الربيع العربي وخيار الدول الفاشلة

مع بداية ما عرف بثورات الربيع العربي عمت الحماسة والتفاعل لدى الكثير من الشعوب العربية معتقدة زوال أنظمة الحكم المستبدة التي جثمت لعقود من الزمان على العباد والبلاد وأخرت المواطن العربي في كثير من الجوانب ، لكن الذي الحدث هو تحول هذا الربيع إلى مأساة مروعة اكتنفتها الحروب الداخلية الطاحنة بين مكونات هذه البلدان، وأضحت صورتها اليوم تتحدث عن فشل عربي وليس ربيع عربي لأن الذي حدث ترسب في النهاية إلى بلدان ما يعرف بـ (الفشل العربي) كما هو الحال في ليبيا وسوريا ومصر واليمن ، الكثير يجد أن هنالك عوامل عدة قوضت مسار هذا الربيع لتجعل منه خريف الفشل الحقيقي لشعوب هذه الدول ومنها :- 1- الفوضى والارتباك السياسي : شكل عامل السرعة والمفاجئة في تغيير أنظمة الحكم في هذه البلدان ضاغطا سياسيا نتج عنه الفوضى والتناحر على إدارتها، هذا ما افرزه واقع ومجريات الأحداث ، وفي الوقت الذي كانت شعوب هذه الدول متهيئة نوعا ما للثورة للتخلص من أنظمتها المستبدة والفاسدة إلا أنها افتقرت ولازالت تفتقر إلى مرحلة ما بعد الثورة ، وهي إدارة واستثمار نتائج هذه الثورات والتغيرات ، يرجع في كثير من ذلك إلى طبيعة الأنظمة السابقة فيها ، حيث خلقت وخلفت تنشئة سياسية هرمية عمودية إي الكل مرتبط برأس السلطة ، وبالتالي إذا فقد الرأس فقدت الدولة بكل أركانها ومقوماتها، والأمر كذلك ينسحب على النخب القيادية والإدارية أيضا حيث أنشئت وتدربت على ثقافة القيادة والإدارة في ضل نظام هرمي مرتبط أيضا برأس السلطة لا بمؤسسات ثابتة ومستقرة، وهنا فقدت اتزانها وارتبكت في تعاملها مع متطلبات المرحلة التي تلت إسقاط أنظمتها حينما انيطت بها القيادة والإدارة، وبالتالي حدث مالا يتمناه الكثير وهو شعوب تحررت من سطوة الحكام المستبدين ووقعت في فوضى غياب النخب والقيادات التي تنقلها إلى دولة المواطنة والتعددية . 2- صعود ما يعرف بالإسلام السياسي : وفرت بيئة بلدان الربيع العربي بعد ثوراتها صعود تيارات وقوى حزبية وغير حزبية ذات صبغة إسلامية إلى سدة الحكم مستغلة غياب الرؤية الجماهيرية والشعبية لطريقة وأسلوب إدارة الحكم وبالتالي جسدت فلسفتها عندما مارستها للحكم ، مستفيدة من ركائز الممارسة الديمقراطية ، فأدخلت نفسها في دوامة التناقض بين التنظير الفكري للسلطة والحكم، و الممارسة العملية له ، وأدى ذلك إلى خلل في مجريات ثورات هذه البلدان، واستفاد التيار الإسلامي من نقطتين في تصديه لمشهد الممارسة السياسية بعد الثورات العربية هما : أ‌- توظيفه لموروثه المتمثل في اضطهاد الأنظمة السابقة له وإبعاده عن أي ممارسات سياسية فعالة ، وحالة التضييق والملاحقة المتكررة لرموزه ، فكسب بذلك التأييد والحماسة الشعبية . ب‌- الدعم الغربي له والمتمثل في تبديد الكثير من العقبات التي تقف في طريقة وصوله للسلطة والحكم،وخصوصا في مصر حيث دعم الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية صعود الإخوان المسلمين ، وكان هذا الموقف الأمريكي المعلن يستهدف نقطتين : الأولى/ إفشال ما يعرف بالإسلام السياسي وإبعاد شعوب الربيع العربي عن فكرة الحكم الإسلامي الناضج وذلك بتقديم وتسويق جماعات ذات صبغة إسلامية بعيدة عن تعاليم وجوهر الإسلام في الحكم والإدارة . الثانية / خلق الفوضى من خلال هذا التيار، فالكثير من هذه الجماعات ذات توجهات إسلامية متشددة وبالتالي إبعادها عن الحكم بطريقة ديمقراطية أو غير ديمقراطية في بلد معين تكون نتيجته لجوءها إلى استعمال أساليب العنف ،وهذا ما تؤكده أدبيات هذه التيارات وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية والجهادية الأخرى ، فقد سبق أن فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بانتخابات تشريعية عام 1991 إلا أنها أبعدت حينها وألغيت الانتخابات مما أدى الى استخدام العنف كرد فعل على استبعادها ، وهذا ما يحدث اليوم في بلدان الربيع العربي وخصوصا مصر التي اتخذ الإخوان المسلمون طريق العنف كرد فعل على عزل الجيش الرئيس محمد مرسي . 3- تخلف البيئة الاجتماعية : الربيع العربي حدث لغرض التحرر من الأنظمة الشمولية إلى الأنظمة التعددية وفق الأسلوب والطريقة الديمقراطية هذه كانت شعارات ميادين الثورات في كل بلدان الربيع العربي ، والذي حدث هو أن هذه الملايين في الميادين بعد تحررها من أنظمتها السابقة ، لم تنتبه إلى ذاتها وهو التحرر من عصبياتها القبلية العشائرية والقومية والطائفية ، عند ممارستها للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع كما حدث في تونس وليبيا ومصر، فوقع ما لم يقع في زمن أنظمتها الشمولية السابقة وهو التقسيم والانحلال في نسيجها الاجتماعي ، لذلك تتعالى الصيحات والنداءات اليوم من داخل هذه الشعوب في العودة إلى الأنظمة الشمولية السابقة للحفاظ على نسيجها الداخلي . ولابد من تحليل دقيق لواقع دول ما يعرف بالربيع العربي ، فبعد زوال الأنظمة السياسية الاستبدادية فيها، انكشف عمق التردي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاجتماعية الذي تركته تلك الأنظمة ، واتضح أن طريق الديمقراطية والتحرر يتطلب الكثير من التحرر وربما ذلك يستهلك الكثير من السنين والتضحيات للوصول إليه، وهو أمر لابد منه ، فهي ليست مجرد أنظمة سياسية تغيرت، بل ثقافات وأساليب في الحكم والإدارة السياسية والاقتصادية وانساق وأعراف اجتماعية أقدمت الأنظمة السياسية على صبها بقوالب تلبي وتساير رغبتها وأهدافها ولعقود من الزمن . • أما الدول الفاشلة التي أفرزتها أحداث هذا الربيع بالرغم من الغموض الذي يسود هذا المصطلح إلا انها ببساطة يمكن الاستدلال عليها من خلال عدد من المعاير التي تجسدت في عدد من الدول منها :- 1- فقدان السلطة المركزية للدولة في السيطرة الفعلية على أجزاء واسعة من أراضيها. 2- الصراعات الداخلية بين السلطة المركزية والأقليات العرقية أو الدينية من جهة ، ومن جهة أخرى الصراع بين هذه الأقليات وانحسار التوافق في الوصول إلى مشتركات لبناء وتقوية النظام السياسي والدولة . 3- الأبعاد التقليدية للصراعات الدائرة في هذه الدول سواء كانت دينية ام قبلية ام طائفية ام عرقية . 4- صعود نخب ذات توجهات طائفية وعرقية ودينية إلى سدة الحكم وبالتالي انحدار إدارة الدولة من المؤسساتية إلى الطائفية والعرقية والدينية بفعل صعود هذه النخب . 5- قد يكون هناك تعارض وتناقض بين البنية الثقافية والإيديولوجية لنخب السلطات الحاكمة وبين أغلبية الشعب التي يغلب عليها الانتماء القبلي والعرقي والطائفي وبالتالي يحدث الاصطدام في فهم وإدراك فلسفة وضروريات وتحديات إدارة الدولة. 6- بروز أمراء الحرب وكذلك اللاجئين داخل وخارج البلاد ، والتدخل الإقليمي والدولي في هذه الدول بحجج متعددة. اخذ مصطلح الدول الفاشلة في التداول والرواج بعد انحدار مسار الربيع العربي لدوله ، وأصبح النموذج الصومالي هو الواعد في مستقبلها كون هذا البلد سبق وان عانى ولازال يعاني من التفتت والانقسام، وفقدان السيطرة المركزية لحكومته على أجزاء واسعة من أراضيها ، والصراع الذي اتخذ مسارات متعددة ابتدأت بين زعماء الحرب ، ثم بين القبائل ، وانتهت بصراع ديني عقادي استدعى تدخل إقليمي ودولي في هذا البلد ، من خلال ما تقدم يمكن مقارنة ما يحدث في بلدان ما يعرف بالربيع العربي وخصوصا (سوريا / ليبيا / اليمن)، وما يزيد من خطورة ما جرى ويجري في هذا الدول أنها تشكل ركائز إستراتيجية حساسة في المنطقة وخاصة سوريا التي تمثل احد المحاور الرئيسية في محور الصراع العربي الإسرائيلي . وخيار الدول الفاشلة الذي مثلته الصومال منذ عام 1991 إلي يومنا هذا والذي تسير شعوب وأنظمة ما يعرف بالربيع العربي باتجاهه يضع الشعوب العربية أمام مسؤوليات إنسانية تاريخية أهمها :- 1- التغير السياسي والاقتصادي مرهون بالتغير الثقافي والاجتماعي . هذه حقيقة لابد أن يدركها ويعيها المواطن العربي لكي لا يقع في عقدت الانسجام والتفاعل مع ما ينشده من هذا الربيع ، وكما يعرف في أدبيات السياسة ( الديمقراطية بحاجة إلى ديمقراطيين ، والحرية بحاجة إلى متحررين ) ، قيود كثيرة تحكم المواطن العربي بحاجة إلى التحرر منها مثل قيود العشيرة ، والقبيلة ، والانا ، هذه لا تتلاءم مع مبتغاة كونها تمثل خصوصيات فردية وجماعية ضيقة ، بينما التحرر السياسي والاقتصادي يمثل حالة عمومية ذات أفاق واسعة . 2- ما حدث في الربيع العربي يضع الحكام في الشعوب العربية من رؤساء وملوك وصناع قرار آخرين أمام واقع لا مفر منه وهو ( التغير السياسي أمرا لابد منه وان البدائل الاقتصادية والعسكرية والبوليسية ألقصرية) ما هي إلا وسائل وأدوات ترقيعية وقتية أمام هذا العصف المجتمعي الثائر، إعطاء الشعوب حقها في الاختيار ، والتنازل عن السلطة بعد هذه العقود من السطوة والتحكم في مصير هذه الشعوب أمرا يعود عليهم وعلى شعوبهم بأكثر من ما يمليه العنف والاقتتال والتدخل الخارجي . 3- البيئة والتركيبة المجتمعية السكانية للمجتمع العربي ذات تنوع ديني وعرقي وطائفي وبالتالي إي حراك ( سياسي / شعبي جماهيري / نخبوي ) للتغيير لابد وان ينسجم ويأخذ المشترك العام بين هذه البيئة والتركيبة المجتمعية المتنوعة . 4- النخب الاجتماعية والثقافية القائدة والمحركة للتغير تقع عليها المسؤولية الكبرى في تحصين والتحكم بمسيرته وعدم الانجرار إلى مطامع شخصية سلطوية لكي لا تضحي في مسيرته ، وعليها التأسيس لمراحل انتقالية من خلالها يمكن تأهل الجوانب السياسية والدستورية والمؤسساتية والثقافية للمجتمع . 5- هنالك مطامع إقليمية ودولية ذات أبعاد اقتصادية واستعمارية حددتها الأهمية الإستراتيجية للموقع الجغرافي والاقتصادي والعسكري لدول الربيع العربية ، شكلت هذا المطامع مدخل للتآمر والتسلل لعمقه والاشتراك في انحرف مسيرة أهدافه لغرض الوصول به إلى عمق الدول الفاشلة ، وبالتالي حاجة شعوب هذه الدول إلى إدراك ووعي هذا الخطر . 6- مبدأ سرقة الثورات والالتفاف عليها . فما حصل في ثورات الربيع العربي التي ابتدأت سلمية جماهيرية بعيدة عن التشدد والعنف ، هو إنها سرقت من إطارها هذا في الإصلاح والتغيير لتوضع في خانة الصراع الطائفي والعرقي والديني ، وبالتالي على شعوب ونخب الربيع العربي إرجاعها إلى حاضنها وسياقها الصحيح ومنع انحرافها وسرقتها. فإن تسونامي هذا الربيع الذي أشعلته ثورة الرغيف التي فجرها بوعزيزي في تونس عام 2011م لم تتوفق كما توقع لها الكثير، بل أخذت في الانحراف كثيرا عن مسيرها الجارف لعروش وأنظمة البلدان العربية المستبدة، حتى أصبح رواد هذا الربيع في صراع من اجل الوجود القومي أو الطائفي أو العرقي ونسوا ذلك اليوم الذي ثاروا فيه من اجل رغيف الخبز والحرية، وبات خيار الدولة الفاشلة يلوح في أفق مستقبل دول المنطقة .
التعليقات