الفساد يقوض الاقتصاد - السبب والمعالجة

يعد الفساد في الوقت الراهن ظاهرة عالمية واقليمية ومحلية، إذ انه يكاد يشمل جميع دول العالم، سواء بشكل كبير او صغيرة، ويختلف تأثيره من بلد لآخر حسب طبيعة الظروف السائدة، وتبعا لهذه الظروف تختلف المعالجات ايضا من بلد لآخر.

السبب الرئيس

يمارس الفساد دورا كبيرا في التأثير سلبا على البلدان، خصوصاً النامية، حكومة، وشعباً، أفراداً ومؤسسات، وعلى مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لانه يعمل على إضعاف الثقة في صفوف جميع هذه المكونات، ويمكن الجزم بان السبب الرئيس وراء نشوء الفساد، هو غياب الرؤيا الصحيحة لدى الانسان، بخصوص الحياة والكون والوجود، الذي تبتعد عنه اغلب الكتابات الاكاديمية.

فكلما تكون نظرته للحياة والكون والوجود، نظره قائمة على الماديات دون ادراك او على الاقل الالتفات للمعنويات، سيكون كل هدفه هو الحصول على المادة دون الاهتمام بالجانب المعنوي، ويزداد الامر سوءً اذا تخلى هذا الانسان عن العادات والتقاليد الاجتماعية التي يمكن ان تقلل من الفساد في حال تم الالتزام بها دون الافراط بها.

وما يترتب على غياب الرؤيا الصحيحة والانغماس في الماديات فقدان التمييز بين الهدف والوسيلة، حيث يصبح المال هو هدف الانسان بدل ان يكون وسيلته. وعندما يصبح المال هدف الانسان سيؤدي به الى ان يكون عبيد المال والحصول عليه بأية وسيلة مشروعة او غير مشروعة وهذه الاخيرة هي الاخطر اذ انها ستؤدي فساد( انحراف)سلوك الانسان وبالخصوص الذي يملك منصباً في المؤسسات العامة حيث يفضي الى ظهور السرقة والغش ...الخ، وهذا ما يؤدي الى سوء الحياة الانسانية بشكل عام والاقتصادية بشكل خاص. 

إذ يؤدي الفساد إلى احتكار الثروات بيد الاقلية من قبا اصحاب السلطة، فيغيب مبدأ تكافؤ الفرص في استثمار تلك الثروات، أي من لديه القدرة والكفاءة لا يستطيع الشروع بالاستثمار، لان الافضل لمن يعطي الرشوة على حساب الكفاءة، في ظل رؤيا اصحاب الفساد، فيكون الانتاج اقل كفاءة واكثر تكلفة، فتهدر الموارد، فضلاً عن سوء توزيعها.

رداءة الانتاج مع ارتفاع تكاليفه يجعل الانتاج غير قادر على المنافسة لا محلياً ولا دولياُ لان المستهلك او المستورد غالباً ما يبحث عن جودة الانتاج وانخفاض اسعاره.

السبب الثانوي

وبالتزامن مع ذلك، ان تفاوت الموارد الاقتصادية بين الدول والمناطق بالإضافة الى ان سوء ادارتها وتوزيعها جعل  1% من الاثرياء يمتلكون 40% من الاصول العالمية في عام 2000، وان هذه الفئة تمثل 85% من المجموع العالمي، وان ما يمتلكه نصف البالغين في العالم بالكاد يصل الى 1% من اجمالي الثروة العالمية، في ضوء دراسة اجراها المعهد العالمي لبحوث اقتصاديات التنمية ( تقرير جامعة الامم المتحدة) نقلا عن الموسوعة الحرة " الويكيبيديا" وهذا ما يعني هناك تفاوت طبقي هائل يكون داعم لنشوء الفساد. كما ان اعتماد بلد معين على مورد طبيعي ولايعمل على توظيفه افضل توظيف لمراعاة حقوق الاخرين سيجعل هذا البلد بلد مستورد بل ومتنوع الاستيرادات، فتستنزف موارده، وهذا يعد فساد بحد ذاته، كونه لا يشجع على استيرادات السلع الرأسمالية التي تسهم في بناء الاقتصاد، بل في الغالب تكون استيرادات استهلاكية، فلا يشبع الاقتصاد الطلب المحلي.

فعندما يمتلك البلد ثروات معدنية هائلة مع غياب الرؤيا السليمة لدى اصحاب القرار ، والتي يترتب عليها غياب السياسات الكفيلة اللازمة لتوظيف هذه الثروات نحو افضل وجه، مع سيطرة الدولة عليها، سيؤدي الفساد الى استنزاف هذه الموارد من سطح الارض، مع العلم ان هذه الثروات الطبيعية هي ثروات عامة وليس خاصة اي يملكها الجميع ولا يحق لأحد التصرف بها كما يحلو له، نعم للمستثمر حق السبق والاستثمار ولكن لا يحق له انتزاع حق ملكية الآخرين لها واقصاء الاخرين من ملكيتهم لانها عامة كما لابد ان يعطي نسبة معينة مقابل ملكية الاخرين لها كونهم لم ينتزوا حقوقهم منها  وتنازلوا عن حق الاستثمار بحكم عدم توفر التمويل الكاف لتحقيق الاستثمارات المطلوبة.

فالفساد يقوض الاقتصاد بفعل هدر الموارد وسوء ادارتها وعدم توظيفها بالشكل الصحيح من جانب وعدم اشباع الطلب المحلي وزيادة الاستيرادات الاستهلاكية على حساب الاستيرادات التنموية التي تسهم في اتمام عملية التنمية الاقتصادية من جانب آخر.

المعالجة

 تتم معالجة الفساد بشكل عام من تحت ومن فوق، من تحت اي معالجة جذور الفساد في القاعدة الاساسية للمجتمع وهي قاعدة الوعي والاخلاق المجتمعية التي تؤدي عند توفرها وتجذيرها بالمجتمع الي القضاء على الفساد بشكل حقيقي، ولكن هذا العلاج يحتاج إلى فترة اطول وامكانيات اكبر. وأما المعالجة من فوق تتمثل في معالجة الاثار المترتبة على الفساد، وذلك من خلال إيجاد القوانين التي تحارب الفساد وتكافحه عند ظهوره، عبر المنع تارة واصدار العقوبات الرادعة تارة اخرى.

أي لابد ان تعمل الحكومة بفاعلية من خلال مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية بالإضافة الى تقوية الامن الداخلي والدفاع الخارجي، إذ لا يمكن القضاء او بالأحرى التخفيف من حدة الفساد، في الأمد المتوسط ، دون العمل على الاهتمام بالقوانين التشريعية وتنفيذها بأساليب جيدة وواضحة لا يلتبسها الغموض، وكذا الحال بالنسبة للمؤسسة القضائية لابد أن تكون ذات قدرة كبيرة على الفصل بالمسائل الخاصة والعامة بالشكل العادل لان عدم قدرة القضاء على تحقيق العدالة سيحصل الظلم وهذا الاخير سيدفع المظلوم الى اخذ حقوقه بطرق غير مشروعة وهذا ما سيؤدي الى شيوع الفوضى والتي تكون نتيجة طبيعية للفساد. ان المؤسسة القضائية لا يمكن ان تكون عادلة او تفرض العدالة في الحكم  دون ان يتمتع بالاستقلالية والنزاهة ولايمكن ان يكون عادلاً في ظل غياب الامن الداخلي ووجود السلاح خارج القانون ووجود التدخل الخارجي لان السلاح خارج القانون والتدخل الخارجي سيفرضان عليه الانحياز في حكمه واذا لم ينحاز سيشهران سلاحهما ضده. ولذا لابد من الاهتمام بتقوية المؤسسات الامنية والدفاعية لتعمل مؤسسة القضاء بحيادية واستقلالية دون ان تتعرض للضغوط الداخلية والخارجية بكافة اشكالها وأنواعها.

ولكن السؤال الذي يطرح هو كيف يتم رفع الوعي والاخلاق المجتمعية، من أجل القضاء على الفساد من الجذور؟

نعم هناك صعوبة بخصوص معالجة مشكلة الفساد والتي تحتاج إلى الكثير من الجهود والامكانات المادية والمالية والبشرية ومدة طويلة، حتى تستطيع تلبية ما تحتاجه عملية معالجة الفساد، عبر إرساء قواعد الشفافية والافصاح عن المعلومات بكل وضوح بالشكل الذي يُثبت فعلاً نظافة سلوك الفرد أياً كان موقعه مسؤول أم مواطن، فقير أم غني، منتج أم مستهلك...إلخ.

إذ ان تلك الجهود لابد أن تنصب في مجال التربية والتعليم، كونهما المحرك الاساس في تثقيف وتوعيته بأسس التعايش السلمي واحترام الانسان لأخيه وأن يصون كرامته بشتى أنواعها الاخلاقية والاقتصادية السياسية والاجتماعية، واهم من كل ذلك هو جعل الرؤية الانسانية هي القيمة العليا السائدة لدى الأعم الأغلب من المجتمع حتى يتم فعلاً تجفيف منابع الانحرافات الفكرية التي تمثل القاعدة الاساس لانطلاق الفساد ، إذ إن فهم اسس التعايش والقبول بالآخر والايمان بأن القيمة العليا في هذه الحياة هي الانسان، ستكون كفيلة بمعالجة الجذور الحقيقة للفساد، فضلاً عن المحاربة والمكافحة عند ظهوره.

التعليقات