في تمام الساعة الرابعة عصر يوم السبت الموافق26/3/2016 عقد مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية حلقته النقاشية الشهرية تحت عنوان(ازمة الاقتصاد العراقي: شحة موارد ام اختلال هيكلي) من على قاعة جمعية المودة والازدهار في كربلاء المقدسة وبمشاركة نخبة طيبة من الأكاديميين والباحثين ووسائل الاعلام المختلفة.
افتتح الحلقة الدكتور حيدر حسين آل طعمة التدريسي في جامعة كربلاء والباحث في مركز الفرات بادئا حديثه، بحقيقة مفادها ان الاقتصاد العراقي يعاني من مشاكل بنيوية كامنة داخل الاقتصاد العراقي، وان شحة الموارد هي نتيجة وليست سبب للازمة الاقتصادية الحالية، ويتسع مازق الاقتصاد الوطني مع استمرار موجات التذبذب والهبوط السعري في اسعار النفط الخام وعجز الحكومة عن تامين موارد مالية بديلة للنفط، يتزامن ذلك مع الحرب الضروس مع عصابات داعش التي تتطلب تمويلا مفتوحا لا موازنة تقشفية، وان انحسار تدفق المورد النفطي كشف وبوضوح عمق الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصادي العراقي، وهي ناجمة عن عقود من سوء الادارة والادمان المفرط على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد، مع ذلك يشكل الوضع الاقتصادي الراهن مناسبة جيدة لرصد انماط الاختلال والتشوه التي اعترت الاقتصاد العراقي منذ عقود، ورسم سياسات اقتصادية مناسبة تهدف الى نمو واستقرار اقتصادي مستدام.
ولتعزيز هذا المعنى وفق خارطة طريق نموذجية ومتطورة تهدف الى درء الاخطار عن الاقتصاد العراقي ومعالجة الاعتلالات المزمنة والمتجذرة، تمت استضافة الاستاذ المساعد الدكتور جواد البكري وهو اكاديمي وخبير اقتصادي متميز له العديد من الكتب والبحوث والمقالات التي ناقشت العديد من الموضوعات وخصوصا الازمات الاقتصادية.
الدكتور البكري اشار في ورقته، الى جزئية مهمة حاول من خلالها تعريف علم الاقتصاد على انه علم معقد كما هو حال كل العلوم الاخرى، لكن علم الاقتصاد يمتلك ميزة اخرى تجعله اكثر تعقيدا، كونه يلامس حياتنا اليومية بشكل مباشر ونحن دائما نسمع مصطلحات معينة من دون ان نعيها بشكل دقيق، من مثل الدخل القومي الناتج القومي الطلب الكلي وغيرها، لذا لابد ان نفكك تلك الاصطلاحات حتى نفهمها، غير ان ذلك لا يغير من الواقع شيىء كون الاقتصاد العراقي يمر بأزمة وهذه الازمة الكل يشعر بها، وان سبب هذه الازمة هو انخفاض اسعار النفط وهو ليس السبب الرئيسي طبعا، بل نحن اساسا لدينا اقتصاد مريض ولو كان الاقتصاد العراقي اقتصاد قوي لما اثرت عليه هذه الازمة على النحو الاتي، عند الرجوع الى اصل تسمية المرض بالاقتصاد تعني الاختلال الهيكلي وهذا الشيء مزمن وطويل الامد في العراق.
بين البكري أن الاختلالات الهيكلية نوعين: ظرفية وطويلة الامد، نحن في الاقتصاد العراقي يوجد عندنا اختلالات طويلة الامد منذ أكثر من ثلاثين سنة، وقد يسأل سائل من اين اتت هذه الاختلالات؟ بداية دعونا نتعرف على الهيكل الاقتصادي وهو عبارة عن النسب والعلاقة الموجودة بين قطاعات الاقتصاد وبين متغيرات الاقتصاد الكلي، النسب هنا تمثل القطاع الزراعي والقطاع الصناعي والقطاع التجاري والقطاع النفطي والقطاع الخدمي، واقع الاقتصاد العراقي يقول لدينا اختلال كبير فالقطاع النفطي يأخذ النسبة الاكبر بينما بقية القطاعات تحصد نسبة منخفضة، اما ما يتعلق بموضوع العلاقة فتعني الربط بين الدخل والاستهلاك وبين الدخل والاستثمار وهذه العلاقة هي ايضا فيها خلل.
وقال ايضا، ان المشكلة بالأساس تتشكل على هذا النحو: النفط العراقي تقوم بتصديره شركة سومو، وهذه الشركة تقبض عائدات النفط بالدولار وتحولها الى وزارة المالية، وزارة المالية العراقية تسدد رواتب الموظفين بالدينار العراقي وبدورها تقوم بتحويل الدولار الى البنك المركزي وتستلم وزارة المالية بدل كل دولار 118 دينار عراقي، وهذه الالية مستمرة منذ عشرات السنوات فمع انخفاض هذه الايرادات حتما ينخفض الدولار وبالتالي يحصل انخفاض بالدينار العراقي، البنك المركزي من جهته لا يقرض الحكومة ولا اي مؤسسة شبه حكومية او شبه رسمية دينارا واحدا وهذا قانون وفقرة اولى من فقرات عمل البنك المركزي ، عندها لم يتبق لوزارة المالية وهي تعد الموازنة التي تقوم على جانبين الجانب الاستثماري وهذا الجانب لا توجد فيه مشكلة؛ لأنه معطل من زمن كون الاستثمارات غير حقيقية وفيها شبهة فساد، المشكلة تكمن بالجانب التشغيلي وهو يشكل 71% من الموازنة وهذه حالة فريدة ولم تكن موجودة قبل 2003،
والسبب هو الانتخابات والاستحقاق الانتخابي فالكثير من الكتل والاحزاب السياسية تحاول توظيف مجموعة من الاشخاص لأغراض انتخابية، وعلى هذا الاساس حصل تضخم غير اعتيادي بعدد الموظفين حتى وصل الرقم الى اربعة ملايين موظف في الحكومة العراقية، وتعد فقرة الاجور والرواتب اهم فقرة في الميزانية فاذا ما انخفضت الايرادات بالدينار العراقي لابد ان يقابلها انخفاض في الرواتب وممكن وبعد استمرار تدني اسعار النفط ألا نجد دينارا واحدا في الخزينة العراقية.
وذكر البكري/ ان الحلول الحكومية اليوم خاطئة جدا وهي تسير عكس المسار، لدينا في الاقتصاد نوعين من الاقتصاد: اقتصاد عيني وهو السلع والخدمات الموجودة داخل البلد، والاقتصاد النقدي وهي الاموال، وهنا لابد ان نحقق التوزان ما بين الاقتصاد العيني والاقتصاد النقدي، في حال اختلال اي طرف من اطراف هذه المعادلة سيحدث تضخم وسوف نلجئ الى سياسات انكماشية على امل ان نعيد ذلك التوزان، ففي حال وجود كثافة في المعروض النقدي نقلل من الانفاق الحكومي، ومن الحلول المطروحة ان نزود الضرائب وممكن رفع سعر الفائدة حتى نقلل من الاقتراض وهنا ايضا يمكن الاتكاء على نسبة الاحتياطي القانوني لبعض البنوك التجارية والمصارف، لكن في الاقتصاد العراقي اليوم بالضبط عكس هذه الحالة فالسلع كثيرة والسيولة قليلة او بمعنى ادق اقتصاد عيني كبير واقتصاد نقدي قليل، لذا لابد ان نعتمد اجراءات توسعية وان نزود المعروض النقدي وهذا يتم عن طريق زيادة الانفاق الحكومي وخفض الضرائب وخفض سعر الفائدة وخفض نسبة الاحتياط القانوني، وكل هذه المعالجات تهدف الى اخراج الاقتصاد العراقي مما هو فيه، وقد يسئل سائل الدولة من اين لها دنانير حتى تزيد الانفاق الحكومي، وهناك مجموعة احتمالات.
الاحتمال الاول: بيع ممتلكات الدولة وهذا توجه صحيح ومنسجم الى حد ما مع فكرة اقتصاد السوق التي نتعامل معها الان، لكن في الوقت ذاته ومع وجود افة الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة العراقية اكيد المسؤولين والفاسدين أنفسهم هم من سيستولون على تلك الممتلكات وبأثمان بخسة.
الاحتمال الثاني/ رفع صرف الدولار امام الدينار الا ان هذا الخيار سيدفع باتجاه رفع الاسعار مما يشكل عقبة امام المواطن، وهناك ثمة خيار اخر ممكن ان نذهب اليه وهو جعل سعر الصرف الدولار على شكلين: سعر صرف للتجار وسعر صرف للمواطنين، وهذا ما كان معمول به ايام النظام السابق حيث كان هناك 13 نوع من انواع صرف الدور، وهذا المعنى له ايضا خصوصية معينة كون فئة التجار هي الغالبة وهي من تحتاج للدولار أكثر بحكم عمليات الاستيراد من الخارج.
الاحتمال الاخير والنهائي/ العراق اليوم يعيش الفجوة الانكماشية اي ان هناك خلل بين الطلب الكلي والعرض الكلي، فنحن الان نستطيع ان نضخ اموال الى حد معين من دون ان يحصل تضخم، وكما هو الحال ايام النظام السابق من دون ان نتمادى كثيرا بهذا المجال، فاذا ما استمرت اسعار النفط بالهبوط ووجود ذلك التشوه الهيكلي فنحن امام خيارين: الاول عدم استطاعة الحكومة دفع رواتب الموظفين. الخيار الثاني يمكن ان نمارس فلسفة السحب على المكشوف من البنك المركزي، بطبيعة الحال ان متغير النفط هو متغير سياسي وهو قائم على طرفي المعادلة امريكا والسعودية من جهة وإيران وروسيا من جهة اخرى علما ان الطرفين هم في عداد الخاسرين.
المداخلات:
الدكتور خالد عليوي العرداوي مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية، عرض في مداخلته أسئلة عدة منها: ماذا يعمل صانع القرار السياسي في هذا الظرف خصوصا وان كل الحلول هي ليست في صالحه؟ وهناك شحة في الموارد واختلال بنيوي وكلاهما يصيبان الدولة العراقية في العمق فكيف يتخلص صانع القرار من هذه الازمة؟ تحدثتم عن النفط كسلعة سياسية أكثر من كونها سلعة تجارية، البعض يتكلم عن النفط انه وصل الى ذروة الطلب وليس الى ذروة العرض، فهل حصل هذا فعلا مع تزايد الحديث عن الموارد البديلة؟ ولو استمرت اسعار النفط بهذا الحال اي بمستوى الاربعين دولار هل تستطيع الحكومة العراقية ان تتحمل اعبائها مع وجود الخطر الارهابي الذي يضرب البلد ووجود هذا الجيش الكبير من الموظفين والنفقات التشغيلية الضخمة؟ واضاف العرداوي، إذا ما أردنا ان ننمي الاقتصاد العراقي ولا اقول ان نضع خطة شاملة للتنمية التي تحتاج الى مشروع سياسي يدعمها وهو غير واضح لحد الان، ما هي خطوات تنمية القطاعات الاخرى البديلة كقطاع الزراعة وقطاع الصناعة؟ ماذا يجب على صانع القرار ان يعمل في الفترة القادمة حتى يجعل تلك القطاعات تشكل رافدا مهما لموازنة الدولة ربما يصحح من خلالها اختلالات اقتصاده العميقة؟ الموضوع المهم الاخر كيف نحمي المواطن من الاجراءات الحكومية، خصوصا ان هناك قروض اجنبية يحاول صانع القرار الاعتماد عليها حتى يتلافى الازمة المالية والنقدية التي يمر بها العراق ؟
الاستاذ حمد جاسم محمد تدريسي وباحث في مركز الفرات، يتساءل الا يعد الاقتراض الخارجي والداخلي من وسائل الضغط على الاقتصاد العراقي؟ كذلك بالنسبة لإعادة الاموال المهربة وفرض الرسوم والجمارك، ذكرتم ايضا ان سبب انخفاض اسعار النفط هي الدول المنتجة للنفط والامر هنا يتعلق بالسعودية على وجه التحديد علما ان هذه الدولة لم يتغير مستوى انتاجها النفطي منذ سنوات طويلة ناهيك عن ان الاسواق النفطية العالمية شهدت حالات صعبة تمثلت بخروج ليبيا وسوريا وإيران وانخفاض مستوى انتاج النفط العراقي بسبب داعش فكيف وصلت اسعار النفط الى هذا المستوى فبدل ان ترتفع نجدها تنخفض؟
الاعلامي عدي الحاج من اتحاد وكلات الانباء الالكترونية، قال ان هناك وفرة كبيرة في موارد العراق فاين يكمن الخلل هل في النظام الاقتصادي ام بأصحاب القرار؟
وعلى الصعيد ذاته اوضح الدكتور عقيل الكركوشي التدريسي في جامعة كربلاء، انه يعتب كثيرا على القدرات الاقتصادية الاكاديمية العراقية كونها لم تكون بمستوى المرحلة ولم تتقدم باتجاه تطوير المجتمع اقتصاديا، كما انها مطالبه بتحويل علم الاقتصاد من مجموعة نظريات الى سلوك ومنهاج حياتي، الانسان العراقي والمجتمع العراقي على حد سواء ليست لديهم نزعة استثمارية فألى متى يبقى المواطن العراقي اسير للنظام الحكومي ولا يخرج منه.
من جانبه باسم عبد عون التدريسي والباحث في مركز الفرات، علق قائلا الاقتصاد العراقي يعاني من غياب فلسفته، وهو متناقض مع نفسه خاصة وان مستوى الوعي الاقتصادي في العراق يسير باتجاهات متباعدة من النظم الاقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية والاسلامية، ايضا الاختلال الهيكلي بسبب تخمة الموارد وخاصة الموارد الريعية التي تعتمد على مصدر واحد وهو النفط، هذا سبب هذا الاعتلال خصوصا وإننا ندور في حلقة تقوم على تعضيد دور السلطة وليس تعضيد دور المؤسسة.
ويرى الشيخ مرتضى معاش العام المشرف العام على مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام بأنه خلال متابعته المستمرة للوضع الاقتصادي العالمي يجد العالم باسره يعيش حالة من الاعتلال الاقتصادي، هذا مما انعكس تلقائيا على الاقتصاد العراقي، ومن خلال ما تحدث به الدكتور البكري استنبط وجود عوامل مهمة لمرض هذا الاقتصاد منها التضخم الوظيفي وتفضيل القطاع العام على القطاع الخاص وانه اقتصاد استهلاكي لا انتاجي استيرادي لا تصديري، بالإضافة الى ذلك هل يعتبر ربط الدينار العراقي بالدولار الامريكي حالة صحية للاقتصاد العراقي ام سلبية؟، ومن جهتي اجد أن اهم المقترحات لتجاوز هذه الازمة هي الاستثمار والقضاء على البيروقراطية والتخلص من قمع القوانين، في الصين على سبيل المثال تحتاج فقط الى يومين كي نحصل على فرصة استثمارية، نحتاج حقا الى فهم فلسفة الاقتصاد العيني والاقتصاد النقدي وكيفية ربطها بالواقع العراقي، وهل يمكن تحويل السيولة النقدية بالدينار العراقي والتي لا تحتاج الى الدولار الى قطاع العمل من اجل تشغيل اليد العاملة خدمة للأعمار؟
الدكتور عامر المعموري الأستاذ في كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة كربلاء، شكر الدكتور المحاضر لأنه استطاع عبر عنوان هذه الحلقة ومثلث الازمة الشحة الاختلال ان يفكك وبجدارة هذا المثلث، وان الازمة في العراق ليست شحة موارد بل هي مشكلة نظام سياسي وازمة بناء دولة في ، خصوصا أنه وعبر تاريخ العراق الحديث نجد ان الانظمة السياسية تعاملت مع الموارد لمصالحها فعملت على حرق هذه الموارد من اجل ديمومتها، لذلك تلك الانظمة هي من اوجدت الاختلال الاقتصادي وان اصلاح ذلك النظام ينعكس ايجابيا على النظام الاقتصادي.
على الصعيد نفسه الدكتور حيدر حسين آل طعمة مدير الجلسة قال: حاليا العراق يعيش مخاضا سياسيا، وهناك تلويح بإصلاحات اقتصادية جذرية، والسؤال هل فك ارتباط الاقتصاد العراقي بالمورد النفطي ممكن في الوقت الحالي ام الجهود تتركز فقط لتجاوز هذه المرحلة من الهبوط السعري لأسعار النفط؟
توجه بعدها الدكتور جواد البكري، بالإجابة على الاستفسارات والاشكاليات التي طرحها الحاضرون وبشيء من التفصيل والمقاربة لبعض الحقائق الاقتصادية والاكاديمية، والتي تنص على ضرورة الخروج من الازمة وفق استراتيجيات قريبة وطويلة الامد واستغلال امثل لكافة الموارد البديلة للاقتصاد العراقي.