في المحصلة لا يمكن ان نتنبأ بحصول تغيير في السلوك السياسي الايراني تجاه العراق، ولا يمكن الوثوق بهذا السلوك للتحرك على اساسه ليلعب العراق دوره في تحقيق التقارب الجيوسياسي بين إيران والعربية السعودية
وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف في زيارته الاخيرة الى بغداد أجرى لقاءات دولة لدولة التقى خلالها الرئاسات الثلاث وهو ما تضمنه برنامج الزيارة، وايضا أجرى لقاءات مع شخصيات حزبية وامنية لم يتم تضمينها في برنامج الزيارة.
لقاءات عدة اجراها الوزير الايراني (رئاسة الجمهورية، والحكومة والمؤسسات الحكومية) وصدرت عنها تصريحات عدة، كيف يمكن ان نقرئها؟ وهل من تغيير في السلوك السياسي الخارجي الايراني تجاه العراق؟ وهل يمكن عد الزيارة تحرر لأيران الدولة من إيران الثورة (المرشد الاعلى، الحرس الثوري، والبربغندا الايرانية)؟ وهل يمكن للعراق لعب دور تحقيق التقارب الجيوسياسي الشرق اوسطي بين أكثر طرفين فاعلين ومتنافسين في المنطقة إيران والعربية السعودية؟
للمرة الثانية، وبعد تسنم رئيس الوزراء العراقي لمهامه، تسلك إيران الدولة (رئاسة الجمهورية والحكومة والمؤسسات الحكومية) ذات السلوك السياسي الخارجي مع العراق والذي يقوم على تبادل الزيارات ونقل الرسائل الى المحيط الاقليمي العربي للعراق وخاصة المملكة العربية السعودية لتنفيذ ما طرحته إيران الدولة من الاستعداد الى الحوار مع العربية السعودية بهدف تهدئة التوتر والتصعيد في المنطقة.
هذا الامر تم سابقا بعد تولي عادل عبد المهدي مهامه رئيسا للحكومة العراقية عقب انتخابات آيار/2018، الا انه لم ينجح رغم قيام الاخير بنقل رسائل بين إيران الدولة من جهة، والعربية السعودية من جهة اخرى، والسبب هو الارادة الكبيرة لأيران الثورة المتحكمة بالنظام السياسي الايراني والسياسة الخارجية الايرانية، وهذا التحكم يستند على الدستور الايراني تارة، وعلى القوة العسكرية والامنية والاقتصادية لايران الثورة على ارض الواقع تارة اخرى.
إيران الدولة تدرك وبعقلانية كبيرة ضرورة تخفيف العقوبات التي خيمت على مجمل الحياة الايرانية والتي وصلت الى مراحل تُنذر بهيجان شعبي عارم قد يضع النظام الايراني على حافة الانهيار. وهذا التخفيف لابد ان يبدأ من المنطقة بشكل اساس ولم تبقى لايران بوابة غير العراق للتواصل مع الدولة العربية الفاعلة اقليميا.
يتبين من خلال اللقاءات التي اجراها جواد ظريف في بغداد خلال هذه الزيارة، انه اراد ان يوائم بين تطلعات ايران الدولة عبر اجراء لقاءات دولة لدولة متمثلة بلقاء رئاسات الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب وفق برنامج زيارة واضح ومعلن من جهة، وبين تطلعات ايران الثورة السياسية والامنية في العراق عبر لقائه شخصيات حزبية ومسؤولين امنيين لأجهزة امنية ترتبط كثيرا بإيران الثورة دينيا وسياسيا، وزيارته لمكان اغتيال قاسم سليماني والمهندس في محيط مطار بغداد الدولي هي خارج البرنامج الرسمي للزيارة، فضلا عن ما صرح به من أن ايران بحثت مع العراق ملفات مشتركة كملف مقتل سليماني، والاعلان عن الرغبة الايرانية بزيادة حجم "التبادل التجاري" بين البلدين الى 20 مليار دولار، وظريف يعلم جيدا ان هذا التبادل هو من جانب واحد فقط (تصدير ايران لسلعها الى العراق).
هذا يدل على ان إيران الثورة لا تنفك ابدا عن فرض ارادتها على إيران الدولة في سياساتها العامة ولاسيما الخارجية والسلوك السياسي الخارجي. وهذا النسق يظهر في تعامل إيران (الثورة والدولة) مع العراق وسوريا ولبنان. ويبدو ان إيران الدولة لا تملك القدرة على معارضة إيران الثورة في ذلك، فقد سبق وان قدم ظريف استقالته في شباط 2019 احتجاجا على زيارة بشار الاسد الى إيران ولقاءة المرشد الاعلى علي خامنائي من دون علم وزارة الخارجية الايرانية.
في المحصلة لازالت إيران الثورة تفرض ارادتها في التعامل مع العراق في سياقين:
الاول التعامل مع افراد وفصائل مسلحة بشكل مباشر وزيارات مسؤولي إيران الثورة (زيارات شخصية) الى العراق كما كان يحصل مع زيارات قاسم سليماني العراق، وحاليا زيارات اسماعيل قاآني خليفة قاسم سليماني الى بغداد.
والثاني: زيارات دولة يقوم بها حسن روحاني وجواد ظريف كما حصل في العام الماضي، والهدف في الاساس هو فرض رؤية إيران الثورة في المنطقة واهم ساحة لذلك هو العراق.
تقوم منهجية إيران الثورة في السياسة الخارجية على ثابت وهو التعامل مع العراق – كما سوريا ولبنان – على انه تابع وليس شريك، وهذا ما لا ترغب به إيران الدولة. ولكن بالرغم من ذلك، يبقى المشترك الاهم بين إيران الثورة وإيران الدولة هو حماية النظام الايديولوجي الاسلامي من الانهيار، لان انهياره يعني انهيار إيران الثورة وزوال إيران الدولة بوقت واحد. وبالتالي تدرك ايران (الدولة والثورة) ان تأخير انهيار النظام الاسلامي في ايران يعتمد بشكل كبير على العراق من الناحية الاقتصادية والسياسية، هذا من ناحية، ويدرك رجالات ايران الدولة ان مستقبلهم السياسي وخلاصهم من تحميلهم المسؤولية تجاه الوضع المتأزم في ايران، هو بيد إيران الثورة، نظرا لقوة عناصرها (الحرس الثوري، مجلس الخبراء ومجمع تشخيص مصلحة النظام، والبربغندا الايرانية)، والصلاحيات الدستورية الواسعة التي منحها الدستور الايراني للمرشد الاعلى والتي تصل الى حد معارضة الارادة الشعبية وإلغاء نتائج الانتخابات.
في المحصلة لا يمكن ان نتنبأ بحصول تغيير في السلوك السياسي الايراني تجاه العراق، ولا يمكن الوثوق بهذا السلوك للتحرك على اساسه ليلعب العراق دوره في تحقيق التقارب الجيوسياسي بين إيران والعربية السعودية. ومما يلاحظ انه لا خلاص لايران الدولة من هيمنة إيران الثورة، وستبقى الاخيرة هي القائدة والمسيطرة على السلوك السياسي الايراني. وهذا المدرك لابد ان يتوافر عليه صانع القرار السياسي الخارجي العراقي. ومن جانب آخر، تدرك العربية السعودية الارادة الايرانية واختلاف الارادات داخل إيران، وربما هذا ما دفعها الى اعلان تأجيل زيارة الكاظمي الى السعودية والمقرر اجرائها يوم الاثنين 20 تموز بسبب دخول الملك سلمان بن عبد العزيز الى المستشفيات لإجراء فحوصات طبية.
اضافةتعليق