احتل العرف الدستوري قصب السبق بوصفه مصدرا للقواعد الدستورية على حركة تدوين الدساتير، وعلى الرغم مما يحققه العرف الدستوري من ميزة توافقه مع الواقع السياسي وما سيتبع ذلك من تطبيق الدستور بإنتظام واطراد، إلا إن الدعوة إلى تدوين الدساتير حظيت بتأييد وانتشار، وكان من ابرز أسباب ظهور الدساتير المكتوبة التي أشار إليها الفلاسفة هو سهولة الإلمام بها سيما إن الدستور وسيلة للتربية السياسية ونشر الوعي السياسي والدستوري وتعميقه، لذا بدأت الإشارة إلى ترابط انتشار الأفكار الديمقراطية وحركة التدوين على أساس إن الدستور المكتوب عمل الشعب في الديمقراطية المباشرة وعمل ممثليه في الديمقراطية المباشرة وعمل ممثليه في الديمقراطية النيابية.
وهكذا أصبحت صياغة النصوص الدستورية مصدراً انسيابيا للقواعد الدستورية في حين احتل العرف مصدرا ثانياً لها، بيد أن التساؤل مطروحا عن أسباب تجافي الدستور المكتوب مع الواقع السياسي؟ يبدو لنا إن هناك عاملان رئيسان يجعلان من الصياغة الدستورية بعيدة عن الواقع السياسي هما: العامل السياسي والعامل الفني..
الجزء الأول:
أما عن العامل السياسي فهو مجموعة من التيارات أو الظروف العابرة التي تدفع واضعوا الدستور نحو التخلص من الماضي معين أو بيئة معينة حتى ينحصر فكرهم بوضع نصوص يتوقعون أنها تكفل عدم العودة إلى الماضي، مما يجعل الدستور غير مواكب للواقع وغير متطلع إلى المستقبل بل انه مجرد توجه إلى بيئة منقضية .
فالدساتير التي سادت بعد الحرب العالمية الأولى خضع واضعوها إلى فكرة تقوية السلطة التشريعية على حساب إضعاف السلطة التنفيذية على أساس إن قوة السلطة التنفيذية كانت من أهم أسباب اندلاع الحرب، كدستور فايمر الألماني ودستور ايطاليا..
إلا إن هذه الدساتير كانت عاملا رئيسا وراء انتشار الدكتاتوريات في العالم كموسلين وهتلر، وكانت نصوصا بلا حياة، في حين كان يجب أن تهتم هذه الدساتير بإنشاء سلطات متوازنة قادرة على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بدلا من التعليق بأهداب الماضي، الأمر الذي احدث فجوة بين الواقع الدستوري والواقع السياسي.
إن الأمر نفسه يبدو ماثلا في الدساتير العربية كالدستور المصري 1923 والقانون الأساسي العراقي لعام 1925 حينما اعتمد النظام البرلماني السائد لدى الدول الغربية سيما المحتلة فيها يهدف بقاء السطوة الغربية على إرادة الدول التي نالت استقلالها،وهكذا ما لبثت هذه الدساتير إن تواجه مصاعب سياسية وفنية وعملية حالت بينها وبين تطبيقها بشكل مطرد، حتى بدأ تطبيقها شكلا فارغا من أي مضمون كان ورائه سيطرة الحكام على مجريات الواقع السياسي.
عليه فان من الضروريان تكون صياغة الدستور العراقي القادم بعيدا عن التكبل بظروف الماضي ورغبة التخلص من مساوئه فقط ،بل يجب إن يكون دستورا مواكبا للواقع متطلعا إلى المستقبل ومهتما بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي حتى تتضاءل الهوة بين الواقع الدستوري والواقع السياسي.
الجزء الثاني:
بعد إيضاح دور العامل السياسي في إيجاد الهوة بين الواقع الدستوري والواقع السياسي، يأتي الآن إيضاح دور العامل الفني في أحداث تلك الهوة، ونعني بالعامل الفني هو الصياغة التي يظهر فيها الدستور والتي تعمل في ثناياها استمرار تطبيق النصوص الدستورية وملائمتها للبيئة التي يطبق فيها الدستور، كما يمكن إن تؤدي إلى جعل تلك النصوص في واد وبيئة تطبيقها في واد آخر سواء طال الوقت بها أم قصر .
فما هي الصياغة الدستورية؟ وما هي شرائطها؟ وما هو الحل إذا أدت الصياغة إلى قيام الفجوة بين الوثيقة الدستورية والواقع السياسي؟
يمكن تعريف الصياغة بأنها مجموعة من الأدوات والوسائل الفنية اللازمة لإخراج الأفكار والقيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية من الحيز النظري إلى الحيز العملي أو تحويل الثروة الفكرية إلى نصوص متسلسلة صالحة للتطبيق العملي، لذا يشترط في الصياغة مجموعة من الشرائط من أهمها الوضوح والدقة والواقعية، ويعني الوضوح إيصال الأفكار التي أرادها المشرع الدستوري إلى فهم الجمهور، أي تكون النصوص بمنأى عن الغموض والتعقيد الذي يجعل من الإفراد بعيدين عن إدراك ما عناه المشرع، حتى يظهر التحافي بين النصوص إلى حد إفهام الجميع؟
إن من الخطأ الولوج في التبسيط إلى الحد الذي تفقد فيه النصوص الدستورية قيمتها وهيبتها، لذا فأن إيصال الأفكار إلى فهم الأغلبية يكفي، بيد إن على المشرع الدستوري والمؤسسات الدستورية إن توسع فهم الأغلبية نطاق هذه الأغلبية يوما بعد آخر من خلال نشر الوعي الدستوري بواسطة نشر المناقشات التي دارت قبل التصديق على الدستور الدستورية في الدولة مهمة عقد الندوات الموسعة وزيارة شرائح المشاركين فيها وتكريس وسائل الإعلام كافة لنشر الأفكار الدستورية وتعميقها لدى الأفراد، ثم يأتي بعد ذلك شرط الدقة في سيل النصوص، والدقة تمثل مرحلة من مراحل الصياغة الدستورية يصل إليها المشرع الدستوري عندما يجعل من النصوص معبرا حقيقيا لما أراده بالفعل، أي تأتي الصياغة انعكاسا حقيقيا ومعبرا صادقا لما أراد إيصاله إلى الأفراد، ومن أهم مستلزمات الدقة هي إيراد النصوص بعمومية وتجريد وعدم الدخول في الجزيئات والتفصيلات غير المهمة التي تبحر بالوثيقة الدستورية صوب التجافي عن الواقع أكثر مما تكون وسيلة فعالة لانطباقها معه خصوصا إن المسجلات والتطورات سرعان ما تتعارض مع تلك التفصيلات، ولكن هل للدستور حجم محدد وهل لنصوصه عدد محدد؟
تتفاوت الدساتير في حجم موادها، فمنها ما يتسع حد الإفراط ومنها ما يختزل حداً يجعل من الدستور غير المطابق للواقع، لذا يجب أن يتناول الدستور الخطوط والمبادئ الرئيسة في المجتمع تاركا التفاصيل والجزيئات للقوانين والأنظمة والتعليمات، ثم يأتي بعد ذلك شرط الواقعية، ومفاده إن تنبع الأحكام والقيم من البيئة التي سوف يطبق فيها الدستور، فلا تكون هناك مفاهيم غريبة ومتعارضة مع بيئة التطبيق والعقيدة والديانة والعادات والتقاليد الموجودة فيها، إن هذا لا يعني عدم استقاء الأحكام والنصوص التي سبق وان صقلت في دساتير مقارنة وكان من شأنها دفع عجلة التطور والازدهار.