كيف يمكن تعظيم الايرادات الضريبية في العراق؟

شارك الموضوع :

تعزيز الايرادات الضريبية كرافد رئيس للموازنة العامة في سياق الظروف السياسية والاقتصادية والمالية التي يمر بها البلد مهمة صعبة بحاجة الى استراتيجية محكمة قائمة على تعاون المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمواطن

          اكتسبت فكرة تعظيم الايرادات الغير نفطية اهمية خاصة بعد التدهور الحاد الذي شهدته اسواق النفط منتصف العام 2014، فقد تكبدت البلدان المصدرة للنفط في الشرق الاوسط قرابة 341 مليار دولار نتيجة هبوط ايراداتها النفطية، اي ما يعادل 21% من الناتج المحلي الاجمالي لهذه البلدان، حسب تقديرات صندوق النقد الدولي. ولا يقتصر الامر على هبوط اسعار النفط قرابة الثلثين آنذاك، وانما يزيد غموض افاق سوق النفط الدولية واستمرار تأرجح العوامل المحركة لقوى العرض والطلب، من فرص تأرجح الاسعار خلال السنوات القادمة. ويعني ذلك، ضرورة الاستعداد لصدمات نفط مقبلة عبر التكييف المالي والتعايش مع سعر نفط منخفض من خلال ضبط الانفاق العام وتعظيم الايرادات العامة في كافة البلدان النفطية، والعراق بشكل خاص، نظرا لافتقاره الى صندوق ثروة سيادي يمكن ان يقي الموازنة والاقتصاد صدمات النفط الخارجية.

      في هذا السياق، يتوقع ان يكون للضرائب مركز الصدارة في تمويل الموازنة العامة في العراق، نظرا لغزارة الاوعية الضريبية الكامنة في البلد والايرادات المتوقعة منها اذا ما تم اصلاح النظام الضريبي بشكل تدريجي وفعال. فالنظام الضريبي في العراق تأثر بشكل كبير بسياسات وامزجة الانظمة السياسية التي تعاقبت على حكم البلد خلال العقود الخمس الماضية، كما يلاحظ بان النظام الضريبي العراقي يمثل تراكما لقوانين وتشريعات جاءت بشكل متعاقب ولم ينظم دفعة واحدة، وانما شرع بمُدد مختلفة وتبعا لأنظمة حكم متعاقبة، مما زاد من تشوه واختلال الاهداف والادوات المتضمنة في بنية هذا النظام، نظرا لاختلاف الانظمة الاقتصادية والأيدولوجيات الحاكمة في كل مرحلة.

واقع النظام الضريبي في العراق

        شهدت نسبة مساهمة الايرادات الضريبية في الموازنة العامة هبوطا حادا بعد العام 2003 نظرا للاعتماد المفرط على النفط في تغطية الانفاق العام، بشقيه الجاري والاستثماري. حيث انخفضت نسبة المساهمة الضريبية في الموازنة العامة (كمتوسط) من 30% قبل العام 2003 الى قرابة 1% خلال المدة ما بعد 2003. كما يلاحظ اعتماد الهيكل الضريبي في العراق على الضرائب غير المباشرة (الضرائب على السلع والخدمات) قبل العام 2003، بنسبة فاقت 60% من اجمالي الايرادات الضريبية، في حين تصدرت الضرائب المباشرة (الضرائب على الدخل) المشهد بعد العام 2003 لتقارب نسبة 60% من اجمالي الايرادات الضريبية. ومن الناحية المالية، اتسم النظام الضريبي في العراق بمحدودية فاعليته، فلم تتجاوز معدلات الايرادات الضريبية نسبة 2% من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي خلال العقود الثلاث الماضية.

لماذا انخفضت الايرادات الضريبية؟ 

       تعاني النظم الضريبية بشكل عام من قصور وضعف حاد في تعبئة الايرادات وحصر الاوعية الضريبية في معظم البلدان النامية، ومنها العراق، نظرا لكثرة التحديات والعقبات التي تواجه تفعيل السياسة الضريبية كرافد للموازنة واداة لتحفيز النمو والاستقرار الاقتصادي. وفي العراق يمكن تلخيص ابرز التحديات التي تكبح تطور النظام الضريبي في الاعتماد المفرط على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد وبالتالي ضعف الحافز على تفعيل الضرائب كمورد بديل لتمويل الانفاق العام لأغراض سياسية واجتماعية بالعادة. ويؤدي ايضا ضعف الادارة الضريبية في تحصيل الضرائب الى تراجع الايرادات الضريبية نظرا للنقص الحاد في المعلومات والبيانات اللازمة لحصر المكلفين بدقة وانتشار الفساد المالي والإداري في كافة الحلقات الادارية للجهاز الضريبي. فضلا على كثرة الاعفاءات والحوافز الضريبية التي شهدها العراق، بشكل عشوائي وغير مدروس، خصوصا بعد العام 2003.

         من جانب اخر، يشكل ضعف النظام الرقابي عائق اخر امام تطور وانطلاق النظام الضريبي في البلد، سواء كان ذلك على مستوى الرقابة الخارجية (ديوان الرقابة المالية)، او على المستوى الرقابة الداخلية (الرقابة التدقيقية) التي تقوم بها الادارة الضريبية على حسابات المكلفين وعمليات التحصيل الضريبي. وقد اسهم انعدام الدورية والاستمرارية في اجراء التدقيق اللازم في المؤسسات المذكورة الى تفاقم عمليات التهرب الضريبي وبشكل مرعب.

        ايضا تواجه الادارة الضريبية مشكلة اخرى تتمثل في غياب البيانات المحاسبية لدى القطاع الخاص وهو ما يزيد من صعوبة تقدير ارباح المشروعات، فضلا على انتشار العديد من القطاعات غير المنظمة والبعيدة عن الرقابة (كأصحاب المهن الحرة والحرف)، مما يسهم في ضياع جزء كبير من الايرادات الضريبية الممكنة. 

        ولا يمكن اغفال دور الجوانب الفنية في تراجع الايرادات الضريبية، حيث يعاني معظم العاملين في الجهاز الضريبي من تدني المستوى العلمي وضعف مستويات المهارة والتدريب. فضلا على تدني المستوى الثقافي والوعي المجتمعي بأهمية الضرائب ودورها في رفع مستوى الخدمات نظرا لفقدان الثقة بالحكومة وقدرتها على استغلال الايرادات الضريبية بشكل امثل، وقد عزز ذلك تكرار فضائح الفساد المالي والاداري التي شهدتها الحكومات العراقية المتعاقبة بعد العام 2003.

وفيما يخص الضرائب الجمركية، والتي تمثل الوعاء الاغزر ضريبيا في العراق، فإنها تعاني من تخلف اجراءات الدفع والتقييم في المنافذ الحدودية واعتماد اطر العمل البدائية وهو ما ساهم بشكل كبير في انتشار الفساد المالي وأضعف من الرقابة الحكومية على اداء العاملين في هذه المنافذ. فضلا على انتشار حالات التزوير لأوراق العديد من السلع المستوردة الى البلد لأغراض التهرب الضريبي من جهة ومخالفة القانون من جهة اخرى، كما هو الحال في ادخال سيارات دون الموديل وتثبيتها بموديلات حديثة مقابل مبالغ مالية تمنح للوسطاء ولبعض العاملين في هذه المؤسسة.

كيف يمكن تعظيم الايرادات الضريبية؟

      تعزيز الايرادات الضريبية كرافد رئيس للموازنة العامة في سياق الظروف السياسية والاقتصادية والمالية التي يمر بها البلد مهمة صعبة بحاجة الى استراتيجية محكمة قائمة على تعاون المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمواطن ايضا. ويمكن ان تتضمن تلك الاستراتيجية بعض الخطوط العريضة لعل أبرزها:

1. اعادة حصر الاوعية الضريبية عبر انشاء قاعدة بيانات لكافة المكلفين بالضرائب وتحديد مصادر الدخول الخاضعة للضريبة بدقة لأجل مضاعفة الحصيلة الضريبية والحد من التهرب الضريبي القائم.

2. فيما يتعلق بالضرائب الجمركية ينبغي إدخال نظم معلوماتية حديثة في التفتيش والرقابة على السلع الداخلة الى العراق، وفي كافة المنافذ الحدودية البحرية والبرية والجوية. وذلك من خلال الاستعانة بنظم الجباية الالكترونية والحد من اجتهاد العنصر البشري في عمليات التقييم والادخال. فضلا على اعتماد نظام التعهيد على مستوى المنافذ الجمركية وذلك من خلال التعاقد مع شركات عالمية رصينة بما يضمن كفاءة الفحص والتخليص الجمركي، ويعظم الموارد السيادية للدولة.

3. انشاء منظومة الدفع الالكتروني لمواكبة التطورات العلمية والتكنلوجية من جهة وتيسير جباية الضرائب وخفض تكاليفها من جهة اخرى. مع ضرورة اعادة هيكلة الجهاز الضريبي عبر تبسيط اجراءات التعامل مع المكلفين لحثهم على دفع الضرائب والغاء حلقات التعقيد والروتين الاداري.

4. العمل على اعادة النظر بالتشريع الضريبي القائم بالشكل الذي يناسب التطورات الحالية ويقضي على كافة الثغرات القائمة والمستغلة من قبل المتهربين من الضرائب. والعمل على ترشيد منح الاعفاءات الضريبية في المستقبل واعادة النظر بالعديد من الاعفاءات السابقة التي تم منحها بعد العام 2003 واعادة دراسة الجدوى الاقتصادية والمالية من منح تلك الاعفاءات.

5. تطوير مهارات الموظفين في الجهاز الضريبي وتوخي الدقة والحذر في اختيار الطواقم المتقدمة وفقا لمعايير النزاهة والكفاءة والخبرة العملية. واعتماد نظام الحوافز لتشجيع العاملين في الجهاز الضريبي على بذل المزيد من الجهود في العمل والاخلاص والتميز والابتكار وقد تكون المكافآت المالية او الترقيات او الاجازات حوافز جيدة في هذا السياق.

6. اعادة النظر بعدد من الضرائب القائمة كضريبة الدخل وضريبة العقار وضريبة المبيعات بالشكل الذي يزيد من غزارة الحصيلة الضريبية ويحقق العدالة والمساواة في ان واحد. مع ضرورة استحداث عدد من الضرائب الجديدة وبما يعظم الايراد الضريبي ويحقق جملة من الاهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ومن تلك الضرائب: ضريبة القيمة المضافة، التي تفرض على كافة مراحل انتاج السلعة، والضرائب الخضراء، التي تفرض للحفاظ على البيئة كضريبة الكاربون والضريبة الصناعية وضريبة الضوضاء، فضلا على الضرائب المفروضة على عجلات الحمل الثقيل وغيرها.

7. تشديد العقوبات وتغليظ القوانين بحق المتهربين عن دفع الضريبة من خلال تشريع عقوبات جديدة وتعديل التشريعات القائمة، وإلزام الجهات المعنية بفرض العقوبات بعدم التهاون في تطبيقها بحق المخالفين.

8. تعزيز الوعي الضريبي للمواطن عبر زيادة الشفافية وتبسيط القوانين الضريبية، فضلا على رفع مستوى الخدمات العامة لإعادة ثقة المواطن بالحكومة، واحياء العقد الاجتماعي بين الحكومة والمواطن من جديد. 

9. الاستعانة بالدراسات والبحوث التي تناولت النظام الضريبي العراقي بالتحليل والمعالجة، وهي عديدة ومتنوعة وغزيرة بالتوصيات الاجرائية الضامنة لتطوير اداء الجهاز الضريبي وتعظيم موارده المتنوعة ().

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية