العدد السابع
الرجوع للعدد السابع
حفظ هذا المقال فقط
مــجلة الــــفرات
المواطنة واشكاليتها في ظل الدولة الإسلامية
د.سامر مؤيد عبد اللطيف
باحث في المركز - تدريسي علوم سياسية في كلية القانون - جامعة كربلاء
مدخل

   الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله أجمعين وبعد/

   إن البحث عن معنى للانتماء.. بل للحياة غريزة فطرية يحتاجها كل إنسان. وعادة ما ينسب الإنسان لأبيه وأسرته ومن ثم لوطنه وعقيدته. وفي مواجهة التقاطعية التي قد تحصل بين الانتماءات المتناظرة للأفراد تحت سقف البيت والوطن، فإن ربانية المنهج الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ربه في القرآن الكريم قد أوجدت حالة من التناغم والتوازن الخلاق بين منعرجات خارطة الانتماءات المتناظرة تلك.

فهذه الدوائر لم يأتِ الإسلام ليس دين قبيلة ولا وطن ولا جنس قومي خاص، غير إنه بالمقابل لم يلغ اعتبارات هذه الدوائر التي يمثل كل منها حاجة تاريخية معينة للناس، بل لقد اعتمدها، ودليل ذلك إنه أعطى في كل منها توجيهات قيمته الكبرى وهي العبودية لله حاكمة على تلك الدوائر كلها صابغة إياها صبغة الإسلام المتميزة، مما يجعل تلك الدوائر متناغمة فيما بينها دون تشاكس تبعاً لوحدة القيم الموجهة لها..

إن مشكلة المسلمين -في هذا العصر- إنهم يتعاملون مع قضايا الحياة لا من خلال قيم دينهم مباشرة، ولا من خلال مصالحهم المستقلة، وإنما من خلال التفاعل مع حضارة الآخر إما استلاباً لمعطياته الحضارية، أو مخالفة لها ورفضاً، بذريعة العداء التاريخي مع هذا الآخر، أو الاختلاف الديني معه.
  وقضية المواطنة من هذه القضايا، فقد غالى بعضهم في الانفعال بها في منطلقاتها الفكرية التي تجعل محور الولاء هو الوطن بديلاً عن الدين باسم (الوطنية) وضاد ذلك آخرون فحاربوها باسم الإسلام.

   كما إن الإسلام متهم كما هو دائماً ضمن السياق ذاته بأنه يجعل المسلم في مكانة أعلى من غيره، ويجعل الأخير دائماً مواطناً من الدرجة الثانية أو الثالثة ويحرمه من بعض حقوقه ويمنعه من استعمال بعض مكناته الاجتماعية باعتبار إنه يدخل في إطار ما يسمى بـ (أهل الذمة).

  فإذا أردنا بناء مواطنة سوية مرتكزة على قيم الإسلام ويتجاوب مع امتداداتها، فينبغي أولاً تقصي الجذور الآيدولوجية لها أولاً، ومن ثم البحث عن إسقاطها وتقابلاتها المعاصرة والمنحى التطبيقي لها سبيلاً لإعادة تنميط الوعي بأهمية دورها وفاعليته في بناء تجربة سياسية واعدة.


وانطلاقاً مما تقدم تم تقسيم البحث وفقاً لما يأتي

المبحث الأول: تمييز مفهوم المواطنة وتقصي جذوره التاريخية.

المبحث الثاني: صحيفة المدينة والمواطنة: التمثلات المعاصرة.

المبحث الثالث: إشكالية الإسلامية والمواطنة في العالم المعاصر.

المبحث الرابع: بنية المواطنة من منظور إسلامي معاصر.


المبحث الأول: تمييز مفهوم المواطنة وتقصي جذورها التاريخية

   لم ير بعض أهل اللغة دلالة لهذا اللفظ على مفهومها الحديث، إذ إن (وطن) في اللغة تعني مجرد الموافقة وواطنت فلاناً يعني وافقت مراده، لكن آخرين من المعاصرين رأوا إمكانية بناء دلالة مقاربة للمفهوم المعاصر بمعنى المعايشة في وطن واحد من لفظة (المواطنة) المشتقة من الشأن في ساكنه يعني سكن معه في مكان واحد.

   والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات).

   ويعرف قاموس المصطلحات السياسية "المواطنة" بأنها: مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي، وبين مجتمع سياسي (الدولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق القانون). وينظر إليها فتحي هلال وآخرون من منظور نفسي بأنها الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية وحماية الذات من الأخطار المصيرية".

    أما التعريف الإسلامي للمواطنة فينطلق من خلال القواعد والأسس التي تنبني عليها الرؤية الإسلامية لعنصري المواطنة وهما الوطن والمواطن وبالتالي فإن الشريعة الإسلامية ترى أن المواطنة هي تعبير عن الصلة التي تربط بين المسلم كفرد وعناصر الأمة، وهي الأفراد المسلمين، والحاكم والإمام، وتتوج هذه الصلاة جميعاً الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم من جهة، وبين الأرض التي يقيمون عليها من جهة أخرى. وبمعنى آخر فإن المواطنة هي تعبير عن طبيعة وجوهر الصلات القائمة بين دار الإسلام وهي (وطن الإسلام) وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدار من المسلمين وغيرهم).

   أما الوطنية فتعرفها الموسوعة العربية بأنها "تعبير قويم يعني حب الفرد وإخلاصه لوطنه الذي يشمل الانتماء إلى الأرض والناس والعادات والتقاليد والفخر بالتاريخ والتفاني في خدمة الوطن. ويوحي هذا المصطلح بالتوحد مع الأمة".
   كما تعرف بأنها "الشعور الجمعي الذي يربط بين أبناء الجماعة ويملأ قلوبهم بحب الوطن والجماعة، والاستعداد لبذل أقصى الجهد في سبيل بنائهما، والاستعداد للموت دفاعاً عنهما".

   لبيان الفرق بين مفهوم المواطنة والوطنية يجب إدراج مفهوم آخر لا يقل أهمية عن المفهومين السابقين.
   في تقديرنا إن الوطنية هي الإطار الفكري النظري للمواطنة. بمعنى أن الأولى عملية فكرية والأخرى ممارسة عملية. والمواطنة "مفاعلة" أي مشاركة. وبهذا يكتمل ويتكامل معنى التجريد بالتجسيد. وقد يكون الإنسان مواطناً بحكم جنسيته أو مكان ولادته أو غيرها من الأسباب، لكن التساؤل: هل لديه "وطنية" تجاه المكان الذي يعيش فيه؟. هل لديه انتماء وحب وعطاء... ذلك هو المعنى الذي نحن بصدد بحثه ودراسته وتجسيده.

   يشير عدد من الباحثين بأن مفهوم الوطنية/ المواطنة اصطلاح حديث، إلا أن المعنى تستهدفه الوطنية قد تم تناوله من قبل أفكار الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين.ويذكر العلواني أن الاهتمام بهذا المصطلح قد نشأ مع ظهور الدولة الحديثة وحدودها الجغرافية والسياسية. ولفظ "مواطن" تعبير لم يظهر إلا بعد الثورة الفرنسية سنة (1789)م أما قبلها فالناس ملل وشعوب وقبائل لا يعتبر التراب -إلا تبعاً لشيء من ذلك - وسيلة من وسائل الارتباط.

   ولقد تجلت النزعة الوطنية متماهية مع القومية في أوربا الحديثة نتيجة التلفت من الإمبراطورية الجامعة التي كان رباطها الجامع بين الأوربيين هو المسيحية التي دخلت إليها في القرن الثاني الميلادي هذا التلفت بدأ بالملوك ثم برجال الدين فيما عرف بالحركات الإصلاحية حيث تقسمت القارة الأوربية. وهذه (الوطنيات القومية، أو القوميات الوطنية) سعت -كل منها من أجل تقوية نفسها وشحن شعور الأتباع بروح التضحية لها -إلى تعميق الروح الوطنية بإحلالها بصفتها ديناً له قداسته محل المشاعر الدينية المسيحية، حتى أصبح الدين والوطنية بين كفتي ميزان كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى. وقد ظلت العصبية الوطنية -كما يقول (إدوارد لوتين) -"تقوى وفي المقابل تخف كفة الدين كل يوم" ووضعت الوطنيات على مرور الزمن مراسم لتحقيق ذلك تضاهي المراسم الدينية.

   هذه الوطنية هي الرحم الذي أنجب المواطنة التي تمثلت في علاقة الحاكم (الملك) بالسكان من حيث تبادل الحقوق والواجبات بناءً على الرابطة الوطنية بعيداً عن الدين. وهكذا بدأ تشكل المواطنة في أوربا بعد انحسار هيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوربا، وتراجع توجيهها المباشر للحياة السياسية فيما يتعلق بحياة الناس، هذا الانحسار والتراجع جعل العلاقة بين الدولة أو الملك، في أوربا- وبين الشعب أو السكان مباشرة مما جعل الشعب حقوقاً خاصة الضرائب التي يقضي إقناع الناس بدفعها إشراك ممثلين لهم في الحكومة يشرفون على صرفها وعلى أية حال فإن الوطنية - هنا ليست مجرد ذلك النزوع الشعوري ولكنها نزعة فكرية (مذهبية) لها مبادئها العامة وطقوسها السلوكية التي يزرها رواد هذه النزعة في نفوس الناس وينشئون عليها ناشئتهم، ويحاكمون إليها مواقف أتباعهم، وينظرون إلى الآخرين من خلالها.

ويرى الأستاذ علي خليفة الكواري أن ثلاثة تحولات كبرى متكاملة حدثت في أوربا هي التي أرست مبادئ المواطنة في الدولة القومية الديمقراطية المعاصرة:

1.    بروز الدولة القومية نتيجة صراع الملوك مع الكنيسة الذي انتهى بتبعية كل رعية لملكهم ومذهبة الذي اتبعه في إطار المجتمع الذي تقوم فيه دولته بقوميتها وتاريخها وثقافتها المتميزة.

2.    المشاركة السياسية التي كانت نتيجة الحاجة المتبادلة بين الدولة وشعبها وما نتج عنها من الاعتراف بحقوق متبادلة وتشارك في العمل السياسي والإشراف على حركته -كما سبق-.

3.    حكم القانون: حيث انتشرت في الدولة القومية التي تشكلت صياغة القوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واستمر إصدار هذه القوانين تلبية لحاجات تلك المجتمعات وانتقل إصدار هذه القوانين بعد ذلك إما تدريجياً -كما في بريطانيا- أو ثورياً كما في فرنسا وأمريكا إلى الشعب الذي أصبح مصدر السلطات والتشريع حيث مثل ذلك قمة (المواطنة).

وإذا كانت المواطنة في ظل تداعيات العولمة الراهنة والتغيرات العالمية تمر بمرحلة مراجعة تستهدف كسر حاجزها القومي، إذ كان يقول أحد علماء الاجتماع الفرنسيين في كتاب عنوانه (ما المواطنة - باريس 2000): لماذا ترتبط المواطنة بالقوم أو بالوطن الخاص؟ ما الذي يمنع من أن تضيق نحو مواطنات أصغر نحو الجماعات الفرعية ذات الجامع اللغوي أو العرقي، وما الذي يمنع من أن تتوسع نحو مواطنة عابرة للقوميات الوطنية.
   وهذا المسار هو الذي تسعى القوى الفاعلة لتوظيفه لمصالحها حيث تتكتل القوميات في العالم المتقدم (الاتحاد الأوربي مثلاً) بينما يجري تفتيت الأمم الأخرى ومنها الأمة الإسلامية نحو وحدات أصغر وأضعف.

   ولكن يبقى واضحاً -دون إنكار لما في الوطنية والمواطنة من إيجابيات -إنها- وإن عولمها الغرب نتائج للتحولات التاريخية الغربية، واستجابة لمتطلباته الحضارية (الخصوصية) بالدرجة الأولى وإن كان فيها ما تستفيده البشرية خارج السياق الأوربي. وخلاصة القول أن (المواطنة) في مفهومها المعاصر ومسارات تطبيقها تتمثل في:

1.    الانتماء والولاء:
إن من لوازم المواطنة الانتماء للوطن "فالانتماء في اللغة يعني الزيادة ويقال انتمى فلان إلى فلان إذا ارتفع إليه في النسب. والانتماء هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس وإخلاص للارتقاء بوطنه وللدفاع عنه. أو هو "إحساس تجاه أمر معين يبعث على الولاء له واستشعار الفضل في السابق واللاحق". ومن مقتضيات الانتماء أن يفتخر الفرد بالوطن والدفاع عنه والحرص على سلامته وكل رمزياته نشيداً وعلماً ولغة وأعرافاً إلى درجة التضحية في سبيله.

2.    امتلاك (المواطن) حقوقاً اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية يتكفل بها النظام.
     أن تحفظ له روح
     أن تحفظ أمواله وممتلكاته
     أن يحفظ له الدين
     توفير التعليم
     تقديم الرعاية الصحية
     تقديم الخدمات الأساسية
     توفير الحياة الكريمة
     العدل والمساواة
     الحرية الشخصية وتشمل حرية التملك، وحرية العمل، وحرية الاعتقاد، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي والتنقل وغير ذلك.

3.    تحمل (المواطن) واجبات تجاه الدولة والمجتمع
     احترام الدستور والقانون والنظام
     الدفاع عن الوطن وتأدية الخدمة العسكرية
     دفع الضرائب والرسوم التي تفرضها الدولة
     الحفاظ على الممتلكات العامة
     عدم خيانة الوطن والتصدي للشائعات المغرضة
     التكاتف مع أفراد المجتمع

4.    المشاركة بأبعادها السياسية والاجتماعية
إن من أبرز سمات المواطنة وتجلياتها أن يشارك المواطن في المجال السياسي (انتخابا وترشيحاً)، فضلاً عن إبداء الرأي والمشورة بشأن المواقف والقرارات السياسية التي تتخذها أو تمر بها حكومته، هذا إلى جانب إسهاماته الطوعية في النشاطات الاجتماعية ذات الأبعاد الإنسانية والخدمية التي تصب في مصلحة البلد بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ففي ذلك تجسيد حقيقي لمعنى المواطنة الفعالة والايجابية.

   وإذا كان الوطن يعني في اللغة المكان الذي يستوطنه ويسكنه الإنسان فيعكس جانباً من الارتباط والاستقرار فيه، فإن الوطنية تعني الانتماء والولاء فكراً لهذا الموقع، والمواطنة أي المشاركة في كل ما يخدم هذا المكان الذي يعيش فيه الإنسان.

   واستجماعاً لما ذكر يمكن القول إن مفهوم الوطنية وممارسة المواطنة يعكس التزاما أخلاقياً تجاه المكان الذي يسكنه الإنسان بدءاً بالحب وانتهاءً  بتجسيد متطلباته فكراًَ بالولاء والشعور بالانتماء وعملاً بالعطاء المتبادل البناء بين الوطن ومسئوليه ومن يسكن فيه.


المبحث الثاني: صحيفة المدينة والمواطنة: التمثلات المعاصرة

   عند وصول الرسول صلى الله علية وسلم المدينة المنورة مهاجراً، سارع إلى إرساء معالم الدولة الإسلامية الأولى، وعزمه على تأسيس التجربة السياسية الجديدة وجد لديه واقعاً واحداً، فالأنصار كانوا يمتلكون الأرض والإمكانات والانتماء إلى الأرض على عكس المهاجرين، الأمر الذي أقضى المؤاخاة بينهم لتجاوز التمايز الواقعي الذي يحول دون صهرهم في بوتقة التجربة الجديدة. وتجلى ذلك في قيامه صلى الله علية وسلم بإزالة أسباب الخلاف بين الأوس والخزرج، وتأسيس المسجد الذي اتخذ مركزاً للدولة تقام فيه الصلوات وتتخذ منه القرارات، ثم أمر بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ذلك الحدث الفريد في العالم الذي وحد مشاعر وآلام المسلمين، وجعلهم فعلا كالجسد الواحد.

   كما وجد لديه خليطاً من غير المسلمين من المشركين واليهود، وهنا فإن إسقاط العقيدة كأساس للمشروع السياسي المراد تأسيسه في المدينة سوف تصدق على قسم من الناس ولا تصدق على القسم الآخر، فالإخوة الدينية والمشترك العقائدي يصلح لتكوين رابطة بين المؤمنين فقط وضمن شروط لتجربة أخرى تأخذ بكافة أسباب ومقتضيات التجربة الدينية البحتة، وواقع المدينة لم يكن كذلك كونه يشتمل على غير المسلمين ولوجود واقع آخر يميز التجربة الإنسانية في أبعادها العقدية والاجتماعية، وهنا فإن لوازم المشروع السياسي المراد تأسيسه من خلال هذه التجربة الإنسانية تقتضي إيجاد رابطة أعم تصدق على واقع المدينة المتنوع والمتعدد في أطيافه وألوانه المجتمعية والعقيدية، وهذا ما فعله الرسول (ص) عندما عقد اتفاقاً مع المسلمين وغير المسلمين، عرف باسم (صحيفة المدينة)، فكان بحق أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة بحدود وضعها الرسول كعلاقات توقع مسؤولية من أخل بداخلها تحت دائرة حكم الإسلام ومرجعيته طبقاً لأحكام هذه الصحفة (صحيفة المدينة) التي تعد بالمفهوم المعاصر مرجعية دستورية لسكان المدينة النبوية، إذ إن تلمس جوهر هذه الصحيفة - التي تتضمن 47 بنداً- يوضح المشتركات القيمية مع مبدأ المواطنة، من خلال الاعتراف بالتعددية واحترام حقوقها وواجباتها بكل من سكن المدينة مسلماً كان أو غير مسلم. ونلاحظ أن الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود وغيرها من الجماعات خارج المدينة. وفي هذا الشأن نصت الصحيفة: "هذا الكتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم امة واحدة من دون الناس".

وقد أكدت الصحيفة أيضاً مفهوم النصرة المتبادلة بين سكان المدينة مسلمين وغيرهم كما في البند (16-37)، إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم)).
   وتعرض الصحيفة في مواضع مختلفة أن الاحتكام حين التشاجر والاختلاف هو لله ورسوله (بند 23- 42) مما يعني تأكيد السيادة الشرعية.
   وهذا التعريف الواسع للأمة هو إطار الجماعة السياسية المراد تأسيس مجتمع المدينة على أساسه من خلال بنود هذه الصحيفة التي شكلت إطاراً واسعاً للتعايش بين الأديان والجماعات الإنسانية المتنوعة.

   وهذا يتطابق مع مفهوم المواطنة القائم على فكرة العلاقة العضوية بين أفراد المجتمع السياسي للدولة والتي تحتمها ضرورات تنوعهم وتعدد أطيافهم، مما يقتضي إيجاد رابطة تشملهم جميعاً. من جانب آخر نظمت الصحيفة حقوق الجماعات والأفراد، فنصت على إن جميع أفراد الأمة متساوون في حق منح الجوار لأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم غير إن الصحيفة قيدت هذا الحق بالنسبة للمشتركين من أفراد الأمة بقولها: "وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن" وذلك لأن مشركي قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين. وأعطت الصحيفة لغير المسلمين الحق في حرية التدين، فقالت ((لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم))، لقوله تعالى: "لا إكراه في الدين" وقوله عليه الصلاة والسلام عندما كتب إلى أهل اليمن "إنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن وعليه الجزية. وكذلك يتركون وما يعبدون، ويسيرون".

   كما منحتهم حرية التصرف في أحوالهم الشخصية حسب أديانهم من زواج وطلاق وغيره بل وتعين الدولة لهم قاضياً منهم ينظر في خصوماتهم. وأما المطوعات والمشروبات والملبوسات فيعاملون بشأنها حسب أحكام دينهم ضمن النظام العام. وأما الحقوق الإدارية، فسائر رعاياً الدولة هو سواء في تقلدها إلا في المناصب الدينية، أو التي تعتبر من أعمال الحكم. ولكل من يحمل التابعية وتتوفر فيه الكفاية، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً أو غير مسلم أن يعين مديراً لأية مصلحة من المصالح أو أية إدارة وأن يكون موظفاً فيها، ويجوز لكل حامل التابعية الإسلامية "الجنسية" وبغض النظر عن دينه وعنصره أن يكون عضواً في مجلس الأمة. وأن ينتخب أو ينتخب لهذا المجلس وتنفق لدولة على رعاياها من غير المسلمين الفقراء ما تنفقه على فقراء المسلمين من أموالهم بحيث تمكنهم من العيش الكريم أسوة بأي مسلم، وتكمنهم من قضاء لوازم حياتهم الضرورية وتعليمهم كما تمكن المسلمين. ومن حقوق أي فرد في الدولة استخدام المرافق العامة، وإحياء الأرض الموات ومن واجب الدولة المحافظة على حرماته الشخصية.

   ومن الملفت للنظر أن صحيفة المدينة اعتبرت الحقوق هبة الله تعالى وليس لأحد انتهاكها وأنها فرنت الحقوق بالواجبات في تأكيد جازم على ملازمتها لإنتاج حياة مسؤولة وهادفة، وأشارت إلى قدسية حقوق الإنسان من خلال تأكيدها على التعاون ضد الظلم والفساد والطغيان وحماية الضعيف، ولم تعط أي طرف ميزة خاصة، ووثقت مبادئ الإيمان والعدل والمساواة والتعاون بين بني البشر جميعاً.

   وإذا كانت النصوص الإسلامية قد أسندت المسؤولية الجزائية على كل مسلم بصفته الفردية، فكذلك شملت هذه القاعدة غير المسلمين فجاء في الصحيفة: "إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ -أي يهلك- إلا نفسه" وكذلك وضحت الصحيفة ما هي واجبات (غير المسلمين لاسيما اليهود)، حيث أوجبت الصحيفة على اليهود عدم منح الجوار "الحماية" لقريش ولا من نصرها، كما أن من واجبهم مناصرة المسلمين في محاربة من اعتدى على المدينة. إضافة إلى تحديد النطاق الجغرافي الذي يحاسب عليه أي إنسان اقترف جرماً داخل ما يسمى بجوف المدينة كما في البند رقم (39-44).

   ومن تحليل تلك النصوص يتضح إن الإسلام يعتبر الجماعة التي تحكم بموجب أحكامه وحدة إنسانية بغض النظر عن طائفتها وجنسها، فليس في الإسلام ما يسمى بالأقليات، بل جميع الناس لهم الاعتبار الإنساني فقط ما داموا يحملون التابعية أو الجنسية، فكل من يحمل تابعية الدولة يتمتع بالحقوق التي قررها الشرع له سواء أكان مسلماً أم غير مسلم. ويطبق الإسلام على جميع الرعايا باعتباره قانوناً للجميع، فحين تطبق أحكام المعاملات والعقوبات مثلاً، ينظر إلى الناحية التشريعية القانونية، لا الناحية الروحية الدينية.

   وهكذا عدت صحيفة المدينة أول وثيقة حقوقية نظمت العلاقة العضوية بين أفراد الجماعة السياسية وضمنت الحقوق والواجبات على أرضية التعددية الدينية والعرقية وأنها عقد مواطنة متقدم على عصره بين رأس الدولة ومن معه من المسلمين، وبين سكان المدينة من أهلها الذين لم يدخلوا الإسلام بعد.


المبحث الثالث: إشكالية الإسلامية والمواطنة في العالم المعاصر

  لا ينظر الإسلام إلى المواطنة بمفهوم (إسلامية المسلم في مجتمعه  الخاص) على إنها حركة مغلقة، بل هي حركة منفتحة، فإقامة المجتمع المسلم المتماسك يستهدف الانفتاح على ما وراءه انفتاحاً إيجابياً... إلى المجتمعات المسلمة للتوحد معها والإسهام في حمل همومها،... وإلى المجتمعات الأخرى للإسهام في إعلاء القيم الإنسانية التي تحقق للعالم تعايشاً سلمياً وتفاعلاً حضارياً نافعاً.

   إن الإسلام لم يأت ليمنع ما فطر عليه الناس، لكن ليذهب ذلك المعنى وذلك السلوك، فهو يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للاسرة (ادعوهم لآبائهم) والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرامي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية. ونسب القرآن الرجل لبلاده، ولكنه في الوقت ذاته أكد على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه "ليس منا من دعا إلى عصبية" أو جاهلية أو قومية وأحداث السيرة مليئة بشواهد كثيرة في هذا المعنى.

   والذي يجعل البعض يقف سلبياً أما مصطلح الوطنية أو القومية كما يشير الأنصاري (1999) إنما هو خطأ المفكرين القوميين بتحويل هذا المفهوم والتعبير عنه بأنه (عقيدة). وفي ذلك تجاوز للحد والوظيفة التي يجب أن يقف عندها دور هذا المفهوم.
   وإذا ما أردنا تجاوز الاحتداد بين هذا وذاك بين فكر التضاد والإلغاء بين منت يرى أنها وسيلة الوحدة وبين من يرى عدم أهميتها البتة، فإن المنهجية العلمية والموضوعية تستدعي أن نطرح فكراً يتجاوز حدود المصادمات ويؤصل لتشكيل فكر ناضج وواعٍ ومؤصل ومستوعب لحجم التحديات الذي يشهدها عالمنا العربي الإسلامي اليوم.

   إن من الأهمية بمكان القول بأن مفاهيم الإلغاء والإقصاء والتنكر دائماً ما تخالف طبيعة الحياة وبالتالي يصعب عليها إكمال مسيرتها.. فالاعتراف بوجود الأشياء وما يضادها بغض النظر عن قبولها أو رفضها هو سنة حياتية جارية، هذا فضلاً عن قدرتنا ومهارتنا الفكرية والذهنية على التأليف والتوظيف الأمثل للدور المناسب والأكمل لكل فيما يخصه. وذلك أن كل إلغاء للآخر هو مسلك مجاف لطبيعة الحياة.

ولذلك فالأصل هو استهداف الحكمة المشروعة في التعامل مع الأفكار والأشخاص والمفاهيم والمقتنيات. ومن هنا نؤكد بأن إقصاء "البعد الإسلامي" من أجل الوطنية إحلالها إجمالاً كمنهج توحيد وطني لا يتناسب وسيادة التشريع الإسلامي ومرجعيته في البلد المسلم، وبالمثل فإن نفي "البعد الوطني" وأهميته في احترام خصوصيات الشعوب والأفراد وفي انتماء الإنسان وحبه لوطنه وسعيه لنهضته وتنميته والدفاع عنه خلل آخر.
   والوحدة المطلوب تبنيها على مستوى العقيدة غير تلك المطلوبة علة مستوى الوطن فالأولى أرقى وأسمى من أن تحدها الحدود والأخرى بطبيعتها ووظيفتها لها حدود.

   أي بعبارة أخرى أن الإسلام لا يتعارض مع اعتماد المواطنة موحدة بناء للجماعة السياسية، بل لا نجد مشكلة قيمية معرفية حقيقية بين مبدأ الأخوة الدينية، فالأخوة الدينية، فالإخوة هنا رابطة معنوية متحررة عن الزمان والمكان، أما المواطنة فهي رابطة التعايش المشترك بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان ضمن وحدة سياسية تسمى الدولة.

   وعموماً، إن قلنا بوجود مشكلة في قبول المواطنة على أرضية إسلامية فهي ناتجة عن عقيلة الجمع بين العقدة والمشروع، فالعديد من الإسلاميين السياسيين لا يميزون بين لوازم العقيدة ولوازم المشروع السياسي المرتبط بالواقع المتحرك والمتغير والمتعدد، ولعل في طليعة تلكم اللوازم: أن المشروع السياسي المراد إنجازه لا يتم من خلال حمل الواقع كقالب جامد على أساس العقيدة المنجزة دون النظر إلى حركية الواقع وتعقيداته وتحولاته، ولا يمكن حمل الواقع دفعياً إذا ما كان مغايراً لخصائص العقيدة، كما إنه سوف لا يصدق على الواقع الخارجي المراد إحداث التغيير فيه، فإشكالية المشروع السياسي تكمن في إيجاد روابط معنوية ومادية قادرة على التعامل مع الواقع كما هو مع محاولة ترشيده على أساس العقيدة أو الإيمان الإيديولوجي.

   وقد يكون التخوف آتياً من اللفظ الذي ارتبطت به هذه القضايا وهي لفظ (المواطنة) حذراً من تصور الوطن نفسه مصدر تلك الحقوق والواجبات، أما مصدرها فهو شيء آخر، فلسفة، أو دين، يعيشه أفراد ذلك المجتمع، فالمواطنة في الغرب ترتد إلى الفلسفة الليبرالية التي يمثل فيها الفرد وحدة مستقلة، لحقوقها الاعتبار الأعلى وأهمها الحرية التي ينبغي أن تصان ما لم تكن خطراً على حريات الآخرين، وعلى هذا تقوم النظم الديمقراطية، أما في الإسلام فمصدر الواجبات والحقوق المتبادلة في المجتمع المسلم هو الإسلام بما وضعه من قيم خلقية، وأحكام تعاملية بين الأفراد أو بين الحاكم والمحكوم.

   أما تصور إن المواطنة تعني إقامة نمط من العلاقات الخاصة في وطن محدد يؤدي إلى انعزاله عن أمته الإسلامية وهمومها فهذا غير صحيح، إذ إن موجهات الإسلامية التوسعية أسرة فعشيرة فمجتمعاً فأمة تمنع هذا، بل أكثر من ذلك تجعل واجبات وحقوق الدائرة الأدنى صاعدة بالناس نحو ما فوقها من دوائر، والتكامل البنائي الإسلامي في مجتمعين من مجتمعات المسلمين يؤدي تلقائياً إلى تماثلهما ومن ثم تقاربهما وتوحدهما في المسار الحضاري، وهذه أوربا بقومياتها الوطنية الضيقة استطاعت أن تذيب ما بينها من جليد وأن تتوحد شيئاً فشيئاً.  


المبحث الرابع: بنية المواطنة من منظور إسلامي معاصر

  في أي وطن، تتمثل العناصر الكبرى التي تتبادل الحقوق والواجبات، وتقوم بينها المواطنة في أثنين:

أولاً: الشعب

ثانياً: الدولة


المطلب الأول: المواطنة بين أفراد الشعب
   مدنية الإنسان، أي ارتباطه بالناس الآخرين بعلاقات تبادلية، تتجاوز صورتها الفطرية لتصبح ضرورة حياتية بل وجودية بالنسبة لهذا الإنسان، لهذا نجد أن أشد المذاهب مغالاة في فردية الإنسان تعترف بضرورة وجود قيم تنظم علاقات هؤلاء الأفراد فيما بينهم حتى تحتفظ فردياتهم بأعلى قدر من التحقق.
   والإسلام يجعل العلاقات التي ينظمها في المجتمع وغيره مع حسن علاقة المسلم بربه، والوفاء بعهده في سبيل فلاح الإنسانية، وبالمقابل يجعل إهدار الحقوق المرتبة على تلك العلاقات مع الإفساد في الأرض ونقص ميثاق الله سبباً في استحقاقاتهم مقت الله وسبيلاً للشقاء الأبدي.
لقوله تعالى: ((والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سواء الدار)) الرعد 18-25.

  وتتمثل الحقوق والواجبات المتبادلة على المستوى الشعبي في تشعبات كثيرة بحسب الصفة التي يأخذها شخص تجاه الآخر، فهناك حقوق بين الوالدين وأولادهم وحقوق بين الزوجين، وحقوق بين الأرحام، وحقوق بين الجيران... الخ.
   وعلى هذا نقول: إن من المهم للارتقاء بالعلاقات بين الأفراد الذين يجمعهم مجتمع مسلم إلى المستوى الإنساني، المحقق للسعادة، أن تتجلى فيها لأخلاق التي شرعها دين الإسلام بين المؤمنين عموماً، ومنها الأخلاق التالية:

     الولاء الذي ينعقد برابطة الإيمان بين المؤمنين، وهو الذي على أساسه تتشكل البنية العضوية المتماسكة للمجتمع المسلم، وبالتالي للأمة الإسلامية، وبضعة تفسد حال الأمة، ويندثر وجودها الحضاري. ولهذا قال سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) الأنفال 73.

     الألفة والتواد والتعاطف، حيث تسود العلاقات بينهم روح تقارب نفسي وعملي إيجابي يشد بعضهم إلى بعض شداً إيماناً إنسانياً حقيقياً، لا مصلحياً أو مظهرياً فقط، وقد أوضح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في تشبيه بليغ، في قوله عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
     النصيحة، وهي كلمة جامعة تقتضي السعي بكل ما فيه مصلحة للمنصوح له، وليست مقصورة على الإرشاد نحو أداء عبادة متروكة، أو ترك منكر مقارف.

  وقد كان من عناصر المبايعة التي بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عليها: (النصح لكل مسلم) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ((الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين، والمسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يكذبه، ولا يظلمه وإن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذى فليمطه عنه).

   ومن صور النصح فيما بين المسلمين: (إرشادهم لمصالحهم في دنياهم وأخرهم، وكف الأذى عنهم، وستر عوراتهم، ودفع زلاتهم، وإبعاد المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم...). 
     الإصلاح بين الناس، وإزالة أسباب الفرقة والنزع والشقاق بينهم، والمبادرة إلى احتواء التنافر والخصام إذا حدث، ومنعه من أن يتطور، وقد جعل الإسلام خصلة الإصلاح من أفضل الأعمال، فالله يقول في كتابه ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)) (النساء 114).

     النصرة: فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن ينصره بما يستطيع من قدرات وإمكانات، والنصر شامل للجوانب المادية والمعنوية، فكما يجب عليه نصره عندما يظلم في أمر مادي، يجب عليه أن ينصره إذا وقع عليه ظلم أدبي، كالغيبة والنميمة، وتشويه السمعة ونحوها.
     والنصر للمسلم مطلوب من أخيه على أية حال، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال رجل: أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تحجزه وتمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره).

     وكذلك الآداب العملية التي تقتضيها حركة الحياة اليومية بين الناس، مثل: آداب التعامل المالي، وآداب الصحبة، وآداب الشارع والبيوت، كالاستئذان للدخول، وعدم التلصص عليها، وستر ما يراه مما يضر إشاعته بأخيه، واحترام الكبير، والعطف على الصغير.

   ثم إن القيم الخلقية التي شرعها الإسلام لتكون قواعد موجهة وضابطة للحياة الإسلامية تتمثل بصورتها المباشرة في غير العلاقات بين أفراد المجتمع سواء كانت من المطلوبات كالصدق والعدل والحياء والإحسان، والتعاون على البر والتقوى، والإكرام، والنصيحة أو كانت من القيم المنهي عنها كالغش والغل والتعدي على حقوق الآخرين والتكبر على الناس، والاتهامات الباطلة، والتلصص على العورات.. ونحوها مما جاء النهي عنه في الشريعة.
   وهي قيم باستطاعتها لو استطاع النظام التربوي غرسها في نفوس الناشئة وبناء شخصياتهم عليها أن توجد مجتمعاً تتلألأ إنسانيته في أعلى درجاتها، ويتناغم أفراده نفسياً وفكرياً وحركياً بأرقى صور الكمالات البشرية.


المطلب الثاني: المواطن والدولة

   الحقوق المتبادلة بين الشعب من جهة والدولة من جهة أخرى هي مدار ما يسمى الآن بـ (المواطنة) من حيث هي حقوق متبادلة بين الطرفين.
   وفي هذا الإطار ورد إنكار بعضهم -كما سبق- لهذه الحقوق في الإسلام لعدم وجود لفظ (مواطن) بمعنى شخص يشارك في شؤون وطنه، بل يوجد لفظ يعطي المعنى المقابل -كما يتصور بعض هؤلاء- وهو لفظ (رعية) الذي يطلق أساساً على الماشية التي يوجهها الراعي كيفما يريد.

  إن لفظ (الرعية) في الصيغ الشرعية تتضمن معنى حق المرعي على الراعي بالعدل والقيام بالحق وإيفائه حقوقه التي شرعها الإسلام له، فالنص الشرعي وهو نص ديني عماده التوجيه الخلقي قبل التشريع القانوني يوجه الراعي أن يتحمل مسؤولية إقامة حقوق الرعية تديناً لله وطلباً لرضوانه، ولنتأمل حديث المسؤوليات الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

    ولأن المسلمين فهموا مثل هذا النص في جوه الديني العام لم ترد عندهم تلك الصورة البشعة التي تمنح الراعي التلاعب بمصائر رعيته كما الراعي بأغنامه، إن الذي فهموه عكس ذلك تماماً لقد فهموا أنه دليل على عظم حقوق الرعية وخطورة مسؤولية من تهيأ له إمساك زمام الحكم عليها بل فهموا منه إن الراعي ليس هو الأصل بل الرعية، وأن الراعي مجرد وسيلة لإقامة حقوق هذه الرعية، ومن ذلك ما قاله أحد العلماء: (الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه).

   والحقيقة أن القيمة ليست في المصطلحات بذاتها وإنما في المضامين التي تحملها ثم في تجليها في الواقع العملي في الحياة.
حقوق الشعب (المواطنين) على الدولة:

من أبرز هذه الحقوق:

1.    أن يكون الحكم وفق المنهج الذي يرتضيه الشعب وهو بالنسبة للمجتمع المسلم تطبيق شريعة الله والحكم بما أنزل في وحيه.

2.    النصح لجميع أإفراد الرعية، وعدم غشهم بأي صورة من صور الغش الثقافي أو الاجتماعي جاء في الحديث الشريف (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة). فمن حقوق المواطن على الدولة، الصدق وعدم الغش فيما تقوم به من أعمال فقوله صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا) تدخل فيه السلطة (الدولة) كما يدخل فيه الأفراد، بل إنها تدخل في حديث (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشتقق عليه) فهذا الحديث يتجه بشكل مباشر إلى ولاية الحكم.

3.    تحقيق القيم الإسلامية كالعدل والمساواة من خلال أنظمة شاملة لجميع المواطنين.

4.    تحمل المسؤولية أمام أعداء الوطن.

5.    تهيئة الفرص لأفراد الشعب للقيام المعاشي والمعادي.

أما حقوق الدولة على المواطنين فمن أهم ما تتمثل به:
البيعة أو الانتخاب: وهي تمثل تعاهداً بين المواطنين وحاكمهم على أن يحكم فيهم بالشريعة وأن يقيم الحق والعدل، على أن يكونوا أوفياء للنظام مغلبين المصلحة العامة التي تتبناها الدولة على المصالح الجزئية الذاتية، والبيعة أو الانتخاب بالتالي ليس مجرد توافق يتم وينسى، إن المطلوب شرعاً أن تظل ملازمة شعورياً ومن ثم حركياً للمواطن في كل أحواله.

     الولاء للدولة بحسبانه ولاء للإسلام الذي تتبناه الدولة تطبيقاً ودعوة.
     الالتزام بتطبيق نصوص الدستور والقانون والقرارت والتوجيهات التي تصدرها المؤسسات الحكومية.
     الإخلاص في العمل للدولة سواء من خلال مؤسساتها أو مؤسسات المجتمع المدني.
     الإسهام في بناء وتنمية الوطن.
     النصح والسعي للإصلاح بالطرق السليمة التي لا تهز استقرار الوطن ودولته.
     الدفاع عن الوطن ضد أعدائه.
     التمثيل الجيد للدولة والمجتمع خارج حدوده.
     دفع الضرائب والرسوم من خلال الخمس والزكاة وغيرها من الوسائل التي أوجبها الشرع.


الخاتمة

   لما كان الانتماء للوطن غريزة راسخة في وعي الأفراد، مثلما هي سائر الانتماءات الفرعية بصورة قد تؤدي في أحيان إلى التقاطع بينها بصيغة تخل بمتطلبات المواطنة بمعناها المعاصر، فإن الإسلام قد أوجد حالة من التناغم والتوازن بين تلك التقاطعات ضمن مسار هرمي لا يسمح بتمددها على حساب الانتماء للعقيدة أو الوطن.

   والمواطنة من الناحية الاصطلاحية تعني "علاقة فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة". وعلى الرغم من إن مفهوم الوطنية/ المواطنة اصطلاح حديث نسبياً، لم يظهر إلا بعد الثورة الفرنسية سنة (1789)، إلا أن المعنى الذي تستهدفه الوطنية قد تم تناوله من قبل أفكار الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين. وهذا المفهوم قد اكتسب أبعاده ومسارات تطبيقه عبر صيرورة ومخاضات طويلة عاشتها شعوب الأرض في كفاحها من أجل بناء وطنها وتحقيق نهضته ونيل حرياتها، فكانت حصيلة ذلك أن يتسع هذا المفهوم في تكوينه ليشمل مقومات عدة من أهمها: ((الانتماء والولاء، الحقوق، والواجبات، المشاركة بكل أبعادها)).

   وبإسقاط هذا المفهوم بأبعاده وتطبيقاته العصرية على التجربة الإسلامية الرائدة التي خاضها الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة مع انطلاقة دعوته من حدودها المحلية، نلحظ إن لوازم المشروع السياسي المراد إقامته في المدينة المنورة تقتضي إيجاد رابطة أعم من رابطة العقيدة لتحتضن التنوع من مكونات شعبها، ولهذا عقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقاً عرف باسم (صحيفة المدينة)، عدت أول وثيقة حقوقية نظمت العلاقة العضوية بين أفراد الجماعة السياسية وضمنت الحقوق والواجبات على أرضية التعددية الدينية والعرقية، فكانت بحق أول عقد مواطنه متقدم على عصره كرس المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة العصرية.

    ومن تحليل تلك التجربة، يتضح إن الإسلام يعتبر الجماعة التي تحكم بموجب أحكامه وحدة إنسانية بغض النظر عن طائفتها وجنسها، فليس في الإسلام ما يسمى بالأقليات، بل جميع الناس لهم الاعتبار الإنساني فقط ما داموا يحملون التابعية أو الجنسية، فكل من يحمل تابعية الدولة يتمتع بالحقوق التي قررها الشرع له سواء أكان مسلماً أو غير مسلم. ويطبق الإسلام على جميع الرعايا باعتباره قانوناً للجميع، فحين تطبق أحكام المعاملات والعقوبات مثلاً، ينظر إلى الناحية التشريعية القانونية، لا الناحية الروحية الدينية. 

    ومن هدي تلك التجربة الرائد نستنبط أن الإسلام لم يأت ليمنع ما فطر عليه الناس، لكن ليذهب ذلك المعنى وذلك السلوك، فهو يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للأُسره (ادعوهم لآبائهم) والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية. ونسب القرآن الرجل لبلاده، ولكنه في الوقت ذاته أكد على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه "ليس منا من دعا إلى عصبية" أو جاهلية أو قومية وأحداث السيرة مليئة بشواهد كثيرة في هذا المعنى.

   ومن هنا نؤكد بأن إقصاء "البعد الإسلامي" من أجل الوطنية وإحلالها إجمالاً كمنهج توحيد وطني لا يتناسب وسيادة التشريع الإسلامي ومرجعيته في البلد المسلم، وبالمثل فإن نفي "البعد الوطني" وأهميته في احترام خصوصيات الشعوب والأفراد وفي انتماء الإنسان وحبه لوطنه وسعيه لنهضته وتنميته والدفاع عنه خلل آخر.

   والوحدة المطلوب تبنيها على مستوى تبنيها على مستوى العقيدة غير تلك المطلوبة على مستوى الوطن فالأولى أرقى وأسمى من أن تحدها الحدود والأخرى بطبيعتها ووظيفتها لها حدود.  
    أي بعبارة أخرى أن الإسلام لا يتعارض مع اعتماد المواطنة كوحدة بناء للجماعة السياسية، بل لا نجد مشكلة قيمية معرفية حقيقية بين مبدأ المواطنة ومبدأ الأخوة الدينية، فالأخوة هنا رابطة معنوية متحررة عن الزمان والمكان، أما المواطنة فهي رابطة التعايش المشترك بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان محدد ضمن وحدة سياسية تسمى الدولة.

   وتأسيساً على ما تقدم يمكن تحديد النطاق الذي تتحدد به ملامح الهوية الوطنية ضمن المجتمع الإسلامي ضمن مسارين، أولهما: مسار العلاقة بين أفراد الشعب الواحد والذي لا يخرج على محددات القواعد الإسلامية في غرس مفاهيم: (الولاء والألفة والنصيحة والإصلاح والنصرة والسلوك الحضاري الإيجابي بين أفراد الشعب الواحد مسلمين وغير مسلمين). أما الآخر فيتحدد بالعلاقة بين المواطن ووطنه، وهذا غاية ما يسعى إليه البحث في هذا الموضوع.

    وفي الإطار رتب الإسلام جملة من الحقوق والواجبات بين المواطن ووطنه، من هذه الحقوق (تحقيق إرادة الشعب في منهج الحكم، وتكريس مبادئ العدل وحماية الشعب من المخاطر الداخلية والخارجية فضلاً عن تهيئة فرص التطور والرفاه) ومن الواجبات (الولاء، العمل الجاد من أجل بناء الدولة وتحقيق رفعتها، المشورة للحاكم، الدفاع عن الوطن ضد أعدائه في الداخل والخارج بكل السبل المتاحة والمسموح بها قانوناً، ودفع الضرائب، والالتزام بالقوانين). ومن تحصيل كل ما تقدم يتجسد المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة بالصورة التي حددها الإسلام وطبقها فعلياً ضمن إطار عصري.


المصادر

1.    د. حسين درويش العادلي، المواطنة في الإسلام، مجلة التضامن، المجلس العراقي للسلم والتضامن، بغداد، العدد الرابع، شباط 2008.
2.    راشد الغنوشي، حقوق المواطنة: حقوق غير المسلم في المجتمع المسلم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية.
3.    زياد أحمد سلامة، المواطنة ومفهوم الرعية المسلمة، مقالة منشورة في الموقع الالكتروني لجريدة الغد الأردنية، التاريخ 24 شباط 2009: http://www.alghad.jo/?news=106203.
4.    د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي، فلسفة المواطنة في المجتمع السعودي، بحث مقدم للقاء مقدم للقاء قادة العمل التربوي في السعودية، الموقع:  http://www.imamu.edu.sa/naief-chair/Documents.
5.    د. علي خليفة الكواري، مفهوم المواطنة في الدولة القومية، مجلة المستقبل العربي، العدد الثاني، 2001.
6.    د. فهد إبراهيم الحبيب، الاتجاهات المعاصرة في تربية المواطنة، دراسة منشورة في موقع آفاق للدراسات والبحوث، التاريخ 19/2/2009، الموقع: http://www.aafaqcenter.com/index.php?=com-content&task=view&id=168&Itemid=392.
7.    كريم شغيدل، أسس المواطنة وصور الالتباس، مجلة الإسلام والديمقراطية، منظمة الإسلام والديمقراطية، بغداد، العدد العاشر، شباط 2005.
8.    د. محمد سليم العوا، فكرة المواطنة وتطورها، دراسة منشورة في الموقع الالكتروني لحزب الوسط الجديد، التاريخ 30 نوفمبر 1999، الموقع: http://www.alwsatparty.com/modules.php?file=article&name=News&sid=607.
9.    د. محمد عمارة، حقوق المواطنة في الإسلام، مقالة منشورة في منتدى الشروق الإسلامي، على الشبكة الدولية للمعلومات، التاريخ 22/2/2009، الموقع: http://www.alshorok.net/vb3/showthread.php?t=9590.