أزمة رئاسة الوزراء القادمة بين فرضيات الصدر وعرف المعادلة السياسية

طالما مّثلت رئاسة الوزراء في العراق بعد عام 2003 محط اهتمام كل اللاعبين (المحليين، الإقليميين والدوليين) والفواعل الحكومية وغير الحكومية بشكل رسمي وغير رسمي، وقد دفعت الاحزاب السياسية الشيعية والبلد بشكل عام، ثمنها باهظاً على كافة المستويات (السياسية والاقتصادية والأمنية والخدمية). وما تزال تمّثل الصداع الاكبر في عالم السياسة العراقية، أو عالم الصفقات السياسية؛ لأنها كانت تأخذ الحيز الأكبر في التحاصص والتقاسم المحلي والدولي؛ ونتيجةً لذلك كان يأتي برئيس وزراء توافقي، بعيد عن الانظار، تستطيع القوى السياسية وفواعلها (الدولية والإقليمية) أن تملي عليه بما يتناسب مع مصالحها الداخلية والخارجية، في الوقت الذي يحتاج فيه البلد إلى رئيس وزراء يتمتع بمواصفات شخصية خاصة، ويحظى بمقبولية داخلية واقليمية ودولية، ولديه بصيره نافذة في كل ملفات العراق الشائكة على كافة المستويات، ولديه القدرة الفائقة وارادة القرار وحكمة التصرف على ادارة بلد مأزوم لايخرج من ازمة حتى تداهمهُ الأخرى. وفي ظل هذا التحديات، وتحديات الفشل المتراكمة منذ سنوات، فضلاً عن التحديات التي خلّقتها انتفاضة تشرين 2019 أمام العملية السياسية وعُرفها البائس، الذي أوصل البلد لما عليه اليوم، يصعب التّكهن حول منصب رئيس الوزراء القادم، ولاسيما أن تلك التحديات اصبحت مشفوعة بتحدي كبير جداً، إلا وهو تمسك الصدريين برئاسة الوزراء بوقت مبكر. وهي الفرضية التي من شأنها أن تزيد من تعقيد المشهد السياسي العراقي القادم.   

فعلى مدار السنوات السابقة ومع كل دورة انتخابية "اذا ما استثنينا الدورة الانتخابية الأولى"، كان التيار الصدري بمثابة بيضة القبان في ترجيح كفة التوازنات المحلية بشأن أزمة رئاسة الوزراء، منذ الولاية الثانية للسيد المالكي وحتى رئاسة الوزراء الحالية المتمثلة بالسيد الكاظمي، إلا أن المتغير الجديد الذي من شأنه أن يقلب، أو يغّير تلك المعادلة، هو الرغبة الصدرية في تبوأ منصب رئاسة الوزراء القادمة، تلك الرغبة التي اعلنها زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر في تغريدته التي نشرها حسابه على منصة تويتر في 22/ نوفمبر  من العام الماضي، التي قال فيها: بأنه "قد يصبح في حل من قسمه، القاضي بعدم المشاركة في الانتخابات، في حال تأّكد أن التيار الصدري سيفوز بـ "الأغلبية" وبرئاسة الوزراء"، مما أثار تساؤلات حول تغيير الصدر موقفه السابق، ومقاصده من وراء التلميحات الأخيرة. وقد تبع ذلك التصريح مواقف وردود متباينة، سواء من داخل التيار وانصاره أو من قبل المهتمين بالشأن العراقي، أو من قبل المعارضين له، كموقف رئيس الوزراء الاسبق السيد نوري المالكي، الذي تحدّث بشكل واضح في لقاءهِ الاخير بشأن تمسك أو طمع التيار الصدري برئاسة الوزراء القادمة، واكد بعدم سماحه بعودة "البطة"()إلى الشارع العراقي وقال في حوارٍ متلفز: إنه لن يسمح بـ"عودة البطة"، وإنه لم يسمح لها في السابق ولن يسمح لها في المستقبل، بأن "تُرعب الناس"، وإنه لا يمانع من أن "يصلح حال البلد، في حال تكليفه بأي مهمة". ما أثار حفيظة التيار الصدري، إذ سارع المتحدث باسم زعيم التيار (صالح محمد العراقي) الى الرد المبطن على المالكي بمجموعة تغريدات. وقال في بعض تغريداته إنه "من الممكن القول إن البطة هي الحل الوحيد للفاسدين، ولمن باعوا ثلث العراق لداعش"، في إشارة إلى الاتهامات التي وجّهت للمالكي بالتسّبب في سقوط الموصل ومدن عراقية أخرى بيد تنظيم داعش منتصف عام 2014، مضيفاً بأن: أخلاقنا، نحن الصدريين القح() (الخالصين)، لا تسمح لنا بذلك، فهي سيرة المنشقين والمليشيات الوقحة، وهم أجمع ليسوا أسوة لنا". إلا أن تمسك التيار الصدري برئاسة الوزراء انعكست ايجاباً على انصاره، الذين سارعوا إلى تحديث بطاقاتهم الانتخابية البايومترية بعد دعوة زعيمهم لها. هذا التعقيد الذي يكتنف ملف رئاسة الوزراء القادمة، ودعوة الصدر في التمسك بها، ربما تكون مشفوعة بفرضيتين:

الفرضية الأولى: تلك التي بانت ملامحها مع انطلاق انتفاضة تشرين، ولاسيما بعد حادثة المطار، إذ يرى البعض بأن تلك الحادثة، وضعت الاحزاب السياسية الشيعية ذات الاجنحة العسكرية في خانة واحدة بعد اجتماع قادة الفصائل الشيعية في مدينة قم، ويرى اصحاب هذه الفرضية بأن الصدر تكّفل بموجبها، أو أَلقت على عاتقهِ آلية انهاء التظاهرات "بطريقة أو بأخرى" مع اذعان بقية الفصائل الشيعية إلى ما يُريد، وعدم احراج الحكومة، وتكللت فيما بعد بتظاهرات الجادرية المناهضة للاحتلال الامريكي وتسمية الصدر بزعيم المقاومة الدولية. وتكمن هذه الفرضية بأن يرشح الصدر شخصية مناسبة لرئاسة الوزراء، وابقاء الامين العام للمجلس حميد الغزي في منصبه في الحكومة الحالية. إذ خَلقّت تلك الفرضية "فيما بعد" قناعة عند السيد الصدر بأن يكون رئيس الوزراء القادم صدري، مدفوع بدعم قادة الفصائل والاحزاب الشيعية القريبة من طهران، بشرط أن يتكفل السيد الصدر بحل أزمة التظاهرات ورسم ملامح العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، مقابل اخضاع اغلب الفصائل الشيعية إلى سيطرة الحكومة وإعادة هيبتها بطريقة توافقية بعيدة عن العنف والصدام المجتمعي، وبالشكل الذي يحفظ ما الوجه للأحزاب السياسية الشيعية، بعدما كشفتها انتفاضة تشرين وتراكمات المرحلة السابقة.  

الفرضية الثانية: هذه الفرضية ربما رُسمت في عقلية السيد الصدر بشكل خاص، وربما أُقترّحت عليه من بعض المقربين له، أو من خارج دائرة التيار الصدري؛ وذلك لعدة أمور. إذ يرى اصحاب هذه الفرضية، بأن رئيس الوزراء الصدري، قد يكون استحقاق انتخابي للصدريين؛ طالما تصدوا للمشهد السياسي منذ الدورة الانتخابية الثانية، وكان لهم دور كبير في ترجيح كفة رئاسة الوزراء، وشعبيتهم الكبيرة نسبياً مقارنة بالأحزاب الشيعية الأخرى، فضلاً عن ما حققته كتلة سائرون في انتخابات آيار عام 2018. ودوافع هذه الفرضية يكمن بأن يتصدى رئيس الوزراء "الصدري" بقوة إلى كل اشكال وعناوين ومفاهيم اللادولة وبسط هيبة الدولة، من خلال اخضاع كل الفصائل الشيعية إلى سيطرتها بالقوة "في حال رفضت الفكرة طواعيةً"، ولاسيما أن رئيس الوزراء الصدري سيكون مشفوعاً بدعم شعبي وطني في هذا الاتجاه، وأنه يمتلك الاداة العسكرية التي من الممكن أن تأهله من مجاراة الفصائل الشيعية الأخرى؛ لهذا يعتقد البعض بأن كلام السيد الصدر نابع من تلك الفرضية، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، ولاسيما في ظل التحفظات الداخلية والإقليمية والدولية على التيار، سواء فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية أو طهران، فضلاً عن التحفظات الداخلية، التي تتعلق بالفصائل الشيعية وبعض الاحزاب القريبة منها (سياسياً وايديولوجياً)، كموقف دولة القانون، بالإضافة إلى ما يتعلق بموقف مناصري انتفاضة تشرين من التيار الصدري؛ الأمر الذي من الممكن أن يضع العراق في مواجهة مسلحة بشكل أو بأخر، ويُدخل البلد والعملية السياسية في أزمة معقدة، ولاسيما في ظل المتغيرات الجديدة التي ربما تغّير من طبيعة المعادلة السياسية والعرف السياسي السائد منذ عام 2003. 

لهذا يعتقد الكثيرون بأن تمسك الصدريين برئاسة الوزراء القادمة، ربما يضع البلد ايضاً في مسارات وسيناريوهات معقدة جداً، وقد يقترب الصدر من نهايته بمحاولة الوصول إلى الثقب الأسود المسمى برئاسة وزراء العراق. فهل يُصر زعيم التيار الصدري على موقفه القاضي بإحكام قبضته على رئاسة الوزراء القادمة أم سيصطدم بعقبة العرف السياسي السائد وتتبخر مساعيه بحجم الأزمة والتعقيد الذي يرافق عملية تشكيل الحكومة واختيار رئيسها...؟  

 

(*). ارتبط مصطلح "البطة"، وهو نوع من أنواع سيارات تويوتا من موديلات التسعينيات، بالعمليات التي قام بها عناصر "جيش المهدي" خلال حقبة الحرب الطائفية التي شهدها العراق (2004-2008)، التي اتهم فيها سياسيون سنّة، جيش المهدي بخطف وقتل أبناء المكون السنّي في العراق، في حين قال قياديون في التيار الصدري أن عناصر التيار قضوا على الطائفية والارهاب بوسائلهم، ومنها عبر استخدام سيارات "البطة".

(*)."القح: حسب تعبير صالح العراقي، هو كاتم الاسرار حتى وان هُمش أو اُقصي أو طرد... فلا يُسارع الى كيل التهم بمجرد ان أحسّ بنفسه مظلوماً. والقح: هو الذي يعامل الجميع من غير الذين ينتمون له إما كأخ له في الدين أو نظير له في الخلق والقح: هو الذي لا ينافق ولا يرائي ولا يهادن محتلاً او عدواً ولا يرضى للعراق بالتبعية والهوان ويسعى للوحدة والاستقلال والسيادة ولا يمد يده وان صُفع على الاخرين المدنيين منهم والامنيين، وان وصل لسدة الحكم ولرئاسة الوزراء فلا يتعالى ولا يتكبر ويكون أباً للتيار أولاً وللآخرين ثانياً مهما كان انتمائه".

التعليقات