تترجم عبارة tanks - think إلى اللغة العربية بصور مختلفة، فهناك من يترجمها إلى (مراكز التفكير)(1) وهناك من يترجمها إلى(بنوك الفكر - أو - بنوك التفكير)(2)، ولكن في الغالب يستخدم تعبير (مراكز الأبحاث والدراسات)(3)، للإشارة إلى tanks- think، وذلك لان معظم المؤسسات أو المراكز التي تقع تحت القطاع المذكور لا تعرف نفسها في وثائق تعريف الهوية الذاتية(4) .
وحتى في اللغة الانكليزية، حتى الأربعينيات من القرن العشرين فان أغلبية think tanks عرفوا باسم المؤسسات أو مراكز الدراسات والأبحاث، ولكن أثناء الحرب العالمية الثانية استخدم عبارةbrainbuxes (5) أو (صناديق الدماغ أو المخ) في اللغة العامية في الولايات المتحدة للإشارة إلى think tanks وفي زمن الحرب استخدم (brainbuxes) في اللغة العامية الأمريكية للإشارة إلى (الغرف التي ناقش فيها الإستراتيجيون التخطيط الحربي)
(6) Referred to rooms in which strategists discussed war planning
ويرجع أول استخدام مدون لعبارة think tanks إلى الخمسينيات والسبعينيات إذا تم استخدم هذه العبارة بشكل عام للإشارة إلى مؤسسة راند والى المجموعات الأخرى التي ساعدت القوات المسلحة.
في الوقت الراهن تستخدم العبارة بدرجة كبيرة للإشارة إلى مؤسسات إعطاء النصح، وبذلك فان عبارات (مراكز الأبحاث والدراسات أو صناديق الفكر أو مراكز التفكير) يشير إلى شيء واحد معروف في اللغة الانكليزية بـ think- tanks.
وقد نستخدمها كلها بدون تمييز في هذه الورقة، لان في الأدبيات المكتوبة والمتعلقة بهذه المؤسسات نذكرها بأسماء مختلفة وذلك لان هذه المؤسسات بنفسها تتواجد بأسماء وتعريفات مختلفة، في بعض الأحيان تطلق على نفسها اسم (مؤسسة foundation) أو (معهدinstitute) أو (بالصندوق fund) أو (الوقفendowment) ولكن في النهاية تقع كل هذه المنظمات تحت قطاع واحد في الساحة السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة، وهو ذو نفوذ ويتمتع بدور أساس في عملية صنع القرار بواشنطن(7) .
تعريف مراكز التفكير
لحد الآن لا يوجد تعريف عام وشامل (جامع ومانع) لهذه المؤسسات. وتكمن صعوبة إيجاد تعريف كهذا _كما قلنا سابقاً_ إلى إن معظم المؤسسات والمراكز التي تقع تحت قطاع مراكز التفكير، لا تعرب عن نفسها كثينك تانكس في وثائق تعريف الهوية الذاتية، وإنما تعلن عن نفسها كمنظمات غير حكومية (NGO) أو منظمات غير ربحية(non profit organization)، وهذا بالذات يعد احد التعريفات التنظيمية المعترف بها في القانون الأمريكي(8).
ولكن على الرغم من هذه الإشكالية بخصوص هوية هذه المراكز هناك عدة تعريفات لهذه المراكز نحاول أن نعرض بعضاً منها. فتعرفها الموسوعة المجانية المعروفة بـ (wikipedia- Free Encyclopedia ) بأنها (أيّة منظمة أو مؤسسة تدعي بأنها مركز للأبحاث والدراسات أو كمركز للتحليلات حول المسائل العامة والمهمة)(9) ، ويعرفها بعض الكتاب بأنه (أي منظمة تقوم بأنشطة بحثية سياسية تحت مظلة تثقيف وتنوير المجتمع المدني بشكل عام، وتقديم النصيحة لصناع القرار بشكل خاص)(10) ، وفي تعريف آخر تعّد مراكز التفكير بأنها (تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة بهدف إجراء بحوث مركزة ومكثفة وتقدم الحلول والمقترحات للمشاكل بصورة عامة وخاصة في المجالات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية والإستراتيجية أو ما يتعلق بالتسلح)(11).
إذن نلاحظ بأنه لا يوجد اختلاف أو تباين كبير بين كل هذه التعريفات حول ثينك تانكس، وإنما كلها تشترك على أنه الثينك تانكس عبارة عن منظمة أو مؤسسة أو معهد أو جماعة أو مركز مخصص للقيام بالأبحاث والدراسات في مجالات معينة أو حول العديد من القضايا المتنوعة سواء بهدف نشر الثقافة والمعرفة العامة أو خدمة احد الأطراف الرسمية (حكومية) أو غير الرسمية (المجتمع بصورة عامة)، وتقديم المقترحات والحلول لمشاكل معينة، بحيث أصبحت تلك المراكز واحداً من المرتكزات الأساسية لإنتاج المعرفة والتفكير العام في الدولة من خلال النشاطات العلمية التي تقوم بها من الأبحاث والمؤتمرات والإصدارات الدورية والكتب والمنشورات التي تنشرها إلى درجة أصبحت مهمة مراكز التفكير ليست فقط تقديم دراسات أكاديمية تحليلية نقدية لكنه يتناول مشكلة معينة بصورة مباشرة ويقدم للمختصين وصانعي القرار في الدولة أو في القطاع الخاص بدائل يمكن أن يختار أفضلها أو قد يقدم بديلاً واحداً لابد من الاعتماد عليه من قبل الجهة المعنية وهنا يبرز دور وأهمية هذه المراكز.
أنواع مراكز التفكير
تصنيف مراكز التفكير في الولايات المتحدة الأمريكية يعتمد على عدة معايير، فمثلاً من حيث استقلاليتها أو تبعيتها إلى الأجهزة الحكومية أو إلى احد المؤسسات التعليمية مثل الجامعات فضلاً عن (مراكز الأبحاث المستقلة ومراكز الأبحاث الرسمية التابعة للحكومة)، وأيضا من حيث تخصصها أو مجالات اهتمامها فهناك مراكز متخصصة في مجال معين بينما توجد مراكز أخرى ذات اهتمامات واختصاصات متنوعة ومتعددة، فعلى سبيل المثال تعتبر مؤسسة راند (Rand Corporation) متخصصة بالتعامل مع القضايا ذات الطبيعة العسكرية والمخابراتية والإستراتيجية غالباً ما تستعين بها المؤسسة العسكرية الأمريكية لمساعدة الجيش في كيفية مواجهة التحدي الذي تمثله قضايا الإرهاب والأمن القومي، وهي في الوقت ذاته مؤسسة مستقلة غير حكومية تأسست سنة 1948 بتمويل خاص كمؤسسة لا تهدف إلى الربح (12)، وأيضا تعتبر أمريكا انتربرايز(American Enterprise Tnstitute For Public Pdicy research)(13) المعروفة بميولها اليمينية ذات الاهتمامات بالسياسة الاقتصادية للحكومة وتقدم لها مقترحات اقتصادية، إذن فهناك مراكز تهتم بالسياسة الخارجية والعلاقات والشؤون الدولية ومراكز أخرى تهتم بالشؤون الداخلية والسياسات والموضوعات المحلية في المجتمع.
ونحاول أن نعرض أهم وابرز المراكز المعروفة على الصعيد العالمي في الولايات المتحدة المستقلة منها والحكومية.
" مراكز التفكير المستقلة
تجاوزت مراكز التفكير المستقلة في أمريكا عام 1988 ألف مركز نصفها تقريباً ارتبط بالجامعات والنصف الآخر كان يعمل كمؤسسات خاصة ومستقلة، حوالي 25% من هذه المراكز المستقلة أي حوالي100 مركز كان في ولاية واشنطن العاصمة(14).
وتعّد المراكز التالية أهم وابرز مراكز التفكير في أمريكا وفي العالم، خاصة في مجالات السياسة العامة للدولة وقضايا السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والمسائل الإستراتيجية.
1- بروكينجز انستتيوشن(Brokings Institution)(15) تأسست في عام 1927 ومتخصصة في الأبحاث و الدراسات الأكاديمية في مجال السياسة الدولية، وتنشر نتائج أبحاثها في كتب وتقارير ومجلات دورية. وهو مركز أبحاث ليبرالي ومصدراً لتزويد الحزب الديمقراطي الأمريكي بكثير من الآراء والأفكار والكفاءات البشرية من الكوادر، على سبيل المثال قام ذلك المعهد بتزويد إدارة كارتر(1977-1980) بعدد من المسؤولين والمتخصصين من بينهم تشارلز شولتر رئيس هيئة مستشاري الرئيس الاقتصاديين.
تصدر من هذا المعهد مجلة فصلية وحوالي(35) كتاب سنوي كما يشرف هذا المعهد على العديد من برامج الإذاعة ويقيم العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية(16).
2- أمريكان انتربرايز (American Enterprise Institute) تأسست في عام (1943) (17)، كمؤسسة أبحاث خاصة استهدفت الدفاع عن النظام الرأسمالي وعن سلوكية الشركات الكبيرة ومصالحها، ولكنها بعد ذلك تعددت وتنوعت وتوسعت مجالات اهتماماتها.
يقوم هذا المعهد بإصدار (4) مجلات فصلية وحوالي(130) دراسة وكتاب كل سنة كما يقوم هذا المعهد بكتابة مقالات صحفية بمعدل (3) مقالة لكل أسبوع حيث يتم نشرها في 101 جريدة يومية تحت أسماء شخصيات سياسية واقتصادية معروفة، والباحثون الذين يشتغلون في هذه المؤسسة نصفهم على الأقل هم سياسيون عملوا كموظفين في الإدارات الحكومية الأمريكية.
وبسبب نشأته عُدّ انتربرايز كمعهد للنظام الرأسمالي ومصالح الشركات الكبيرة، فقد عُدّ أحد القواعد الفكرية الرئيسة للحزب الجمهوري واهم المصادر التي تزوده بالعقول والأفكار، وعلى سبيل المثال انضم إلى إدارة الرئيس ريغان من أبناء وأعضاء هذا المعهد(32) شخصاً وذلك بعد نجاح الجمهوريين باستلام السلطة عام 1981، وكما حصل في عام 1977 بعد خروج الجمهوريين من الحكم نتيجة لفشل الرئيس فورد في الانتخابات أمام الرئيس كارتر انظم (20) شخصاً بمن فيهم الرئيس فورد نفسه إلى صفوف رواد المعهد(18).
3-مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، أسس عام (1962) كمؤسسة أبحاث خاصة تابعة لجامعة جورج تاون الأمريكية، ويقول مؤسسي المركز بأنه يهدف إلى تشجيع صانعي القرار السياسي والجمهور على التفكير بشكل استراتيجي فيما يتعلق بالقضايا الدولية(19)، وخلال مدة زمنية قصيرة استطاع هذا المعهد احتلال مكانة مرموقة في واشنطن كواحد من أهم مراكز التفكير اليمينية المعادية للسوفيت والمتعاطفة مع إسرائيل، وفي سنة 1981 (قدم هذا المعهد استشارات أمنية وسياسية للرئيس ريغان، وانضم من أبناء هذا المركز (18) شخصاً لإدارة الرئيس ريغان ومن بينهم رئيس المركز في وقته ديفيد ابشاير أصبح سفير أمريكا لدى حلف الناتو.
4- مؤسسة التراث(Heritage Foundction) تأسست في عام (1972) كمؤسسة أبحاث يمينية محافظة(20) استهدفت أساسا التأثير في توجهات الرأي العام الأمريكي وخلق ظروف موضوعية تسمح للفكر اليميني المحافظ بالسيطرة على السياسة العامة للدولة والعودة لاستلام الحكم، وساهم في نجاح ريغان للوصول إلى الحكم، كما قال احد أعضاء المؤسسة بأن الأفكار تسبق في العادة السياسيين، وبعد انتخاب ريغان انضم إلى إدارته من أعضاء المؤسسة(36) شخصاً عينوا جميعاً في مراكز حساسة وذات علاقة مباشرة بصنع السياسة العامة للدولة. وديفيد فولس الذي كان رئيس المؤسسة فقد تم تعيينه من قبل ريغان عام 1982 رئيساً للجنة الاستشارية التي أوكلت إليها مهام تقييم الدبلوماسية الأمريكية. تعمل هذه المؤسسة على توجيه الرأي العام الأمريكي باتجاه يميني محافظ، ونشر هذا التوجه على المستوى الخارجي في أوربا. كما يقول جيفري جنز مستشار المؤسسة للشؤون الدولية (بأن مؤسسة التراث تقود جهود عالمية لتطوير برنامج عمل دولي مشترك لليمين من خلال علاقات تعاون بين (200) منظمة ومجموعه أجنبية بما في ذلك أحزاب سياسية ومراكز تفكير وأساتذة الجامعات ومؤسسات إعلامية).
وفي عام (1983) تم إنشاء (الاتحاد الديمقراطي العالمي) تحت قيادة المؤسسة (21) ويظم ذلك الاتحاد رؤساء أحزاب سياسية محافظة من (30) دولة يهدف إلى رسم استراتيجيات عمل خاصة في مجال السياسة الخارجية، هذه المؤسسة أيضا كالمؤسسات الأخرى لها منشورات وإصدارات من الكتب والتقارير والمجلات.
5- راند كوربوريشن (Rand corporation) : هي اكبر مؤسسات البحث الخاصة في أمريكا وفي العالم أيضا تنحصر اهتماماتها في قضايا الأمن والدفاع وعلاقة تلك القضايا بشكل عام بإستراتيجية أمريكا الأمنية والعسكرية. وتعد هذه المؤسسة العقل المفكر لوزارة الدفاع الأمريكية، في مجال إعداد الدراسات والأبحاث الخاصة بالأسلحة الأمريكية وأنظمة الدفاع المختلفة، والدراسات تجري بموجب عقود بين وزارة الدفاع وهذه المؤسسة وتبقى بعض من أبحاثها ودراساتها لا تنشر، لذلك ينحصر تأثيرها ضمن دائرة صغيرة من صانعي القرار السياسي خاصة العسكري والأمني في الولايات المتحدة الأمريكية(22) .
" مراكز التفكير الرسمية (الحكومية)
حصلت الحكومة على فائدة كبيرة عند تعاملها مع الخبرات الموجودة خارج الأطر الرسمية وبذلك شجعت هذه المراكز ووسعت نشاطاتها في كافة المجالات التي تقع ضمن اهتمامات الدولة، وعلاقة الحكومة مع هذه المراكز ذات طابع تعاقدي، أي يتعاقد احد الأجهزة الحكومية مع احد هذه المراكز لقيام ببحث في مجال معين مقابل تمويل هذا البحث مادياً وتقديم كافة التسهيلات اللازمة للباحثين، وهذا ما أدى إلى زيادة الإنفاق حكومي على الأبحاث فعلى سبيل المثال ازداد الإنفاق الحكومي ففي عام 1965 من (225) مليون دولار إلى (2) مليار دولار في عام 1975 (23) إن إدراك صناع السياسة الأمريكية قدر المنفعة والاستفادة من هذه المراكز ونتائجه الايجابية في التعامل معها، دفع الحكومة إلى تأسيس مراكز تابعة وخاصة للحكومة. وهنا نحاول أن نعرض بعض أهم وابرز المراكز التابعة للحكومة الأمريكية (24) :
1. مكتب المحاسبة العامة (General Accounting Office)، جهاز تحقيق تابع للكونجرس الأمريكي، وتبلغ ميزانيته إلى ما يقارب(300) مليون دولار، كما يبلغ عدد موظفيه (500) موظف، ومهمته القيام بالدراسات فيما يتعلق بالتجارة الخارجية والطاقة والتمويل ومعونات التنمية للدول الأجنبية.
2. مركز الكونجرس للخدمات البحثية(Congressional Research Service)، هذا ذو اهتمامات متعددة وخاصة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية وتقدم هذه الدراسات إلى الكونجرس الأمريكي.
3. مكتب الكونجرس للميزانية (Congressional Budget Office) متخصص بشؤون الميزانية وتقييم أبعاد أوجه الإنفاق المختلفة وتحديد الآثار التي تترتب على خفض أو زيادة ميزانية بعض البرامج.
4. مكتب تقييم التكنولوجيا(The Office of Technology Assessment). يساعد الكونجرس على فهم تعقيدات التكنولوجيا الحديثة وإصدار التشريعات بشأنها.
والى جانب تلك المراكز قامت الحكومة الأمريكية في الستينيات والسبعينيات بإنشاء معاهد أبحاث وأقسام للدراسات المتخصصة في كل الوزارات الرئيسة، ومن ضمنها معهد الخدمة الدولية التابع لوزارة الخارجية واستحداث دوائر خاصة في وزارة الخارجية لتمويل نشاطات بعض المؤسسات التي تقوم بترويج ونشر الثقافة الديمقراطية ومفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان في العالم وفق معايير ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
على الرغم من تنوع وتعدد الخدمات التي تقدمها مراكز التفكير حسب تنوع وتخصص هذه المراكز، إلا انه نستطيع أن نجمع الخدمات في النقاط التالية ونلخصها كما يلي(25):
1. تقييم السياسات السابقة، ووضعها في إطارها التاريخي والسياسي السليم.
2. تحديد الآثار بعيدة المدى للسياسات المتبعة تجاه الأصدقاء والأعداء على حد سواء، فيما يتعلق بمصالح أمريكا ومكانتها الدولية خاصةً.
3. طرح الأفكار والآراء الجديدة، واقتراح السياسات البديلة، خلال المدة التي تسبق مباشرة انتقال السلطة من أدارة إلى أخرى خاصة ، أو بعد حدوث حوادث كبرى أو بروز ظواهر جديدة أو مستجدات( مثل 11 سبتمبر، وقضايا الإرهاب)، وذلك كي تكون تلك الأفكار والمقترحات تحت تصرف صانعي القرار السياسي الجدد، ومن الأمثلة على ذلك قيام كل من معهد بروكينجز ومعهد دراسات الشرق الأوسط بنشر دراستين عن أزمة الشرق الأوسط خلال السنة الأخيرة لحكم رونالد ريغان الثانية تحت عنوان (نحو سلام عربي- إسرائيلي) والثانية كانت بعنوان (مصالح الغرب وخيارات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط) فبراير /1988 (26)، وان ستة من الأشخاص الذين شاركوا في هذه الدراسات دخلوا الحكومة في عهد الرئيس بوش الأب في مراكز حساسة، أهمهم كان( لورانس ابجير نائب وزير الخارجية، و دينس روس رئيس قسم التخطيط السياسي في الخارجية وريتشارد هاس مدير قسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي).
4. تزويد الإدارات المتتابعة والأجهزة المختلفة بالخبراء.
5. تقديم المشورة والنصح لأجهزة مؤسسات الدولة أحيانا بناءً على طلب تلك الأجهزة.
6. تدريب جيل جديد من القيادات الفكرية والسياسية ليكون جاهزاً لتسنم الإدارات السياسية العامة للدولة.
7. التأثير في الرأي العام وفي صانع السياسة والقرار السياسي من خلال عقد الندوات والمؤتمرات ونشر الكتب والدراسات، و إصدار النشرات والمجلات ونشر التقارير وإعداد البرامج الإذاعية والتلفزيونية وتقديم التحليلات، لتبرير سياسات معينة أو نقدها أو لترويج أفكار جديدة وتعميمها، وبذلك يعززون المكانة الأدبية لمراكز التفكير والمفكرين.
8. إمداد وسائل الإعلام وبرامجها بالخبراء والمحللين القادرين على تحليل الأحداث والتنبوء بها، خاصة في أوقات الأزمات .
9. القيام أحيانا بإجراء الاتصالات السرية مع جهات أجنبية لحساب الحكومة الأمريكية ومحاولة جس النبض قبل طرح بعض المبادرات السياسية.
10. بلورة مواقف ومصالح الأمة المشتركة وتجسيد ذاكرتها الجماعية وتنمية قدرتها التراكمية في مجالات الفكر والسياسة والإعلام.
هذه الخدمات وغيرها تقوم بها مراكز التفكير الخاصة والمهتمة بقضايا السياسة بصورة عامة, ولكن هناك مراكز أخرى ذات اختصاصات مختلفة (كالصحة، والنشاطات الاجتماعية، والتعليم، ... الخ )، لم نهتم بها في هذه الورقة لضيق مجال البحث فيه .
طبيعة تأثير مراكز التفكير على صنع السياسة (آلية التأثير)
ليس من السهل تحديد طبيعة التأثير والدور الذي تمارسه مراكز التفكير على عملية صنع السياسة واتخاذ القرار في الولايات المتحدة كما هو الحال بالنسبة للعوامل والعناصر المؤثرة في هذه العملية وذلك لغموض وعدم وضوح هذا التأثير، أو قد يكون السبب هو الطبيعة الغامضة لعملية صنع السياسة في الولايات المتحدة .
نحن لا ندعي أننا نستطيع أن نتلمس بصورة واضحة دور وتأثير مراكز التفكير في صنع السياسة، لان هذا الأمر يحتاج إلى إمكانيات علمية ومعرفية كبيرة وأيضا إلى وقت ووسائل متنوعة من المصادر والوثائق قد لا تستطيع الحصول عليها بسهولة، هذا فضلاً عن إننا لم نحصل أو لم نجد بحثاً يتناول هذا الموضوع بشكل علمي ودقيق، كل ما وجدناه هو الإشارة بصورة سطحية إلى دور وتأثير هذه المراكز في عمليات صنع السياسة واتخاذ القرارات مع عدم ذكر التفاصيل الدقيقة واللازمة لذلك الدور أو حالات ونماذج من التأثير، هذا كله لا يعني عدم وجود التأثير لهذه المراكز، الإقرار بوجود التأثير يعتمد بمدى إيماننا بتأثير المعرفة والثقافة السياسية على صنع السياسة واتخاذ القرار.
وبذلك نستطيع أن نقول بأن هذه المراكز أهم مصدر من مصادر المعلومات والتحليلات والفكر والمعرفة من خلال الأبحاث والدراسات في الولايات المتحدة، تؤثر على المجتمع والدولة بشكل عام وبصور مختلفة مباشرة وغير مباشرة. وهنا قد نحتاج إلى بحوث حول الثقافة والسياسة ودور المثقف في السلطة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، (اتجهت الدولة الأمريكية منذ بداية تكوينها إلى الاستعانة بالخبرات البشرية المتواجدة خارج اطر الدولة الرسمية، إذ إن قيام القطاع الخاص بتحمل مسؤوليات التنمية والتصنيع والبحث العلمي بشكل رئيس يستحوذ على معظم الخبرات والمعارف المستجدة في المجتمع) (27).
وهذا يعني بان مؤسسات الدولة الرسمية تعتمد على المجتمع بالدرجة الأساسية في كافة المجالات، إذ إن المؤسسات الخاصة قامت بتقديم خدمات كثيرة للمؤسسات العامة من خلال رفع مستوى الكفاءات وتأهيل كوادر متخصصة لتدخل في العمل الحكومي ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما أدى اتساع مجالات العمل وتعدد البرامج الحكومية وتنوعها إلى دفع الدولة إلى الاستعانة بالمؤسسات الخاصة لتقييم البرامج وتحليل السياسات وتقديم المقترحات المناسبة(28).
مع الانتشار الواسع لوسائل الاتصال و الإعلام المتنوعة والتعبير عن الرأي كل ذلك أدى إلى سهولة انتشار وتبادل الآراء والأفكار والمعلومات إذ أصبحت وسائل الإعلام أدوات إيصال الفكر والآراء للمستفيدين من السياسيين والمختصين الآخرين وبالتالي أصبحت معاهد البحوث ومراكز التفكير (مراكز إنتاج هامة لصناعة ونشر الجديد من الأفكار ومصادر رئيسة لتزويد وسائل الإعلام بالحديث من الآراء والإحصاءات والتحليلات وبذلك أصبح التفاعل المتواصل بين مراكز التفكير والبحوث ووسائل الإعلام أهم أدوات تشكيل الرأي العام وأكثر الأطراف قدرة على مراقبة أعمال الدولة بوجه عام ومصدر معلومات وخبرة لم يعد بالإمكان الاستغناء عنها)(29)
تقوم مراكز البحوث والتفكير في العادة بالمشاركة في صنع السياسة العامة للدولة من خلال (إرساء الأسس الفكرية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية للبرامج والسياسات الرئيسية)(30)، قد لا تمثل مراكز التفكير رأي الأغلبية، ولكنها تعمل بكل جهدها وتحاول باستمرار (إعادة تشكيل رأي الأغلبية بما يتفق مع وجهة نظرها وفهمها الذاتي لمصالح أمريكا الوطنية، أو ما يعد (مصالح وطنية)(31).
وبصورة عامة يعد إنشاء مراكز التفكير والأبحاث محاولة من قبل قطاعات الشعب النشطة والواعية والمثقفة(النخبة) بضرورة وأهمية المشاركة في صنع السياسة العامة للدولة بعيدا عن اطر حكومية، وتعد مراكز التفكير من جهة أخرى وسيلة لقيام القوى المسيطرة على المجتمع بإيصال خبرتها ووجهات نظرها وحكمتها لصانعي القرار السياسي من ناحية وإلباسها فلسفتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لباساً علمياً وإعطاءها الشرعية والمصداقية من ناحية أخرى(32). وأيضا تعد مراكز التفكير بوجه عام بمثابة مخازن لتزويد الحكومة بالآراء الجديدة والتحليلات الأكاديمية والكفاءات المؤهلة لتسلم مهام الإدارة في الحكومة(33).
من الجدير بالذكر إن الكثير من رواد قطاع الثينك تانكس على علاقة وطيدة بالسياسيين الأمريكيين أو بالأحرى بالسياسة بصورة عامة في الولايات المتحدة، أما هم أنفسهم صناع القرار والسياسة السابقين أو يصبحون صناع السياسة في المستقبل. لأنه تحتم تقاليد السياسة الأمريكية قيام كل رئيس جديد بتعيين حوالي(4000) شخص في مناصب سياسية وإدارية وقضائية هامة، من بينهم (600) شخص كوزراء ومستشارين ونواب الوزراء ومساعدي الوزراء وموظفي البيت الأبيض وحوالي (1000) شخص كسفراء وقضاة وحوالي(2200) شخص كمستشارين وأعضاء في اللجان المختلفة التي يتم تشكيلها لمتابعة قضايا مختلفة وهامة(34)، وفي العادة تأتي غالبية هؤلاء من مراكز التفكير والأبحاث ومكاتب المحاماة الاستشارية الخاصة المتواجدة في العاصمة واشنطن، وباحتلال الطاقم الجديد للمناصب الحكومية الهامة تقوم غالبية أعضاء الطاقم القديم بشغل معظم الوظائف التي تصبح شاغرة في تلك المراكز والمكاتب وهذه العملية(التبادل للمراكز والأدوار) تستمر، في هذه الورقة اشرنا إلى بعض النماذج من هذه الظاهرة ونورد بعض النماذج الأخرى، (ادوارد ووكر) الرئيس الحالي لمعهد الشرق الأوسط هو مساعد وزير خارجية وسفير أمريكي سابق، (مارتن انديك) مدير مركز الحسابات لدراسات الشرق الأوسط بمعهد بروكينز عمل مساعداً لوزير الخارجية وسفيراً سابقاً في إسرائيل. (كينت بوليك) مدير البحوث بنفس المركز فهو مدير سابق لوحدة شؤون الخليج بمجلس الأمن القومي و(ريتشارد هاس) الذي تراس سابقاً قسم تخطيط السياسات بالخارجية الأمريكية هو الرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية و(دينس روس) احد المستشارين الأساسيين لإدارة الرئيس بل كلينتون يعمل الآن كمدير لمعهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، و( مادلين اولبرايت) وزيرة الخارجية السابقة في عهد كلينتون تعمل الآن في(NDI) الممولة من وزارة الخارجية(35)، وبذلك ندرك بوضوح مدى التقارب بين الباحثين والدارسين في هذه المراكز وعمليات صناعة السياسة واتخاذ القرارات الأمريكية وصناعتها.
الخاتمة
نستنتج من كل ما تقدم بان المعرفة تؤثر على السلطة والسلطة توظف المعرفة لتحقيق السيطرة وضمان المصالح. الإيمان بان المعرفة هي قوة، قاد إلى الاهتمام بإقامة مراكز الأبحاث القادرة على إنتاج المعرفة، وبالتالي أصبح من الطبيعي قيام تلك المراكز لغرض الكسب والحصول على القوة. ونعتقد بان القوة تشارك في صنع السياسة.
صنع السياسة في الولايات المتحدة عملية معقدة تساهم فيها عناصر وعوامل مختلفة تتداخل وتتشابك تأثيرات هذه العوامل والعناصر مع بعضها البعض، لأن هذه العملية (صنع السياسة) تمر بمراحل وإجراءات معقدة وهذا هو شان صنع السياسة في النظم الديمقراطية الليبرالية وخاصة في مثل دولة بحجم الولايات المتحدة. يوجد عدداً كبيراً من مراكز التفكير في الولايات المتحدة وهي مصادر ومنابع لإنتاج المعرفة والثقافة والفكر تؤثر على الرأي العام وصناع السياسة. دور وتأثير هذه المراكز على صنع السياسة ليس واضح للعيان وإنما يحتاج إلى البحث والتقصي عنها من خلال الكشف عن قضايا ومسائل أخرى مرتبطة بهذا الموضوع مثل البحث عن دور وتأثير الثقافة على صنع السياسة ودور المثقف وعلاقة المعرفة بالسلطة والسياسة بصورة عامة.
نعتقد بان دور وتأثير هذه المراكز في أمريكا بصورة خاصة ودور وتأثير الأفكار والنظريات التي ينتجها مثقفو ومفكرو الولايات المتحدة بصورة عامة لا تقتصر على المجتمع والدولة في الولايات المتحدة وإنما يمتد ليشمل كل العالم في الوقت الراهن، أما لأن هذه المعرفة المنتجة لأمريكا تدعمها قوة الدولة الأمريكية، والمثال على ذلك أهم النظريات السياسية في نهايات القرن العشرين (نهاية التاريخ والإنسان الأخير لفوكوياما وصدام الحضارات لصاموئيل هنتنجتون) وأصدائها العلمية وتأثيراتها، كما يقول هنتنجتون في المقدمة لكتابه (صدام الحضارات).
( في صيف عام 1993 نشرت فصلية (Foreign Affairs) مقالاً بعنوان (صدام الحضارات)؟. أثار جدلاً استمر ثلاث سنوات، وكما يقول محررو المجلة أكثر من إثارة أي مقال نشروه منذ الأربعينيات.والمؤكد انه اثار بالفعل جدلاً على مدى ثلاث سنوات أكثر من أي شيء آخر كتبته) (36).
والجدل لاشك كان على المستوى العالمي، ويقول هنتنجتون في هدف كتابه(لا يهدف هذا الكتاب لان يكون عملاً في علم الاجتماع وإنما لان يكون تفسيراً لتطور السياسة الكونية بعد الحرب الباردة، كما يطمح إلى أن يقدم إطار عمل أو نموذجاً لرؤية عالمية _ السياسة العالمية، يكون ذا قيمة بالنسبة للدارسين ومفيداً لصانعي السياسة)(37).
ولا نحتاج إلى الحديث عن آثار هذه النظرية على صناع السياسة في الولايات المتحدة، والأصداء العالمية لهذه النظرية.
الهوامش
1 . د.عامر حسن فياض، د. علي عباس مراد، مدخل إلى الفكر السياسي القديم والوسيط، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا، 2004، ص118.
2 . دور مراكز التفكير ومراكز الأبحاث(think tanks) في صنع السياسة الأمريكية، عن شبكة النبأ المعلوماتية، 15 حزيران 2005، http:// annabaa.org/nbnews/49/154.htm
3. المصدر نفسه.
4. الموسوعة المجانية from wikipedia, the free encyclopedia. http://en.Wikipedia.org/wiki/ think tanks
5. المصدر نفسه .
6. دور مراكز التفكير ومراكز الأبحاث(think tanks) في صنع السياسة الأمريكية، المصدر السابق.
7. المصدر نفسه .
8. http://en. Wikipedia.org/wikilist-of-economics
9. دور مراكز التفكير ومراكز الأبحاث(think tanks) في صنع السياسة الأمريكية، المصدر السابق.
10. http://www.npr.org/yourtwn/ombudsman/2004/040107.htm
11. www .rand.org/about/
12. http:// annabaa.org/nbnews
13. د. محمد عبد العزيز ربيع، صنع السياسة الأمريكية والعرب، منشورات دار الكرمل، الأردن، 1999، ص117.
14. المصدر نفسه، ص117.
15. المصدر نفسه، ص117.
16. http://en. Wikipedia.org/wiki/amrican-enterprise- enstitute
17. د. محمد عبد العزيز ربيع، صنع السياسة الأمريكية والعرب،المصدر السابق، ص119.
18. المصدر نفسه، ص119.
19. http://www.heritage.org/about .
20. د. محمد عبد العزيز ربيع، صنع السياسة الأمريكية والعرب،المصدر السابق، ص120.
21. www .rand.org/about/
22 . د. محمد عبد العزيز ربيع، صنع السياسة الأمريكية والعرب،المصدر السابق، ص121.
23. المصدر نفسه، ص126.
24. المصدر نفسه، ص127-218.
25. المصدر نفسه، ص133.
26. المصدر نفسه، ص133.
27. المصدر نفسه، ص115.
28. المصدر نفسه، ص115.
29. المصدر نفسه، ص116.
30. المصدر نفسه، ص51-117.
31. المصدر نفسه، ص52-117.
32. المصدر نفسه، ص53.
33. المصدر نفسه، ص129.
34. دور مراكز التفكير ومراكز الأبحاث(think tanks) في صنع السياسة الأمريكية، المصدر السابق.
35. صاموئيل هنتونغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة د. مالك عبيد أبو شهوة ود. محمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1999، ص63.
36. المصدر نفسه، ص64.
37. المصدر نفسه، ص64.