البؤس النظري وقيم العمل في الدولة من اسباب التعثر الاقتصادي في العراق

 تقترن "النظرية" في الاوساط الرسمية بالأيديولوجيا او بنسخة مشوهة من الفلسفات المعيارية او الانشاء المرسل، تدوين مشاعر وانطباعات ومتخيلات، ولذلك تجد المنظّمون للندوات والمؤتمرات يحذّرون من التنظير وانه لا ينفع. ويريدون " توصيات عملية "، والمقصود بها عادة مقترحات ساذجة لا تضيف الى المعرفة بكيفيات عمل اجهزة الدولة واسباب الإعاقة وتدني الأداء. وأكثر تلك التوصيات مكررة من عشرات السنين وبما ان اصحاب النفوذ والمكانة انقطعت، غالبا، صلتهم بالمعرفة المتخصصة والقراءة الجادة، عموما، لذلك تجدهم اشد الناس احتفاء بتلك التوصيات المنفصلة عن ادارة العمليات في دوائر الدولة والتخصص، وتقسيم العمل، والتكامل بين اقسامها وآليات اتخاذ القرار. وتلاحظ، بين آونة وأخرى، محاولات ضعيفة مخذولة لتوجيه الذهن الرسمي نحو الحقائق العميقة لكنها تواجه بالإهمال والازدراء. وعلى سبيل المثال، في مناسبة، عندما اقترح أحدهم دراسة وتقويم اداء النظام الاقتصادي في العراق كانت المفاجأة صادمة أذ لا يُفهم النظام بانه نسق عمليات الإنتاج والتشغيل والتوزيع والادخار والاستثمار والنمو والتطور التكنولوجي والاستهلاك والتجارة الخارجية ... واسعار وتكاليف واجور وارباح ... ولا هو مما يخضع الى المشاهدة والتحليل، بل استقر في الذهن بانه كتاب يقول ان الرأسمالية سيئة للغاية ولذلك يفضل، في رأيهم، الابتعاد عن النظام والانظمة لأن العراق أصبح " رأسماليا". 

 وهذه المشكلة في المضمر الذي يتشرّبه الطالب من تقاليد التعليم وفحواه ان الدراسة ليست متعلقة بموضوع خارجي عياني نحاول اكتشاف نظامه وانماط السلوك وعلاقات سببية ... انما الدراسة لكتاب فيه نظريات، قال فلان ورأى العبقري علان، وهذه تحفظ لتكتب في الامتحان، فالنظرية ليست وصفا للوجود الطبيعي والاجتماعي بأدوات منطقية ورياضية وسواها ثم اختبار وتحقيق وتعديل وتنظير جديد ... بل قال ورأى. وبقي العراق بين الأيديولوجيات، التي يتنافسون باسمها على السلطة، والتي لا تقدم دليل عمل لإدارة الدولة والاقتصاد من جهة والفهم العامي للوجود والسياسة والدولة والاقتصاد والادارة من جهة ثانية. ومع هذه وتلك خطابات تزويقية تبريرية لاينتظمها ناظم ولا تحدو نحو هدف معلوم اسهمت في تخريب الوعي وإبعاد الدولة عن اية فرصة للانتفاع من دليل نظري يساعد على تشخيص الخلل واستكمال البناء. وهذه الخطابات عادة انتهازية ارتزاقيه تنتقل من الموقف الى نقيضه في اليوم الواحد، وتحظى باحترام اجتماعي نتيجة لتاريخ طويل من التعامل مع الشعب العراقي بالتعبئة والتحريض الحزبي والعقائدي، وصرف الأذهان عن الواقع والقراءة المتأنية لحقائقه والمهارات المنطقية التي تشحذ الذكاء والاعتياد على الربط والتنسيق والمعالجة النقدية. وفي هذه الأجواء لا نستغرب عندما يقال في حضرة المسؤول ان السعر لا يتحدد بالعرض والطلب، وان القطاع الخاص لا يستثمر بسبب المركزية الشديدة وقيود البيروقراطية، وخبراء السياسة والادارة لا يعترضون على مقترح تحويل محافظات العراق الى فدراليات. 

 ومن اسباب الفقر النظري ان الاخلاص في تحرّي الحقيقة ليس من مضامين النزاهة في العراق لأن النزاهة لا تعني سوى عدم السرقة او عدم الانتفاع من المال العام بالوسائل غير القانونية. ولذلك تستطيع ان تملأ العراق صخبا حول الاستثمار الاجنبي دون معرفة ان صافي الاستثمار الاجنبي الداخل للعراق، واي بلد في العالم، لا يكون موجبا إلا مع عجز في الميزان الخارجي للعمليات الجارية والذي لم يحدث في العراق قبل عام 2014. وطالما ان الاقتصاد العراقي يعمل مع فائض في ميزان المدفوعات فان الاستثمار يخرج من العراق بالمحصلة ولا يدخل. وايضا وبموجب متطابقات الاقتصاد الوطني لا يكون صافي الاستثمار الاجنبي الداخل موجبا إلا اذا كان تكوين راس المال اكبر من الادخار (الحكومي والخاص). وكذلك لو اطّلعوا على التقارير الدولية الرصينة، لساعة واحدة، لعلموا ان متوسط الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو موضع الاهتمام في العراق، بالمتوسط حوالي 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في العالم، ومن المحال ان يكون العراق اعلى من المتوسط في جذب الاستثمار الاجنبي. 

 ولو بذلت عناية بالحد الأدنى لتحسين ادارة برنامج الاستثمار الحكومي لتحققت مكاسب اقتصادية للعراق وسياسية للحكومة اضعاف تلك النسبة. علما ان برنامج الاستثمار العام لم تكن له الأهمية التي يستحقها لا في برامج الأحزاب ولا الحكومة. ويقال الشيء نفسه حول اعتماد التنمية على القطاع الخاص، وهنا لم يتساءل ذوي الكلمة المسموعة، وانّى لهم ذلك، ما هو بالضبط الوضع الاقتصادي والتقني والتنظيمي للقطاع الخاص كي توكل اليه مهمة التنمية. الا يعلمون ان التنمية استثمار في التصنيع اولا وهو ما ينتظره العراق. فما هي حجوم وتقنيات المشاريع الاستثمارية التي كان للقطاع الخاص الاضطلاع بها عام 2005. 

 وعندما يتبنى العراق الانفتاح التجاري والمالي اليس من الواجب ملاحظة القدرة التنافسية الدولية للعراق كي يستثمر القطاع الخاص للتنمية، علما ان سعر الصرف من اهم محددات تلك القدرة التنافسية، في حين يتساءل الليبراليون المؤمنون اشد الأيمان بالاقتصاد الحر وحرية السوق متى ينخفض سعر الدولار !!. وعندما قيل لهم ان اردتم دورا اوسع للقطاع الخاص افهموا كيف يتخذ قراراته بالضبط وما هو معدل العائد الداخلي على الاستثمار الذي يُرضي القطاع الخاص مع هذه المستويات من المخاطر لم يلتفت احد، ومن شبه المستحيل ان يستحضر احدهم في ذهنه العلاقة بين الإنتاجية والكلفة والسعر والعائد عندما يتحدث عن القطاع الخاص. وايضا كيف توكل مهمة التنمية الى القطاع الخاص في بلد نفطي مثل العراق ان لم يكن هناك توجه ضمني بتبديد موارد النفط على الاستهلاك وتكريس انماط السلوك غير الانتاجية. الم يكن الاولى التعامل بمسؤولية مع دور القطاع الخاص وان تعمل الدولة معه في الميدان لتطوير جهده الاستثماري كي يصبح بالفعل رافدا مستقلا للاقتصاد الوطني وليس متطفلا على اعانات وإعفاءات ضريبية ومقاولات وعقود تجهيز.

 الإطار النظري لإدارة برنامج الاستثمار الحكومي لا يتعدى ثقافة العمل في دوائر العقود والتمويل وهي التي سيطرت على ذهن الأدارة العليا. اما الميزان الكلي للموارد والاستخدامات والعرض والطلب والطاقات الإنتاجية وقدرة العراق في البناء والتشييد والاعمار والوضع التنظيمي لقطاع المقاولات والتقنيات والتكاليف المعيارية والرقابة الهندسية وادارة البرامج والمشاريع ... فهذه خارج الاطار النظري للعمل الحكومي. ومن المتوقع ان تبقى هكذا لأن الجهات المعنية، وحتى بعد الازمة الاخيرة، لا يبدوا انها راجعت طرق التفكير والأساليب التي هيمنت على الادارة والقرار طيلة السنوات الماضية ولا تريد حتى الاسترشاد بمقاربات من خارج شبكة خبرائها.

ولا تستطيع الدوائر المعنية ولا حتى مراكز الاستشارة إدراك أن من بين اسباب تفاقم عجز البناء التحتي ضآلة مجموع القدرة العراقية الفعلية على تكوين راس المال، وللنهوض بتلك القدرة لا بد من فهم العملية من جهة الانتاج والعرض وليس من جهة الطلب، التعاقد والتخصيص المالي ...، أي لا يمكن تجاوز هذا النقص الخطير دون مقاربة اقتصادية – تقنية – تنظيمية هناك في الشركات التي تتولى البناء والانشاء والتطوير وروافد مدخلاتها وكوادرها وبالتالي مجموع امكاناتها وفي سياق التفكير النظري المشار اليه آنفا. أي ان الإنجازات في البناء التحتي هي شكل من اشكال الإنتاج وزيادة الإنتاج لا تتحقق من زيادة الأنفاق بل من التنمية المستمرة للطاقات الإنتاجية التي تزود العراق بالمزيد من الطرق والمدارس وشبكات الصرف الصحي ومحطات توليد الكهرباء ... وتلك الطاقات الإنتاجية قد تكون وطنية، في القطاع العام او القطاع الخاص، او اجنبية مقيمة في العراق.

الصلة بين الكلفة وقيد الموارد مفقودة في العقل الاداري فما لم تصبح الكلفة محل وعي دائم ومركّز فسوف يستمر الانفاق بالتصاعد دون انجاز مناسب. نعم الكلفة مهملة ولو كانت مهمة في نظرهم لبادر مجلس النواب في سياق دوره الرقابي للمقارنة بين ما انفق فعلا على المشاريع والكلفة المعيارية لها او ما تستحق حسب تقدير خبراء محايدين ليكتشف الخلل، لكنه سوف يخفق ايضا في معالجته لأن مفاهيم الكفاءة والأداء السليم ليست فعالة، فقط يبحث عن سرقات ليحيلها الى النزاهة والقضاء ويتخلص هو ومجلس الوزراء من المسؤولية، فلماذا يُختزل مفهوم الرقابة الى تحري عن السرقات. ومن سوّغ لمجلس الوزراء والوزراء الامتناع عن مزاولة الصلاحيات التقديرية الواسعة، والتي هي اساس الأدارة، لمعاقبة الانحراف عن الأداء السليم والفشل في اداء الدوائر لوظائفها. وتلك مظاهر لها علاقة بالفهم النظري البائس للإدارة العامة والتي تحولت في العالم من المنحى التقليدي Administration الى ادارة تستعير مناهج العمل في قطاعات الأعمال Management كي تؤكد على انجاز الأهداف باقل التكاليف وبالنوعية المناسبة والتوقيت المطلوب، بينما في العراق اوكلت مهمات الأدارة الى هيئة النزاهة والقضاء! 

 كان على الذين تحمّلوا المسؤولية ان يتعرفوا بموضوعية على قيم العمل في اجهزة الدولة وهي ليست ذاتية في المنتسبين، ولا توجد قواعد مستقرة في البيروقراطية تضمن حسن التصرف بالموارد العامة واداء الدولة لوظائفها. فلقد اعتادت اجهزة الدولة في العراق على سيطرة السلطة المركزية على الدوائر ورقابتها الصارمة ومعاقبتها للتقصير. وكيف فاتهم ان جوهر النظام الحكومي مبدأ التراتبية Hierarchy بينما اصبحت دوائر الدولة مستقلة بالتوازي، تقريبا، ويذكر العراقيون ان أحد رؤساء الدوائر خاطب رئيس الوزراء في الفضائيات عندما اراد اعفاءه من منصبه " انت موظف وانا موظف “. ونلاحظ الكثير من السياسيين يشدد على ان رئيس الوزراء هو رئيس مجلس الوزراء ويقصد التقليل من صلاحياته لأن الانطباع العام يساوي بين رئيس المجلس ومدير ندوة حوار Moderator أي لا يريدون ان يحكم ونتساءل لمصلحة من، وهنا يأتي دور الفقر النظري ومن دلالاته عدم التمييز بين اللغوي والاصطلاحي... فماذا لو يسمى رئيس الوزراء مستشارا او الوزير الاول .... هذا بينما يلاحظ استمرار النموذج النظري التقليدي للسياسة في العراق يسيطر على التفكير فقد ضعفت الدولة وصارت وزاراتها وهيئاتها ومحافظاتها اقطاعيات، لكن الكتابة السياسية بقيت محكومة بتصور دولة دكتاتورية ينفرد شخص بشؤنها كلها. وقد أسهم هذا الارتباك النظري في الغفلة عن مسار التدهور وعدم التشخيص المبكر للأمراض التي فتكت في جسد الدولة. 

اجهزة الدولة في العراق يمكن ان توصف بأنها اناركية Anarchy بلا مبالغة والحكومة فقدت السيطرة عليها، ومن المستحيل انجاز اصلاح في العراق دون استعادة الحكومة السيطرة على اجهزة الدولة. وهو تحدي كبير لأن الوضع الحالي انسجم مع مصالح وتوازنات سياسية. ونتيجة للفقر النظري وقصور الوعي عن متطلبات تكوين الدولة المعاصرة ستكون استعادة الحكومة للسيطرة على اجهزة الدولة من اعقد المهام، هذا إذا كانت على جدول اعمال الحكومة القادمة وهو المستبعد لحد الآن.

العراق بأمس الحاجة الى قادة يشغلون المواقع الرئيسية في الدولة ويؤدون واجباتهم بالخوف على العراق والحرص الشديد على مصالحه ولا يتركون الامور الى ضمائر المدراء و"مهنيتهم". واي مصيبة هذه ان كان قادة سياسيون مثل هؤلاء المدراء يسكت على ضياع اموال عامة مجاملة للكتل والأحزاب والأصدقاء. 

العراق كان ضحية لتصورات اسطورية عن الفدرالية واللامركزية وهذه من جملة اسباب التردي. فالأولى صارت تعني الاستقلال عن سيادة الدولة والثانية تحويل موارد الحكومة المركزية الى المحافظات !!. وعندما تضاف هذه الى بدعة الهيئات المستقلة وما اكثرها تتأكد الأناركية تماما.

 ومرة اخرى نعود الى البيروقراطية، والتي لم تسجل مأثرة طيبة في العراق، بينما تجنبت الصحافة تأكيد مسؤوليتهم عن مختلف انواع المعاناة وذلك لدوافع سياسية حزبية برأت ساحتهم لمقتضيات التنافس على السلطة. وفي هذا السياق تأتي الإشادة بالتكنوقراط وهو خطأ ربما يدفع العراق ثمنه لأربع سنوات اخرى. ومن المعروف ان احتمال التفاني من اجل المصلحة العامة اعلى في صفوف السياسيين منه في التكنوقراط، في المجموعة الأولى ربما تجد احدا هنا او هناك اما التكنوقراط فلا يحسنون أكثر من الحفاظ على الوضع الراهن. والعراق ينتظر سياسيين نبلاء لاستكمال تكوين الدولة وترصينها وحكم اجهزتها. ومالم تتدخل السلطة العليا عاجلا لتضع الأمور في نصابها الصحيح فقد تصل اجهزة الدولة الى ما يتعذر اصلاحه. وفي هذا الصدد لا بد من الفحص التفصيلي على مستوى المديريات العامة واصلاح الخلل.

التعليقات