الدولة الريعية وتطورها في البلدان النفطية أمراً طبيعياً.

أن قيام الدولة الريعية سيفضي إلى  تعطيل الجهاز الإنتاجي للبلد وانفصال العلاقة بين الإنتاج والعمل والسماح بشيوع الفساد في أغلب مفاصل الدولة فيتجه البلد نحو الانهيار، حيث أن اعتماد الدولة على الموارد الريعية التي تتصف بحاجتها إلى صناعة كثيفة رأس المال ستؤدي إلى زيادة البطالة، وان انفصال العلاقة بين الإنتاج والعمل يجعل الدولة تشعر بأنها متفضلة على المجتمع كونهم لم يسهموا في الإنتاج لهذه الموارد، وكذلك تؤدي (وفرة الموارد الريعية) إلى شيوع الفساد حيث يتم استخدامها من أجل تحقيق المصالح الخاصة مادام لم يسهم المجتمع فيها، فانفصال العلاقة بين الإنتاج والعمل يؤدي إلى غياب المسؤولية والمتابعة والرقابة للدولة ما دام أنها توزع الموارد دون مقابل. 

إن الآثار السلبية المرافقة لقيام الدولة الريعية يمكن أن تنتهي في ظل توفر إدارة كفوءة لديها خطط ورؤى مستقبلية وإرادة حقيقة تدفع باتجاه تجميد استمرار الآثار السلبية ومن ثم معالجتها والانطلاق نحو البناء والتقدم الاقتصادي وذلك من خلال توظيف الموارد المادية والمالية بالشكل الذي يحقق التنويع الاقتصادي الذي أصبح من المسائل الملحة التنفيذ من قبل البلدان النفطية وذلك لعدة ضرورات يمكن تناولها كما يأتي

- نضوب الثروة النفطية

تعد الثروة النفطية إحدى مصادر الطاقة الناضبة وليس المتجددة أي أن لها وقت معين وستنفذ كمياتها، في حال تم استمرار الاعتماد عليها كنتيجة لعدم توفر البديل، وإن سرعة أو بطء نفاذ الثروة النفطية يتم بالاعتماد على الزيادة أو الانخفاض في كمية الإنتاج النفطي، فكلما يزاد الإنتاج النفطي كنتيجة لزيادة الطلب على النفط بفعل زيادة النمو الاقتصادي، كلما يؤدي ذلك إلى سرعة نفاذ الكميات النفطية المسموح بإنتاجها بشكل اقتصادي، والعكس صحيح كلما انخفض الإنتاج النفطي كنتيجة لانخفاض الطلب بفعل انخفاض النمو الاقتصادي كلما يؤدي ذلك إلى إطالة مدة بقاء الثروة النفطية.

لكن مهما طالت المدة لبقاء الثروة النفطية وعلى افتراض عدم ظهور البدائل المنافسة للثروة النفطية مع استمرار الاعتماد على النفط، ستنفذ الثروة النفطية في نهاية المطاف، وعند تحقق النفاذ ماذا سيكون مصير البلدان التي تعتمد على الثروة النفطية في تمويل اقتصادها؟! ولذا يكون من المنطق الاهتمام في اتخاذ إجراءات مناسبة من اجل استثمار وتوظيف الثروة النفطية الحالية في بناء اقتصاد متنوع حتى يكون قادر على مواجهة الآثار السلبية المرافقة للثروة النفطية وكذلك الآثار المفاجئة عند نفاذ كميته.

- ظهور البدائل 

على افتراض إن الثروة النفطية لم تنضب، فهل يمكن أن نضمن عدم ظهور بدائل منافسة للثروة النفطية؟! أن التطور التكنولوجي متجه نحو الأمام في البحث عن البدائل المنافسة للثروة النفطية وإذا لم يسهم اليوم في إيجادها سيجدها في المستقبل وبلا شك إن إيجادها سيفضي إلى انخفاض الأهمية الاقتصادية للثروة النفطية وبالتالي انخفاض دورها في تمويل الأنشطة التي تعتمد عليها، ومن ثم تدهور الاقتصاد، بفعل إصابته بالمرض الهولندي.

فالمرض الهولندي يتمثل اقتصادياً في انخفاض أهمية ومساهمة الأنشطة الاقتصادية في الاقتصاد وذلك بفعل أمرين الأول، ارتفاع أسعار الصرف، إذ إن زيادة الصادرات النفطية تولد المزيد من العملات الأجنبية فيزاد الطلب على العملة المحلية فيرتفع سعرها، وعلى هذا الضوء ترتفع أسعار السلع والخدمات التي ينتجها البلد مقارنة بأسعار السلع الأجنبية، فتنخفض الصادرات بل ويزداد الاستيراد بسبب انخفاض أسعار السلع الأجنبية. والثاني، ارتفاع أجور العاملين في القطاع النفطي هذا ما يحفز العاملين في القطاعات الأخرى على الانتقال للعمل في القطاع النفطي، هذا الانتقال سيسبب انخفاض عرض العمل في القطاعات الأخرى فترتفع أجورها في هذه القطاعات ومن ثم ارتفاع أسعار المنتجات لهذه القطاعات فتنخفض تنافسيتها وانخفاض صادراتها وربما زيادة الاستيراد ايضاً كما في الأمر الاول. وبالتأكيد انخفاض مرونة تكيف العمالة في القطاع النفطي ستزيد من حجم البطالة وما يرافقها من آثار سلبية، إذ إن طبيعة القطاعات الأخرى لا تحتاج إلى مهارة عالية كما هو الحال في الصناعات النفطية. 

- تحقيق العدالة الاجتماعية

معروف أن النفط ثروة وطنية عامة للجميع لا يمكن اقتصارها على بعض الإفراد دون الآخرين ولا تشمل جيل معين دون الأجيال الأخرى، فما دامت هي ثروة عامة للجميع لا بد أن تشمل الجميع تحقيقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية عبر اتخاذ كافة الإجراءات والأساليب والخطط الكفيلة بتحقيق العدالة حتى يسود الاستقرار اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إذ ان هناك ارتباط وثيق ما بين هذه المجالات، حيث لا يمكن تحقيق استقراراً اقتصادياً وسياسياً ما لم تحصل عدالة اجتماعية في توزيع الثروات ما بين أفراد المجتمع، لان الاقتصاد بحد ذاته هو علم اجتماعي يسعى إلى إشباع حاجات المجتمع بأقل الكلف وأفضل جودة، وما النظام السياسي إلا صورة للواقع الاجتماعي.

فلابد من تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع أفراد الجيل الحالي من جانب وبين الأجيال القادمة من جانب أخرى، في ظل ان النفط ثروة وطنية عامة للجميع، وأحدى الأساليب التي يمكن الركون إليها لتحقيق العدالة الاجتماعية هي الصناديق السيادية كما فعلت بعض الدول النفطية حيث اعتبرت موارد النفط هي حقوق للأجيال القادمة مع سحب نسب معينة عند الضرورة لتمويل الاقتصاد، حتى لا يتم سيادة الاسترخاء والاتكاء على النفط وإصابة المجتمع واقتصاده بالشلل.

الخلاصة

   إن اتسام الثروة النفطية بصفة النضوب وعدم تجددها أو ربما لم تنضب ولكن تنخفض أهميتها الاقتصادية نتيجة التطور التكنولوجي الباحث عن البدائل المنافسة للنفط وتعطي ما يعطيه النفط فتنخفض أهميته، فضلاً عن غياب العدالة الاجتماعية بين أفراد الجيل الحالي من جانب وبين الأجيال القادمة من جانب آخر، فالنضوب وانخفاض الأهمية الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية كلها ضرورات تحتم على البلدان النفطية إتباع وتنفيذ التنويع الاقتصادي حتى تتجنب مساوئ المرض الهولندي على الاقتصاد والمجتمع والسياسة، بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وعدم التعرض للآثار السلبية المفاجئة حال نضوب أو انخفاض أهمية النفط.

المصادر:

خالد مطر مشاري، مستقبل الدولة الريعية في العراق، رسالة ماجستير/ اقتصاد، البصرة، ص17-19 .

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية