الأمن في العراق : سوء في التقدير وخطأ في المعالجات

في 17 نيسان 2013 شهدت مدينة بوسطن الأمريكية تفجيرات إرهابية خلفت ثلاثة قتلى وما يقارب 264 جريحا ، وذلك أثناء إجراء مباريات المارثون المشهورة ، مما دفع الإدارات الأمريكية المحلية والاتحادية إلى اتخاذ سلسلة إجراءات أمنية امتدت لبضعة أيام تمثلت في إغلاق مدينة بوسطن ، وإيقاف حركة وسائل النقل البرية منها واليها ، وإغلاق المحال والشركات ، والطلب من المواطنين البقاء في منازلهم . لكن هذه الإجراءات ، على الرغم من قصر مدتها الزمنية ، وفعاليتها في معرفة الجناة والسيطرة عليهم ، قوبلت باستهجان المراقبين والمحللين الذين عدوها إجراءات مبالغ فيها ، فقد نشر احد الكتاب الأمريكان مقالا بعنوان " عدو أمريكا في الداخل " على الموقع الالكتروني لجمعية " Project Syndicate " الأمريكية انتقد فيه إجراءات الإدارة قال فيه :" .. عندما تتسبب جريمة ارتكبها شابان مهاجران في إغلاق مدينة بالكامل ، فان الحكومة الأمريكية بذلك تضر بحرية المواطنين الأمريكيين بدرجة لا يحلم أي إرهابي بالنجاح في بلوغها على الإطلاق " ، وأضاف : لقد أظهرت هذه الإجراءات " مدى ضعف أي مدينة حديثة عندما يفقد زعماؤها أعصابهم ورباطة جأشهم " . إن هذا النفور من التقييد للحريات بحجة الظروف الأمنية لا يقتصر على السياسة الداخلية لأمريكا ، بل يمتد إلى سياستها الخارجية أيضا ، فقد عد الكثيرون إستراتيجية الحرب الاستباقية أو الوقائية التي تبنتها إدارة جورج بوش الابن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 إستراتيجية فاشلة ألحقت الضرر بسمعة أمريكا وبمصالحها الدولية ، فطالبوا بنزع العسكرة من سياسة أمريكا الخارجية ، والاستعاضة عن القوة الصلبة بالقوة الناعمة التي تركز على بناء الحكم الصالح ، والقابلية السياسية للمسائلة ، والديمقراطية ، والمؤسسات القوية من خلال اصطناع القدوة الحسنة ، وبرامج التدريب والتثقيف النخبوي والمجتمعي ، وخلق الحافز الداخلي للإصلاح ، مع الاستخدام الفاعل والحكيم لقدر معقول من القوة الصلبة عند الضرورة كما يقول فوكاياما . وهذا الرأي يبدو انه قد أخذ طريقه إلى التأثير في الإدارة الأمريكية ، وهو الذي يفسر كثيرا من سلوكيات واشنطن في السياسة الخارجية في الوقت الحاضر. إن مقارنة بسيطة بين ما تقدم وبين إدارة الحكومة العراقية للملف الأمني ، منذ إشرافها الفعلي على هذا الملف بعد خروج القوات الأمريكية المحتلة ، يكشف حقيقة مؤلمة يظهر من خلالها وجود سوء في التقدير خطير وخطأ في المعالجات اخطر ، فالحكومة بدلا من التركيز الحيوي على مخرجات القوة الناعمة من الفن ، والاقتصاد ، واعتماد برامج التثقيف والتدريب والدعم للقوى المدنية المعتدلة ، وإيجاد القدوة الحسنة ، وخلق الرؤية المناسبة لبناء الدولة في عيون مواطنيها ، تجد لديها تركيزا مفرطا على تنمية وتوسيع أدوات ومؤسسات القوة الصلبة من الجيش والشرطة والقوى الأمنية بكافة صنوفها وأشكالها ومسمياتها بشكل يفوق ما كان يحدث في زمن النظام الدكتاتوري السابق ، فعلى سبيل المثال يحتاج وصولي اليومي من مسكني إلى مكان عملي في الجامعة إلى المرور في سبعة نقاط تفتيش أمنية (سيطرات) ولمسافة لا تزيد عن العشرين كيلو متر طولا ، ومثل هذا الأمر لم يكن موجودا قبل سقوط النظام ، كما أصبح انتشار المظاهر الأمنية سمت المدن والقرى والبادية العراقية ، في وقت فشلت الحكومة في حماية مواطنيها بدليل أن شهر أيار الماضي شهد مقتل أكثر من ألف مواطن وجرح أكثر من ألفين بشهادة الأمم المتحدة ، مع بقاء مسلسل التفجيرات والاغتيالات اليومية على وتيرة واحدة لا تتغير ، إذ لا زال الإرهاب يمتلك المبادرة في قتل العراقيين في الزمان والمكان المناسبين له . إن سياسة الحكومة الأمنية خلال السنوات السابقة انعكست إيجابا لمصلحة جانبين : الجانب الأول مثله أصحاب النفوذ والسلطان في البلد الذين وجدوا الساحة فارغة أمامهم ، من اجل التخطيط لبسط سيطرتهم ونفوذهم على مفاصل الدولة الاقتصادية ، والسياسية ، والأمنية ، بدون الخشية من ضاغط شعبي مؤثر يوقفهم عند حدهم ، والجانب الثاني مثلته قوى الإرهاب على اختلاف مسمياتها ، حيث تم تضخيم صورتها ، وتأكيد سطوتها بشكل جعل الحكومة مثار سخرية أمام شعبها ، مما افقدها هيبتها وثقة المواطن فيها ، وهذا غاية ما يتمناه أي متطرف يجعل العنف سبيلا لتحقيق أهدافه. لكن هذه السياسة الأمنية للحكومة انعكست سلبا على المواطن العراقي ، فقد حجمت حرياته وحقوقه ، وفسحت المجال لانتهاك هذه الحقوق والحريات في مواطن عدة ، سواء من قبل قوى الإرهاب تارة أو من قبل بعض القوى المحسوبة على الحكومة تارة أخرى ، فلم يعد المواطن شريكا فاعلا للحكومة في الدفاع عن أمنه المجتمعي ، لان دوره لم يؤخذ بالحسبان ، ولم تتضمن إجراءات الحكومة وضع الخطط الفاعلة لتجفيف منابع الإرهاب والعنف الفكرية ، والنفسية ، والاقتصادية ، والسياسية .. إن الأمن كمطلب مجتمعي وجد من اجل حماية المواطن ، ومنع الاعتداء عليه ، وترسيخ منظومة حقوقه وحرياته المدنية ، وتفعيل دوره في المشاركة في بناء نظامه الديمقراطي ، وحماية هويته ، ومؤسساته الدستورية ، لكن هذا الفهم للأمن مفقود في سياسة الحكومة العراقية الأمنية سواء على مستوى التخطيط أو على مستوى التنفيذ ، مما جعلها تقدم على تقطيع أوصال العراق إلى ما يشبه المناطق العسكرية المعزولة بعضها عن البعض الآخر ، وكأن البلد كله في حالة حرب لا تبدو لها نهاية ، فلم تعد المناسبات الوطنية والشعائر الدينية والاجتماعية ، بل والحياة اليومية للناس تحمل ذلك البريق الذي تراها عليه في دول أخرى ، وهذا في حقيقته لا ينطوي على أي مظهر من مظاهر النجاح ، بل هو الفشل بعينه ، لأن الحكومات القوية هي تلك الحكومات التي تدير حروب ناجحة في الوقت الذي تحافظ فيه على الهوية المدنية والنزعة الحضارية لشعبها . أخيرا ، لا بد من القول أنه إذا كان بناء الدولة العراقية بعد 9 / 4 / 2003 أنجب عملية سياسية فاشلة ، وكثيرة الأزمات التي بلا حلول حقيقية تصب في خدمة المواطن ، فأنه في الشق الأمني أنجب ما يشبه ذلك المخلوق الأسطوري الذي خرج من قلب الجحيم بلا ملامح واضحة فقزم المواطن واضعف مناعته الفردية والمجتمعية ، وأثار الرعب والهلع في نفوس الناس ، وأفقدهم الثقة بالمستقبل الأفضل ، وسيرتد خطره على الجميع عاجلا أو آجلا.
التعليقات