يعد موضوع استقلالية البنك المركزي عن الحكومة من المواضيع التي تحظى بأهمية كبيرة في الدراسات الاقتصادية، لاسيما بعد تكرار الأزمات المالية والاقتصادية التي تعصف بمناطق كثيرة من العالم، حيث تمثل هذه الاستقلالية ركناً أساسياً في عملية تحقيق الاستقرار النقدي والاقتصادي.
اولا : فلسفة استقلال المؤسسة النقدية
قد تكون أكثر القضايا إثارة للجدل وتعدد الآراء ومن ثم التعارض في السياسات الاقتصادية في مختلف بلدان العالم ومنها العراق هي مسألة الاستقلالية التي تحظى بها السلطات النقدية ممثلة بالبنك المركزي عن الحكومة، بمعنى إبعاد التأثيرات أو التدخلات الحكومية عن قرارات السياسة النقدية. وانطلاقا من ان مفهوم الاستقلالية Independence هو نقيض لمفهوم التبعية Dependence فقد تثار تساؤلات حول، استقلالية البنوك المركزية عن من؟ وقبلها تبعيتها لمن؟ وما هي درجة أو مستوى تلك الاستقلالية أو التبعية؟ بالتأكيد ان الإجابة على تلك الأسئلة تكمن في طبيعة النظم الاقتصادية السائدة والقواعد التشريعية القائمة التي تحدد العلاقة بين السياسة النقدية والحكومة (1).
بشكل عام، يقصد باستقلالية البنك المركزي Central Bank Independence، انفصاله عن الحكومة، وهو مفهوم مشابه لاستقلالية القضاء. فالمؤسسة المستقلة هي التي تحدد أهدافها وتتخذ قراراتها من دون تدخل من الجهاز السياسي (السلطة التنفيذية). كما تنصرف استقلالية البنك المركزي في كثير من الأحيان الى انعدام قدرة الحكومة على إجبار البنك المركزي على تمويل عجز الموازنة، والاستقلالية فيما يتعلق بالبنك المركزي غالباً ما تعني استقلالية آلية عمل السياسة النقدية(2).
مع ذلك، قد يُفهم للوهلة الأولى من تعبير (الاستقلالية) انه يعني الاستقلال التام للبنوك المركزية عن الحكومة من ناحية إدارة السياسة النقدية والائتمانية أو الهيكل التنظيمي. غير ان هذا التعبير لا يعني الانفصال التام بين الحكومة و البنك المركزي، لأن هذا الأخير ليس سوى مؤسسة تعمل في الإطار المؤسسي للدولة، ولكن تعني استقلالية البنك المركزي ان تكون قرارات البنك، وخصوصا فيما يتعلق بالسياسة النقدية، مستقلة وان تكون هذه السياسة متسقة إلى حد كبير مع السياسة الاقتصادية العامة للدولة. كما تعني الاستقلالية ان يكون البنك المركزي مفوضاً وحده بالعمل على تحقيق استقرار الأسعار، وان يتمتع المسؤولون الرسميون في البنوك المركزية بالاستقلالية، خصوصا فيما يتعلق بتعيينهم وعدم الاستغناء عن خدماتهم قبل انتهاء المدة المحددة لهم في القانون، وان يتمتع البنك المركزي بالاستقلال المالي أيضا(3).
ثانيا: نشاءة وتطور فكرة الاستقلالية
إن الجدل حول دور البنك المركزي ومدى استقلاليته هو طرح لموضوع قديم جديد، فالتساؤل مطروح منذ مدة طويلة حول استقلال البنك المركزي عن الحكومة، ومدى وحدود هذا الاستقلال. ويشير البعض إلى ان قضية استقلالية البنك المركزي قد سبقت ظهور نظام البنوك المركزية نفسه، وقد أحدثت جدلا واسعا امتد منذ أوائل القرن الثامن عشر. ويذكر الاقتصادي الكبير ديفيد ريكاردو عام 1824، معقبا على إنشاء بنك وطني في بريطانيا بقوله "لا يمكن الاطمئنان إلى الحكومة في السيطرة على إصدار النقود الورقية، إذ ان منح الحكومة هذه السلطة سوف يؤدي غالبا الى الإفراط في استخدامها، كما تشكل سيطرة الوزراء- الحكومة- على إدارة النقود الورقية خطرا كبيرا على الاقتصاد" (4). وفي العام 1931 أشار "كينز" في حديثه للّجنة الملكية في البنك المركزي الهندي إلى أن "البنك المركزي النموذجي هو البنك الذي يمزج المسؤولية الأساسية للحكومة مع درجة عالية من الاستقلالية لسلطات البنك".
وترتبط استقلالية البنك المركزي أساسا بطبيعة العلاقة بين البنوك المركزية وحكوماتها، منذ نشأة هذه البنوك في القرن السابع عشر وحتى الوقت الحاضر. وقد شهدت هذه الحقبة تطورات اقتصادية وسياسية واسعة، ولاسيما على مستوى البنوك المركزية ذاتها من حيث وظائفها وأهدافها وحجم وتنوع أنشطتها. وهو ما انعكس على طبيعة علاقتها بحكومتها، وحجم هذه العلاقات وتنوعها، فقد كانت العلاقة بين البنوك المركزية وحكوماتها في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الأولى تقوم على الرغبة في تقوية ودعم استقلالية البنوك المركزية سياسيا، وعدم تدخل الحكومات في أعمالها، ولكن هذه العلاقة اتخذت بعد الحرب العالمية الأولى، أعقاب الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، منحى جديداً نظراً لزيادة معدلات البطالة وانخفاض معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، وانهيار الأسواق المالية وإفلاس عدد كبير من المصارف التجارية والشركات.
وقد أدت هذه التطورات إلى قيام الحكومات باتخاذ قرارات حاسمة بشان البنوك المركزية، تمثلت في نقل ملكية هذه البنوك الخاصة الى ملكية الدولة، من خلال تأميمها، كما أخذت الحكومات أيضا بالتدخل في إدارة البنوك المركزية بطريقة مباشرة او غير مباشرة، خاصة من خلال تعيين محافظها ومجالس إدارتها، وهو ما أدى إلى الضغط عليها من أجل زيادة قروضها للحكومة من أجل تلبية احتياجاتها المالية، ومواجهة العجوزات في موازناتها العامة(5). إلا انه يمكن القول بصفة عامة ان العلاقة بين البنوك المركزية والحكومات قد تطورت بصورة ملحوظة في الحقبة الأخيرة من القرن العشرين، اذ أقدمت الكثير من الدول إلى اعتماد برامج وسياسات لإصلاح هياكلها الاقتصادية وخصوصا المالية منها، والأخذ باستقلالية البنك المركزي كشرط ضروري لتحقيق سياسة نقدية واقتصادية متوازنة، وهذا ما أكدت عليه اتفاقية ماسترخت عام 1992 اذ نصت على ان تكون البنوك المركزية للدول الأعضاء مستقلة عن السلطات السياسية، وعن أي تدخلات أخرى تؤثر في هدفها الرئيس القاضي بتحقيق الاستقرار في المستوى العام للأسعار.
المصادر//
1- فلاح حسن ثويني، استقلالية البنك المركزي العراقي والسياسة الاقتصادية ، المجلة العراقية للعلوم الاقتصادية، كلية الإدارة والاقتصاد، الجامعة المستنصرية، العدد 21، 009،ص1.
2- وشـاح رزاق، ملاحظات حول استقلالية ومركزية البنوك المركزية ، المعهد العربي للتخطيط ، المجلد 11، العدد 112، الكويت 2012،ص 4.
3- سهير معتوق، استقلالية البنك المركزي المصري ، مجلة كلية التجارة / جامع حلوان، 2002، ص7.
4- منصوري زين، استقلالية البنك المركزي وأثرها على السياسة النقدية، مؤتمر المنظومة المصرفية الجزائرية والتحولات الاقتصادية : الواقع والتحديات، الجزائر، 2004،ص421.
5- عبد المنعم السيد علي، استقلالية البنوك المركزية, مع إشارة خاصة إلى البنك المركزي العراقي، مجلة بحوث اقتصادية عربية، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 57، بيروت، 2012، ص134.