الاقتصاد الدائري للكربون: مدخل حديث لمواجه التغير المناخي

شارك الموضوع :

إن هناك ثلاث مرافق قيد التشغيل لاحتجاز وتخزين الكربون في كل من السعودية والامارات وقطر وهي تحتجز 10% من ثاني اوكسيد الكربون العالمي الذي يتم التقاطه سنوياً والمقدر بنحو 40 مليون طن في عام 2020. وعليه أصبح بمقدور الدول النفطية التي تشهد تزايداً بالانبعاثات بسبب هذا القطاع تحويل نقمة الانبعاثات من خلال الاقتصاد الدائري للكربون الى نعمة ممكن الاستفادة منها والموائمة بين النفط والمناخ

باتت التغيرات المناخية التي يشهدها العام اليوم تمثل تهديد واضحاً لكل جوانب الحياة، فهي أزمة خارجية لولبية ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية ...الخ، ومن المتوقع أن يعمل تغير المناخ على مضاعفة المخاطر الاقتصادية ويُصعب من معالجة الفقر ويزيد من انعدام الامن الغذائي، وقد يؤدي الى مزيد من الآثار السلبية على الاستقرار والامن الدوليين وتهديد البنية التحتية للطاقة والنقل...الخ. 

وتُشير الدراسات الى إن تكاليف التغير المناخي باهظة الكلفة ففي دراسة حديثة بعنوان (دراسة قياس التكلفة البشرية للاحتباس العالمي) الى إن ثلث سكان العالم سيعيشون في ظروف شديدة الحرارة بحلول عام 2080 إذا استمر العالم في مساره الحالي، وهناك دول في أوروبا والشرق الأوسط ستقع تقريباً خارج نطاق المناطق التي يصلح للإنسان العيش فيها، إذ سيؤدي ارتفاع درجات الحرارة الى مزيد من الوفيات المرتبطة بالحرارة ويقلل من الإنتاجية ويؤدي الى انخفاض غلة المحاصيل الزراعية وزيادة الهجرة وانتشار الامراض المعدية  وتتسبب ظاهرة النينيو (وهي عبارة عن ارتفاع في درجات حرارة سطح المحيط عن المتوسط كل 3-7 سنوات وتستمر لمدة عامين) تتسبب في تغيرات مناخية حادة.

في حين ترى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة إن هناك احتمالاً أن تكون احدى الأعوام الخمسة القادمة هل الأعلى حرارة في التاريخ المدون، وإن الأعوام 2023-2027 هي الأعلى دفئاً في التاريخ، وقد أعلن مركز التنبؤ بالمناخ الأمريكي إن الاضرار الناجمة عن ظاهرة النينيو ربما تبلغ نحو 84 ترليون دولار.

من جانب آخر، تتجه الأنظار مباشرة إلى مصادر الوقود الأحفوري لاسيما النفط والغاز، لتصنيفهما كمسؤول أول عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المضرّة بالبيئة، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2)، في ظل ما تشهده الكرة الأرضية في السنوات الأخيرة من تغيرات مناخية شديدة.

{img_1}

وفي ظل هذه التحديات، انبرت المؤسسات والمنظمات المالية الدولية والبنوك المتعددة الأطراف وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي... الخ، لمواجهة هذا التهديد الخطير من خلال توفير الموارد المالية لدعم المشاريع المراعية للظروف المناخية، سواءً عبر ابتكار منتجات وأدوات مالية جديدة مثل (السندات الخضراء والبنوك والخضراء والأسهم الخضراء والصناديق الخضراء... الخ) او عن طريق فرض الضرائب على الكربون للتخفيف من آثار هذه الظاهرة والتكيف معها.

الاقتصاد الدائري للكربون: منهج حديث لمواجهة التغير المناخي

الى جانب الاهتمام بالتمويل الأخضر المراعي للبيئة والصناعات الخضراء والقليلة الانبعاثات، بدأت الدول في الآونة الأخيرة التفكير في طرق أخرى جديدة لمواجهة هذا التحدي الكبير والخطير، ويمثل الاقتصاد الدائري للكربون Circular Carbon Economy (CCE) أحد الاتجاهات الحديثة لإدارة الانبعاثات الكربونية ويمثل إطار عمل ونظام يهدف الى تقليل الانبعاثات وإعادة تدويرها، وينصب تركيزهُ على قطاع الطاقة وانبعاثات الكربون الناجمة عنها، كما إنه يستهدف الانبعاثات بدلاً من استهداف الطاقة، ويسعى الى تحقيق توازن كاربوني أو انبعاثات صافية صفرية من خلال استهداف الانبعاثات الكربونية من القطاعات الاقتصادية الرمادية بما فيها قطاع الطاقة والصناعات التحويلية. 

تم تطوير مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون لأول مرة  من لدن William   كامتداد لمفهوم الاقتصاد الدائري مع تطبيقه على قطاع الطاقة وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وفي عام 2017 اقترح ماير Mayer نموذجاً تفصيلياً للاقتصاد الدائري للكربون والذي من شأنه أن يسمح لألمانيا استبدال النفط الخام بالنفايات المنزلية والفحم كمادة وسيطة لصناعة الكيمياويات، الى جانب الهيدروجين الأخضر المتولد من مصادر متجددة وهذا من شأنه أن يسمح بالكامل الى اغلاق دورة الكربون على المدى الطويل، بعد ذلك قام مجموعة من المبتكرين في الولايات المتحدة الامريكية بنشر ورقة بيضاء حول (ابتكار الكربون الدائري) لتعبئة رأس المال للتقنيات التي تسعى الى توليد قيمة اقتصادية من التخفيض أو الاستخدام.

وخلال رئاستها لمجموعة العشرينG20  في عام 2020 أطلقت المملكة العربية السعودية مفهوم اقتصاد الكربون الدائري كإطار عمل لتقليل الانبعاثات إلى مستوى يتوافق مع أهداف اتفاقية باريس، وقد اقره قادة مجموعة العشرين ووزراء الطاقة، ومن ثم تم تطويره بشكل مشترك في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية (كابسارك) وتم اطلاقه في عام 2020 ليكون أداة متخصصة يستخدمها أصحاب المصلحة والحكومات المختصين بسياسات تغير المناخ المختلفة لتقييم التقدم المحرز واتخاذ القرار في العلاقة بين الطاقة والانبعاثات والاقتصاد، هدفه النهائي -الحيادية أو الصفرية-  في انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون، ويهدف هذا المفهوم الى توفير إطار شامل وغير متحيز للتكنلوجيا وفعال من حيث التكلفة، وهو يحاول الإجابة على الأسئلة الاتية:

* كيف يتعامل بلد ما مع الخيارات والتقنيات الرئيسة للتخفيف من تأثير تغير المناخ من حيث العمق والتنوع مقارنةً مع الدول الأخرى.

* كيف تكون الدولة في وضع تمكنها من تسريع التقدم نحو الاقتصاد الدائري للكربون مقارنةً مع الدول الأخرى.

* كيف تعمل الدول على تحقيق مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون وما حجم ما تملكه من إمكانات للتسريع.

* كيف تُدير الدول الرئيسة المنتجة للنفط في العالم دائرية الكربون وتُجهز قطاعي النفط والغاز والصناعات ذات الصلة للتحول الى الاقتصاد الدائري للكربون. 

ويعتمد مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون على مفهوم الاقتصاد الدائري مع ميزتين مهمتين وهما 

* تركيزهُ حصرياً على الطاقة والانبعاثات (بدلاً عن المواد والمنتجات والنفايات) 

* إضافة ركيزة رابعة الى الركائز الثلاث وهي التقليل وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير والازالة.

ويكمن الهدف الأساسي للاقتصاد الدائري للكربون الحد من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والغازات الدفيئة من خلال الركائز الأربعة التي تشمل تقليل الانبعاثات من خلال كفاءة الكربون وإعادة استخدام الكربون من خلال تحويلهُ الى مواد مثل البوليمرات والخرسانة وإزالة ثاني أوكسيد وتخزينه في الاحواض الطبيعية. وتعمل المحاور الأربعة (التخفيض وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير والإزالة) للاقتصاد الدائري للكربون كفئات من خيارات التخفيف.

مخطط (1) ركائز الاقتصاد الدائري للكربون

{img_2}

يركّز الاقتصاد الدائري للكربون على الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتخفيف آثار تغير المناخ من خلال تصميم أنظمة تحتفظ بالكربون قيد الاستخدام، بدلاً من إطلاقه في الغلاف الجوي. يتضمن ذلك إنشاء أنظمة الدائرة المغلقة حيث يتم تقليل النفايات إلى الحد الأدنى، ويتم الحفاظ على المواد والطاقة تشمل المكونات الرئيسة للاقتصاد الدائري للكربون استخدام الطاقة المتجددة، واحتجاز الكربون وتخزينه، والزراعة المستدامة، وتطوير تقنيات جديدة لإعادة التدوير وإعادة استخدام المواد القائمة على الكربون، وذلك بهدف إنشاء نظام اقتصادي مستدام يوازن بين النمو الاقتصادي وأمن الطاقة وحماية البيئة.

ويؤكد نهج الاقتصاد الدائري للكربون على الحوافز والفوائد الاقتصادية المرتبطة بإدارة الكربون وهذا يشمل تحويله الى منتجات يمكن الاستفادة منها، أو تحتجز الكربون لمدد زمنية طويلة والتركيز على الحلول الأكثر فعالية من حيث الكلفة، وتُعد هذه الجوانب مهمة للدول التي تمتلك كميات كبيرة من الهيدروجين ولديها صناعات ذات صلة كثيفة الاستهلاك. ويوفر نهج الاقتصاد الدائري للكربون اطاراً شاملاً وعملياً للدول بحيث تتمكن من: 

* التخطيط لمساهماتها وتنفيذها وبما يتلاءم واتفاقية باريس للمناخ.

* يساعد الدول على الحد من انبعاثاتها وامكانية ادارتها،

* يساعد على ضمان الفعالية من حيث التكلفة والمساواة.

* وتشجيع الدول على الاستفادة من نقاط القوة سواء كانت الطاقة المتجددة والمواد الهيدروكربونية مع إزالة الكربون والحلول القائمة على الطبيعة 

يوضّح لنا إطار عمل الاقتصاد الدائري للكربون الى أنه يُمكن تخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الذي نلتقطهُ كما هو وإعادة تدويره عن طريق تحويله الى منتجات جديدة وإزالتهُ من الغلاف الجوي، ومن خلال محاكاة العملية الطبيعية للأرض يُمكننا تحقيق توازننا الخاص لإغلاق الحلقة. ويُمكننا الوصول إلى هذا الهدف ليس فقط من خلال تخفيض الانبعاثات بكفاءة استهلاك الطاقة واستخدام مصادر الطاقة المتجددة، ولكن أيضاً عن طريق إعادة استخدام وإعادة تدوير الانبعاثات الكربونية لدينا وحتى إزالتها من الغلاف الجوي تماماً.

أطار عمل مؤشر الاقتصاد الدائري للكربون لعام 2022

يتألف مؤشر الاقتصاد الدائري للكربون من مؤشرين فرعيين الأول مؤشر أداء يقيس أداء الدول من خلال ثماني تقنيات وعمليات للاقتصاد الدائري للكربون، والثاني مؤشر لعوامل تمكين هذا الاقتصاد ويقيس قدرة الدول على التحول الى الاقتصاد الدائري للكربون من خلال 30 مؤشر فرعي موزعة بين 5 مؤشرات أساسية وهي 

• السياسات والضوابط 

• التقنيات والخبرات الابتكارية 

• التمويل والاستثمار 

• بيئة الاعمال

• مرونة منظومة الطاقة

واجمالاً يحتوي على 43 مؤشر قياسي وكمي ويعطي لكل دولة مجموعة درجات بين 0-100 لكل مؤشر ثم تجمع لتعطي الدرجة الاجمالية للدولة

{img_3}

اجمالاً، يشهد العالم اهتماماً متزايداً بالهيدروجين النظيف واحتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، إذ يتوقع لهذه العوامل أن تؤدي دوراً مهماً في التخفيف من حدة الانبعاثات من خلال احتجاز الكربون وإعادة تدويره واستخدامه، وبحسب التقارير فإن هناك ثلاث مرافق قيد التشغيل لاحتجاز وتخزين الكربون في كل من السعودية والامارات وقطر وهي تحتجز 10% من ثاني اوكسيد الكربون العالمي الذي يتم التقاطه سنوياً والمقدر بنحو 40 مليون طن في عام 2020. وعليه أصبح بمقدور الدول النفطية التي تشهد تزايداً بالانبعاثات بسبب هذا القطاع تحويل نقمة الانبعاثات من خلال الاقتصاد الدائري للكربون الى نعمة ممكن الاستفادة منها والموائمة بين النفط والمناخ.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية