تكررت الدعوات لخفض سعر صرف الدينار العراقي من قبل صناع القرار والخبراء ورجال الاعمال منذ سنوات، وكان خفض قيمة العملة المحلية مطلبا حكوميا في مواسم انحسار الإيراد النفطي بسبب تراجع اسعار النفط في الاسواق العالمية، رغبة في تعظيم الايرادات النفطية بالدينار العراقي وتوفير تمويل جزئي للموازنة يعوض اجراء تخفيضات حادة في النفقات الحكومية لما قد تخلفه من انعكاسات اقتصادية واجتماعية عنيفة من قبل الجمهور، وبالأخص طبقة الموظفين في المؤسسات العامة. اما الفريق الاخر، من الخبراء ورجال الاعمال، فكانت الدوافع لخفض سعر صرف الدينار مختلفة، من حيث التوقيت والهدف. فقد تركزت حجج هذا التيار على ضرورة خفض قيمة الدينار العراقي لدعم المنتج الوطني عبر رفع القدرة التنافسية (المحلية والدولية) للسلع الوطنية. ورغم قوة المنطق الاقتصادي لهذه الحجة الا ان نجاح هذه السياسة يرتبط بتطبيق حزمة من السياسات الاولية لتشجيع الاستثمار الخاص كتوفير بيئة سياسية وامنية مستقرة ومناخ اعمال جاذب وداعم للاستثمار والقطاع الخاص وتجفيف حلقات الفساد والبيروقراطية فضلا على توفير البنية التحتية اللازمة (كالطاقة الكهربائية) لضمان شروع القطاع الخاص بالنهوض والتطور.
وقد تناولنا المخاطر والتداعيات المتوقعة لقرار خفض سعر صرف الدينار دون تامين الشروط المسبقة لنجاح مثل هذا السياسة في تحقيق الاهداف الاقتصادية والمالية التي يصبوا لها دعاة خفض قيمة العملة، في مقالات عدة. واخر تلك المقالات ما نشر منتصف شهر تشرين الاول من العام الماضي في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية تحت عنوان (الوضع المالي الراهن والدعوة لخفض اسعار الصرف). تناول المقال ملامح الوضع المالي الراهن وأبرز مصادر التمويل المتاحة مع التعريج على قصور دعوات خفض قيمة الدينار العراقي عن إدراك طبيعية الكلف الاقتصادية والمالية والاجتماعية المترتبة على هذه السياسة مقارنة بالعوائد التي قد تتحقق حاليا. ومن حيث التوقيت يعد اللجوء الى خفض قيمة الدينار العراقي لتمويل فجوة الموارد المالية خيارا غير مناسب في الوقت الراهن، ولعدة اسباب اهمها:
1- ضعف الايرادات الحكومية المتولدة عن هذا الخيار والمقدرة بـ (650 مليار دينار) شهريا اي قرابة (8) ترليون دينار سنويا، إذا ما تم خفض سعر صرف الدينار الى (1450) دينار مقابل الدولار، مقارنة بالتكاليف الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على خفض الدخول الحقيقية للموظفين واثارة التوقعات التشاؤمية على مستوى الاستثمار والاستهلاك وبالتالي تراجع معدلات الطلب الكلي وتعميق الركود الاقتصادي القائم نتيجة تداعيات جائحة كورونا.
2- يولد ارتفاع سعر صرف الدولار في بلد يعتمد على الاستيراد في تغذية الطلب المحلي على مختلف انواع السلع والخدمات ضغوطا تضخمية لولبية تقضم الدخول النقدية للطبقات المتوسطة وتسحق الطبقات الفقيرة بشكل خطير، خصوصا مع غياب رقابة حكومية فاعلة على التجار والموردين لمختلف انواع السلع المستوردة الى الاسواق العراقية.
3- لا يزال احتياطي البنك المركزي من الدولار الاجنبي ضمن المديات المريحة (فوق 50 مليار دولار) مما يجعل سياسة الاقتراض الداخلي ممكنة حتى مع اتساع الفجوة بين مبيعات وزارة المالية الى البنك المركزي ومبيعات الاخير من الدولار الى القطاع الخاص، مما يتيح للبنك المركزي فرصة تعويض تراجع واردات العراق من الدولار النفطي حتى نهاية العام 2021.
4- لا يمكن اعتبار خفض قيمة الدينار العراقي في هذه المرحلة ضرورة لرفع قدرة المنتج الوطني على المنافسة ولعدة اسباب اهمها عدم وجود طاقات انتاجية مرنة وسلع وطنية قادرة على المنافسة في الاسواق المحلية والدولية لغرض دعمها عبر خفض سعر صرف الدينار.
5- تعتمد العديد من السلع الوطنية، رغم قلتها، على مستلزمات انتاج تستورد من الخارج، كما ان نهوض القطاع الخاص بحاجة لاستيراد مكائن وعدد جميعها بالعملة الاجنبية، مما يزيد من كلف الانتاج ويقلص بالتالي من فرص القطاع الخاص على الاستثمار، خصوصا مع الافاق القاتمة للأسواق بسبب تداعيات فيروس كورونا.
6- مرجح جدا ان يقود اجراء خفض قيمة الدينار العراقي الى مضاربة قوية على الدينار عبر تحويل الارصدة النقدية (المكتنزة والمدخرة) من الدينار الى الدولار حفاظا على القيمة الحقيقية لتلك الارصدة، مما يقود الى تزايد الطلب على الدولار وتحول نظم المبادلات المحلية صوب الدولرة كما حدث في لبنان.
حقيقة الامر، تحققت العديد من المحاذير اعلاه خلال الاسابيع والايام السابقة، بعد طرح خيار خفض سعر صرف الدينار اعلاميا من لدن العديد من الجهات الحكومية والبرلمانية لتجاوز ازمة الرواتب والعجز المالي في موازنة 2021. وارتفعت ازاء ذلك مبيعات البنك المركزي من الدولار بما يفوق نسبة (40%) منذ منتصف شهر تشرين الثاني ولغاية شهر كانون الاول، لتصل الى قرابة 220 مليون دولار يوميا بعدما كانت تقارب 150 مليون دولار يوميا، على الرغم من تراجع الاستيرادات السلعية خلال هذه المدة. وحلت معظم تلك المبيعات الدولارية بدلا من الدينار العراقي في الاسواق، بدوافع المضاربة على هبوط قيمة الدينار من قبل المصارف وكبار التجار او حفظ القوة الشرائية للأرصدة النقدية والتحوط من الضريبة التضخمية بالنسبة للجمهور (المكتنزين والمدخرين).
اما على مستوى الاسعار، لم يختلف المشهد كثيرا، فقد أربك قرار خفض قيمة الدينار مقابل الدولار، من (1190) دينار للدولار الى (1460) دينار للدولار، الاسواق المحلية بشكل يفوق نسبة التخفيض البالغة (22%). اذ ارتفعت العديد من السلع الاساسية كالأدوية والمواد الغذائية لمديات تراوحت ما بين (30-50%) وربما أكثر لبعض السلع الضرورية، في تصوير دقيق لمدى ضعف الرقابة والمحاسبة الحكومية في ضبط وتوجيه سلوك كبار التجار والمتحكمين بالأسعار.
على صعيد اخر، شهدت العديد من القطاعات الحيوية في الاقتصاد العراقي، كقطاع البناء والتشييد ركود ملحوظا نظرا لارتفاع معظم اسعار مدخلات هذا القطاع من حديد واسمنت ومواد اخرى، مما يعني تعطيل نشاط قطاع محوري في توليد فرص العمل لملايين الايدي العاملة وبمختلف المهارات.
في العراق يوزع الريع النفطي بعدة اتجاهات، الاتجاه الاول على مختلف العاملين في المؤسسات الحكومية على شكل رواتب واجور تستحوذ الدرجات العليا والخاصة على النسبة الاكبر. في حين يوزع الجزء الاخر على الجمهور على شكل خدمات عامة (صحة، تعليم، وغيرها)، وبرامج دعم وحماية اجتماعية (محدودة جدا) فضلا على البطاقة التموينية. اما الاتجاه الثالث والغير ملموس فهو الفارق بين سعر الصرف الحقيقي وسعر الصرف الرسمي المثبت من قبل البنك المركزي. والذي يمثل في حقيقة الامر توزيع لجزء من الريع النفطي على كافة العراقيين على شكل تعزيز القوة الشرائية للدينار مقابل الدولار وبالتالي زيادة الدخول الحقيقة لكافة افراد الشعب العراقي، وبشكل خاص الشرائح الفقيرة والهشة والتي تضررت جراء تغيير سعر الصرف نظرا لتراجع القوة الشرائية للدينار مع محدودية دخول هذه الفئات.
ان خفض قيمة الدينار العراقي جاء اساسا لتمويل العجز الضخم في موازنة العام 2021 وليس لتحقيق اصلاح اقتصادي ورفع القدرة التنافسية للمنتج الوطني. خصوصا مع استمرار التراجع في الايرادات النفطية وعجز الحكومة عن تقليص النفقات او تعظيم الايرادات غير النفطية في الامد القصير. مع ذلك، فان توقيت تطبيق سياسة خفض سعر الصرف لا يلائم الركود الاقتصادي الناجم عن تداعيات فيروس كرونا. خصوصا مع تضمين موازنة العام 2021 تخفيضات في الرواتب ورفع للضرائب وتقليص للنفقات الاستثمارية، مما يفاقم من أثر الصدمة المزدوجة (المالية والنقدية)، والتي تفوق قدرة الاقتصاد العراقي الهش على التكييف والاستمرار.