الانقسام داخل الحشد الشعبي: انعكاس لتنافس المرجعيات الدينية الشيعية في النجف وطهران للفوز بالشرعية الدينية والاجتماعية

أعلنت قيادة قوات الحشد الشعبي المشكّلة من قبل العتبات الدينية، والمتمثلة بفرقتَيْ -الإمام علي والعباس القتاليتين -ولوائَيْ -علي الأكبر وأنصار المرجعية -ذات الارقام الإدارية (٢،١١،٢٦،٤٤)، أنها انتقلت من هيئة الحشد الشعبي لترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة على وفق الأمر المرقم (م. ر. و/س/د6/946) في 19/4/2020م الصادر من القائد العام للقوات المسلحة.  

أثار فك ارتباط الفصائل المسلحة التابعة للعتبات الدينية، عن هيئة الحشد الشعبي وارتباطها برئيس الوزراء -القائد العام للقوات المسلحة وفق الدستور العراقي – في نيسان الماضي حراكا متخفيا من قبل بعض القيادات المهمة في الحشد الشعبي مثل هادي العامري رئيس منظمة بدر ورئيس تحالف الفتح في مجلس النواب، نحو وكلاء المرجع الديني السيد علي السيستاني في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد احمد الصافي لرأب الصدع وارجاع الوضع على ما كان عليه سابقا.

تنافس مرجعيات دينية، من الرابح؟

تتولى العتبات الدينية الشيعية التابعة لمرجعية السيد علي السيستاني الدينية ادارة فصائل (لواء أنصار المرجعية، ولواء علي الأكبر، وفرقة العباس القتالية، وفرقة الإمام علي القتالية) بشكل مباشر، كما إنها جهزتها بشكل كامل بعد فتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقها السيستاني، واستمرت بتنسيب جزء من موظفيها والعاملين في العتبات للالتحاق بها ودفع رواتبهم وتكاليف تجهيزها لسنوات. 

تشكيل هذه الفصائل جاء لتحقيق توازن قوى محلي بعد حرص الفصائل التابعة لولاية الفقيه (علي خامنائي) على تنظيم نفسها، واستغلالا لعدم جهوزية المؤسسات الامنية لاستيعاب العدد الكبير من عناصرها، واتخاذها من فتوى الجهاد الكفائي كإطار للتحرك وتنظيم تشكيلاتها، وقيامها بإيجاد تشكيل رديف للقوات الامنية تحت مسمى (الحشد الشعبي)، واستدراكا لميلان كفة ميزان القوى الداخلي لصالح ولاية الفقيه، عملت مرجعية علي السيستاني الدينية وعبر العتبات الدينية التابعة لها، على التدخل في الوقت المناسب وايجاد تشكيلات مسلحة لتصحيح توازن القوى المحلي.  

تؤمن التشكيلات المسلحة التابعة للعتبات الدينية بما تؤمن به مرجعية السيد السيستاني فيما يتعلق بالحكم وادارة الدولة ومتضمنات المدرسة الدستورية في الحكم وما دعت اليه مرجعية النجف، وبأن واجبها مساندة الاجهزة والمؤسسات الامنية وتقاتل تحت لوائها، ولم تتحيز او تنجر الى أية مواقف سياسية تجاه المتغيرات السياسية المحلية والاقليمية والدولية. اذ أشار علي الحمداني مسؤول لواء على الاكبر التابع للعتبة الحسينية الى: "ان قطعاتنا العسكرية بعيدة عن السياسة والاحزاب، ونحن نلتزم بفرض الأمن كما أوصت المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف"  ، على عكس الفصائل الاخرى التابعة دينيا وسياسيا للولي الفقيه في ايران والتي دائما ما كان لها موقف تجاه المستجدات السياسية والامنية ذات العلاقة بإيران او المجاميع العسكرية التابعة لولاية الفقيه في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلا عن تدخلها واصدارها بيانات حول بعض المستجدات السياسية في السعودية والبحرين وبما يتناسب مع السياسات الايرانية في المنطقة. 

لذلك كثيرا ما كانت تسجل تلك التشكيلات (التابعة للعتبات الدينية) اعتراضها على التهميش الذي كانت تتعرض له تحت قيادة أبو مهدي المهندس بسبب "ولائها للعراق" كما يكرر ذلك قادتها. وهذا ما تأكد لاحقا. كما ان القوات التابعة للعتبات الدينية لم تتعرض للاتهامات الخاصة بالاستيلاء على المشاريع والموارد في المحافظات المحررة، وبقتل المتظاهرين طوال المرحلة الماضية. بل سجلت مساندتها للمتظاهرين والمطالب الشعبية بتحسين الخدمات ومواجهة الفساد.  

وبلغ التصعيد بينها وبين الفصائل الموالية لمرجعية علي خامنائي والحرس الثوري الايراني (الحشد الولائي) ذروته من خلال فك ارتباط الفصائل التابعة لمرجعية السيد علي السيستاني الدينية (حشد المرجعية او الحشد المرجعي) بهيئة الحشد الشعبي عقب تعيين عبد العزيز المحمداوي (ابو فدك) -أحد أعضاء هيئة الشورى في كتائب حزب الله -كرئيس لأركان الحشد في 20 شباط الماضي خلفاً لجمال جعفر محمد (ابو مهدي المهندس) الذي تم اغتياله بضربة جوية مع قاسم سليماني في بغداد مطلع كانون الثاني الماضي. وهو الامر الذي لوحت به عقب قرار هيئة الحشد ذلك. 

ويتمثل وجه اعتراض الفصائل التابعة للعتبات الدينية على قرار الحشد بتعيين المحمداوي بالآتي:

- ان وجود عبد العزيز المحمداوي، أحد قيادات كتائب حزب الله، على رأس هيئة الحشد الشعبي، وفي وقت تتولى هذه الكتائب استخبارات الحشد يعزز من نفوذ إيران داخل هيئة الحشد الشعبي، ولاسيما انه كان يعمل مع قاسم سليماني وكانت مجاميعه ترتبط بمكتب سليماني والمهندس، الامر الذي يجعل التوازنات داخلها لصالح الفصائل الموالية لأيران.

- تأكد التهميش الذي تتعرض له الفصائل التابعة للعتبات الدينية عبر بيان اصدرته تلك الفصائل مجتمعة يوم 22 شباط 2020 اكدت فيها عدم اشراكها في قرار تكليف المحمداوي للمنصب وشكل لها رسالة غير مطمئنة حول مستقبل الحشد! ولذلك اصدرت بيان وقعت عليه الفصائل الاربعة (فرقة العباس القتالية، لواء علي الأكبر، لواء أنصار المرجعية، وفرقة الإمام علي القتالية) ذكرت فيه: "ليس لنا علم بتنصيب أي شخصية لمنصب نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، وأن "القوات المشكلة من قبل العتبات قدمت رؤيتها حول المنصب لرئيس الهيئة وتنتظر الإجابة عليها بشكل رسمي"، ويبدوا انها لم تتلقى الرد من رئيس الهيئة فالح الفياض حول رؤيتها.  

- اكدت تلك القوات في البيان ذاته اعتراضها القانوني على التكليف بقولها " أن ذلك يحتاج الى سياقات قانونية غير متوفرة الآن في ظل حكومتين إحداهما تصريف أعمال والأخرى لم يكتمل تكليفها". 

- فضلا عن ذلك، جاء امر التكليف مخالفا لقانون هيئة الحشد الشعبي رقم 40 لسنة 2016، ولم يصدر عن القائد العام للقوات المسلحة.  

- أكد أبو علي البصري" قائد عمليات الحشد ونائب معاون رئيس الهيئة ان "هيئة شورى الحشد الشعبي" اتفقت على تعيين المحمداوي خليفة للمهندس. وهنا يكمن اهم اعتراض آخر لدى الفصائل التابعة للعتبات الدينية، اذ ان الهيئة التي اشار لها البصري ليس لها اساس قانوني وغير رسمية ولم ينص عليها قانون الحشد، كما انها غير موجودة في هيكلية الحشد ولا على الموقع الرسمي للهيئة على شبكة المعلومات الدولية (الانترنت).   وان إنشاء إدارة ذاتية من شخصيات سياسية باسم مجلس شورى الحشد وتعيين القادة متجاوزين صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة مخالفة قانونية صريحة، اذ لا يعرف كيف يتم اختيار اعضاءه من بين عشرات الفصائل المسلحة. 

وما يثير شكوك القوات التابعة للعتبات هو عضوية المجلس والذي – وفقا لبعض المصادر الاعلامية-يضم كلا من عصائب أهل الحق، بحضور ليث الخزعلي، شقيق أمينها العام قيس الخزعلي، وكتائب حزب الله العراقية، ومنظمة بدر، و"مستشارين" من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، بالإضافة لآخرين.   

عقب ذلك، عقد مسؤولي تلك الفصائل (حميد الياسري/ مسؤول لواء انصار المرجعية، طاهر الخاقاني/ مسؤول فرقة الامام علي (ع)، هيثم الزيدي/ مسؤول فرقة العباس القتالية(ع)، علي الحمداني/مسؤول لواء علي الاكبر (ع)) لقاءاً مع وزير الدفاع نجاح الشمري يوم الثلاثاء 17 آذار 2020 طالبو فيه:   

- تحقيق رغبة المرجعية الرشيدة بأعادة النظر بارتباط هذه التشكيلات بوزارة الدفاع، وفقا لما جاء بخطاب وزير الدفاع الى رئيس الوزراء.

- التمييز ما بين فصائل الحشد الشعبي و"فصائل المقاومة" حيث ان لكل واحد منهم اسباب وخصوصيات في تشكيله واسلوب عمله. 

وعليه فأن ارتباط القوات التابعة للعتبات الدينية بالقائد العام للقوات المسلحة جاء استجابة لرغبة مرجعية السيد السيستاني الدينية في النجف الاشرف كما أكد مسؤولو تلك القوات. ويأتي فك ارتباط تلك القوات عن هيئة الحشد في وقت حرج ويضع الفصائل الموالية لايران في اوضاع صعبة على مستويات عدة سنوضحها في المحور الثاني. كما انه تلك الخطوة شكلت صدمة للفصائل الموالية لايران وسيقود الى قراءة الدور السياسي والامني للحشد بشكل جديد وسيكون وفق معايير الشرعية والمشروعية بالدرجة الاساس.

سباق على الشرعية الاجتماعية وتمثيل الفتوى الدينية، من يكسب؟

بعد السيطرة السريعة والكبيرة لتنظيم داعش على مساحات واسعة قاربت أكثر من ثلث مساحة البلاد، جاءت خطبة الجمعة يوم 14 حزيران 2014 لتدعوا مرجعية السيد علي السيستاني من خلالها الشباب القادرين على حمل السلاح والقتال الى الانضمام الى القوات الامنية العراقية ومساندتها للقتال ضد التهديد الوجودي للدولة العراقية. وهذا ما تم تصنيفه لاحقا على انه فتوى صريحة بـالجهاد الكفائي. 

لم يرد في الخطبة او في "فتوى الجهاد الكفائي" دعوة بأتجاه تشكيل قوات او قوة رديفة للقوات الامنية العراقية في إطار هيكلية مؤسساتية خاصة، بل تم استغلال تلك الدعوة من قبل ما يطلق عليها "فصائل المقاومة" والموالية لايران لاظهار مجاميعها المسلحة الى العلن ومن ثم تشكيل قوة رديفة للقوات الامنية وكسب شرعية اجتماعية لتكون معادل موضوعي للمؤسسة الامنية. ووفرت الاحزاب الشيعية الداعمة لتلك المجاميع الغطاء السياسي والاعلامي. وهي "احزاب" متحكمة بالمشهد الامني والسياسي وفي مقدمتها حزب الدعوة الاسلامية بزعامة نوري المالكي رئيس الوزراء آنذاك، والذي تصدر المشهد وكان له دور في اظهار الكثير من الفصائل نفسها الى العلن واعلان تحركاتها بين المحافظات الجنوبية ومناطق الصراع الطائفي ومنها عصائب اهل الحق بقيادة قيس الخزعلي ، حتى قبل ظهور داعش. 

تبع ذلك قيام باقي "الاحزاب" والتيارات والحركات السياسية الشيعية بتشكيل مجموعات مسلحة وعملت على تمويلها وتجهيزيها لتعزيز قوتها السياسية، ولتسجل وجود في موازين القوى الجديدة المحلية السياسية والعسكرية، واوراقها التفاوضية، في وقت كانت تلك القوى على ابواب تشكيل حكومة بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في 30 نيسان 2014حتى بلغ عدد تلك الجماعات والفصائل أكثر من (40) فصيل مسلح. 

بقيت مرجعية السيد علي السيستاني ثابته على موقفها واكدت مرارا وتكرارا على تعزيز الامن والاداء المهني للقوات الامنية. وخاطبت القوات الامنية كمؤسسات قائمة لها قوانينها الضابطة لعملها والملزمة لتوجيه ادائها بالاتجاه الوطني وبما يعزز حالة الامن والسلم والامن المجتمعي. ولم يرد على لسان وكلاء المرجع الديني علي السيستاني في كربلاء اي ذكر لتسمية الحشد الشعبي في خطب الجمعة لا قبل اقرار قانون الهيئة ولا بعد اقراره، بل كانت المرجعية تشيد بشجاعة المقاتلين وتضحياتهم تحت عبارة (ابنائنا الابطال في قواتنا الامنية، والمتطوعين – وأحيانا المجاهدين – وابناء العشائر) . 

ما اكسب جميع تشكيلات الحشد الشعبي، الشرعية والقبول الاجتماعي هو ضرورة المرحلة، وهي ضرورة القتال ضد تنظيم "الدولة الاسلامية" داعش، ودفع الخطر عن الدولة العراقية وسكانها واقليمها وصولا الى تحقيق الهزيمة الكاملة له. الا ان هناك نقاط تحول انعكست على مستويات شرعية تلك الفصائل ومنها:  

• اعلان هزيمة داعش عسكريا في كانون الاول 2017 كان نقطة تحول في مستوى تلك الشرعية والقبول الاجتماعي، وبدأت الفعاليات الثقافية والاجتماعية والسياسية تثير تساؤلات عن بقاء فصائل الحشد الشعبي وتزايد نفقاتها مخصصة لها في الموازنات الفيدرالية السنوية، بعد تلافي مبررات وجودها، على الرغم من الهجمات والتعرضات التي تشنها خلايا التنظيم ضد القوات الامنية والمدنيين. 

• التحول الاخر الذي أثر في مستوى الشرعية والقبول الاجتماعي لتلك الفصائل هو دخول الفصائل الموالية لأيران في العمل السياسي وحصولها على تأثير نيابي كبير في مجلس النواب عقب انتخابات ايار 2018، ومشاركتها الكبيرة في تحالف الفتح النيابي برئاسة هادي العامري/ رئيس منظمة بدر، والاختلاف مع التحالفات النيابية الاخرى حول المناصب الحكومية وغيرها من المكاسب وبدأت تتبنى مواقف سياسية وتدفع بسياسات حكومية مؤيدة للدولة الداعمة لها وهي ايران. كما اصبح لها دور في السيطرة على بعض الموارد في المناطق المحررة والمسيطرة عليها، فضلا عن السيطرة على بعض المنافذ الحدودية مع ايران بالتشارك مع جهات حزبية. الامر الذي ارسل رسالة الى الرأي العام والجمهور ان تلك الفصائل كانت تهدف الى تحقيق غايات سياسية ضيقة ومنافع اقتصادية بعيدا عن المصلحة الوطنية.

• التطور الابرز في الهزات التي اصابت كبد شرعية تلك الفصائل والقبول الاجتماعي بها هو مواقفها الايديولوجية المساندة لايران والتي ترجمت الى مواقف سياسية. فمع احتجاجات تشرين الاول 2019، دخلت البلاد في مرحلة جديدة، كما ان تلك الاحتجاجات مثلت عامل تهديد وجودي لتلك الفصائل والنفوذ الايراني في العراق. اذ ارتفعت الاصوات المنددة بالنفوذ الايراني والرافضة له حتى في المحافظات الشيعية الابرز كربلاء والنجف وجرى حرق مقرات البعثات الدبلوماسية الايرانية مرتين في كربلاء وثلاث مرات في النجف (مركز الشيعة والمرجعيات الدينية الشيعة بما فيها السيد السيستاني)، فضلا عن بغداد وباقي المحافظات في وسط وجنوب العراق ذات الاغلبية الشيعية. الامر الذي دفع الفصائل الموالية لايران الى التصدي بالقوة المسلحة للحركة الاحتجاجية ونتج عن ذلك اكثر من 570 قتيل وآلاف الجرحى وتعرض نسبة كبيرة من الجرحى لإعاقة دائميه.   كما تكررت مشاهد الخطف ضد الناشطين والمحتجين والاعلاميين، فضلا عن مقتل عدد من الاعلاميين. ورافق ذلك تصريحات ومواقف اعلامية ساهمت في التحريض ضد المتظاهرين وكيل الاتهامات ضدهم.  

• المواقف التي ابدتها الفصائل التابعة لايران عقب مقتل الجنرال قاسم سليماني قائد قوة القدس الايرانية، وابو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في مطار بغداد مطلع كانون الثاني/ 2020. وهي مواقف رفضت بشدة عملية الاغتيال وادانتها بأشد العبارات وكانت ذات موقف متشدد على عكس حالة الاستنكار لدى بعض "الاحزاب الشيعية" والفعاليات والمرجعيات الدينية وخطب الجمعة التي وصفت الضربة كإعتداء على العراق. واصدرت تهديدات للقوات الاميركية عقب العملية. الا ان هذه الفصائل ذاتها لم تبدي اعتراضها على الضربات الصاروخية الايرانية التي طالت قاعدة عين الاسد العسكرية العراقية. وهذه الاشكالية جعلتها في حرج كبير امام الراي العام العراقي وكشف للداخل ان تلك الفصائل تسير خلف مرجعياتها الدينية والسياسية المتمثلة بمرجعية علي خامنائي ولا تؤمن بنظام الدولة في العراق. 

كل هذه العوامل والتطورات افقدت الفصائل الولائية التابعة لولاية الفقيه في ايران شرعيتها ومن ثم تهاوي القبول الاجتماعي بها، الامر الذي تسبب في حالة من الامتعاض وترددت المطالبات عبر فعاليات ثقافية واجتماعية وسياسية من مرجعية السيد علي السيستاني لإعادة النظر بالحشد الشعبي. وبالرغم من ذلك الا انها لم تؤثر في موقف المرجعية بشكل كبير الا بعد ان تولت الفصائل التابعة لايران تكليف قيادي في حزب الله (عبد العزيز ابو فدك المحمداوي) الموالي لولاية الفقية والمصنف كمنظمة ارهابية لدى أكثر من 100 دولة حول العالم، مسؤولية عمليات الحشد واستخباراته. الامر الذي يجعل الحشد برمته في خدمة الاهداف والاجندات الايرانية. وهذا ما صرح به أكثر من مسؤول ايراني. وهذا ما يشكل تصعيد في صراع المرجعيات الدينية وهي مرجعية علي خامنائي المرشد الاعلى للثورة الاسلامية في ايران (نظرية ولاية الفقيه المطلقة في الحكم) من جهة، ومرجعية علي السيستاني في النجف ( نظرية المدرسة الدستورية في الحكم) والذي لا يعتقد بولاية الفقية كنظرية للحكم من جهة اخرى.

كما انه بعد العقوبات الاميركية التي فرضتها واشنطن بحق قيادات مليشياوية داخل العراق وفصائل مسلحة موالية لايران ضمن هيئة الحشد الشعبي، ولما تتمتع به فصائل العتبات الدينية من الشرعية الاجتماعية والدينية (امتثالها لفتوى الجهاد الكفائي) خاصة في ظل عدم تسجيل جرائم أو انتهاكات مرتبطة بها، والاحترام الذي يكنه كثير من العراقيين لها باعتبارها "صاحبة قرار عراقي وتمتثل لأوامر عراقية، وبوصفها ممثلة عن فتوى الجهاد الكفائي لمرجعية النجف. كل ذلك دفع الى مرجعية النجف الى خيار فصل الفصائل والألوية التابعة لها عن هيئة الحشد الشعبي وربطها بالقائد العام للقوات المسلحة. 

ووفق المعلومات، جاء حراك هيثم الزيدي قائد فرقة العباس القتالية لفصل الالوية التابعة للعتبات عن هيئة الحشد الشعبي بمباركة النجف ورعايتها، فـالمرجعية الدينية في النجف، الأب الروحي وصاحبة فتوى الجهاد الكفائي، والتي استغلتها القوى الشيعية الموالية لايران وشكلت على أثرها الحشد الشعبي، ترفض قطعاً صيغة الحشد الحاليّة وسيطرة جناح على آخر، أي سطوة جناح اتّباع ولاية الفقيه على الفصائل التابعة لمرجعية النجف او ما يسمى (الحشد المرجعي). 

ولذلك تصدرت المشهد أزمة لا تقلّ بتداعياتها عن ازمة تشكيل الحكومة وقتها، هي انفصال ألوية العتبات المحسوبة على مرجعية السيد علي السيستاني عن هيئة الحشد الشعبي، وارتباطها برئيس الوزراء مباشرة. وبعد ذلك القرار، زار زعيم تحالف الفتح هادي العامري، محافظة كربلاء، والتقى وكيلَي المرجعية، عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي، لحل الأزمة المستجدّة، ومنعاً لتفكيك الحشد بادئ الأمر، وتذويبه لاحقاً بين رئاسة الوزراء ووزارتي الداخلية والدفاع  .

تخوف الفصائل التابعة لإيران من انفصالها عن هيئة الحشد الشعبي وارتباطها بالقائد العام للقوات المسلحة، يأتي لأسباب هي: 

- هذا الانفصال سيكرس خطاب حشد الولاية وحشد المرجعية، وهذا ما كانت ترفضه طهران بشدّة، عدا قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. لذلك، يحذّر كثيرون من تحوّل هيئة الحشد الشعبي إلى حالة شبيهة بـالحرس الثوري في إيران.   

- ثمة من يحذّر من العجز عن رأب الصدع الحالي، ومن تمسّك قوات العتبات ببقائها بعيداً من الهيئة ولحاق فرق وفصائل أخرى بها ولاسيما وأنها رحبت في بيانها بانضمام فصائل اخرى لها. 

- تمسك الفصائل التابعة للعتبات الدينية بقرارها يعني تلقائيّاً عزل الفصائل الموالية لايران في خانة واحدة وتصبح أكثر وضوحا وهذا يعني تلقائيا إدراجها على لائحة العقوبات الأميركيّة، وهو ما قد يفرض على الدولة العراقية إعادة النظر في جدوى المؤسسة، وإطلاق حديث تذويبها بين وزارتي الداخليّة والدفاع.

- تدرك الفصائل الموالية لأيران بأن انفصال القوات التابعة للعتبات الدينية ومرجعية النجف عنا هو بمثابة سحب للغطاء الشرعي والديني الذي تحركت في ظله خلال الفترة الماضية ولاسيما عقب الهزيمة العسكرية لداعش في كانون الاول العام2017. كما تخشى تخلي فصائل ضمنها وانضمامها الى قوات الحشد الشعبي التابعة للعتبات الدينية او تتبع القائد العام للقوات المسلحة مباشرة في المستقبل لأسباب قد تتعلق بالنزاع على المكاسب، او المناصب داخل الهيئة او غيرها، الامر الذي يعني تزايد عزلها، ويعزز تبعيتها لولاية الفقيه في إيران.

- خلال القتال ضد تنظيم داعش الارهابي، والهزيمة العسكرية للتنظيم وبعدها، اكتسبت قوات هيئة الحشد الشعبي شرعية انجاز – اي ان تستمر قوات الحشد الشعبي بمهامها وعملياتها ووجودها في المناطق المحررة حتى بعد هزيمة داعش -لدى الراي العام العراقي عدا اقليم كردستان، باعتبارها سندا للقوات الامنية العراقية. وبالنظر للدور الذي اضطلعت به القوات التابعة للعتبات الدينية وامتثالها لأوامر وزارة الدفاع وفرقها العسكرية وعدم اتهامها بالحاق الضرر ببعض سكان ومنشآت المناطق المحررة، فأنها ساهمت بشكل كبير في تحصيل تلك الشرعية. وبالتالي انفصال القوات التابعة لمرجعية النجف يعني فقدان الفصائل الموالية لايران لتلك الشرعية ويحول القبول الماضي بها الى حالة من الرفض العام لها ويعرضها للانكشاف ولاسيما بعد انكشاف قتال بعضها في سوريا الى جانب نظام الاسد، واستحواذ بعضها على موارد اقتصادية كالسكراب والنفط الاسود في جنوب الموصل.

سياسيا، اتضح بشكل جلي مديات الانقسام بين القوى السياسية الشيعية الرئيسة (سائرون، الفتح والتيارات المنضوية تحتها مثل تيار السند الوطني بقيادة احمد الاسدي وكتلة دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي، وتيار الحكمة، وكتلة النصر) حول منصب رئيس مجلس الوزراء في المرحلة الانتقالية بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي في تشرين الثاني من عام 2019. واستمر الخلاف لحين تشكيل اللجنة السباعية بين الاحزاب والكتل الشيعية والتي كلفت باختيار مرشح يقدم الى رئيس الجمهورية يحصل على توافق القوى الشيعية. ولكن فشلت اللجنة السباعية في ذلك، مما دفع رئيس الجمهورية الى تكليف السيد عدنان الزرفي، الامر الذي اغضب القوى الشيعية، وضغطت بأتجاه سحب الزرفي لترشيحه. وفعلا سحب الزرفي ترشيحه وسط خلافات أكثر عمقا بين الكتل الشيعية ذاتها. وبسبب من حالة انغلاق الافق حول تشكيل الحكومة وجسامة التحديات الناجمة عن تفشي جائحة كوفيد-19، وانخفاض الايرادات النفطية سبب الانخفاض الحاد في اسعاره، اضطرت تلك القوى الى التوافق على السيد مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة في وقت كانت بعض الفصائل المسلحة تتهمه بوضوح بالاضطلاع في عملية اغتيال قاسم سليماني والمهندس في بغداد في كانون الاول الماضي. 

عرض السيد الكاظمي برنامجه الحكومي والذي أكد على نقاط اساسية وهي اجراء انتخابات مبكرة، وحصر السلاح بيد الدولة وفرض هيبة الدولة، وعبور الازمة المالية الخانقة. الا انه لم يؤكد بشكل كبير على ملف انسحاب القوات الاجنبية والذي تطلبه معظم القوى الشيعية التي صوتت داخل مجلس النواب على التوصية للحكومة بإخراج تلك القوات. هذا الامر، فضلا عن العملية العسكرية السريعة التي حدثت في جنوب بغداد واعتقال خلية كانت تخطط لاستهداف المنطقة الخضراء وسط بغداد والتي تضم مقار حكومية ودبلوماسية، ومطار بغداد الدولي، جميعها زادت من امتعاض ما تسمى بـ (فصائل المقاومة) – التي تمتلك تمثيلا في مجلس النواب-من حكومة الكاظمي. وهذا الرفض قوبل بتأييد من قبل تيارات كتيار الحكمة الوطني بزعامة عمار الحكيم والذي أعلن عن تشكيل تحالف عراقيون ليكون كتلة نيابية داعمة للحكومة. ويبدوا ان ما تسرب من حديث مصطفى الكاظمي للجانب الايراني اثناء زيارة وزير الخارجية الايراني جواد ظريف الى بغداد، وزيارة الكاظمي الى طهران، وتأكيده على مصالح العراق، ومن دون التدخل بشؤونه الداخلية، والطلب من الجانب الايراني بالكف عن دعم مليشيات داخل العراق، قد اثار غضب فصائل مسلحة واحزاب موالية لايران بمقابل رضا وقبول أطراف شيعية اخرى.

اجراءات الحكومة بالسيطرة على المنافذ الحدودية حرم الكثير من الفصائل المسلحة من مواردها، والتغيير في الكثير من المناصب المهمة وابعاد المنتمين للأحزاب، شكل مؤشر خطر بالنسبة للكثير من الفصائل المسلحة والاحزاب التي كانت مسيطرة على مفاصل مهمة في هيكلية الدولة.

ومتوقع ان تستمر حكومة مصطفى الكاظمي في نهجها المتضمن فرض هيبة الدولة وتحجيم نفوذ الجماعات المسلحة. فهذا هو الاساس لأي عملية معالجة عملية للواقع الامني والاقتصادي المتردي في البلاد. وفي ظل تحديات جائحة كورونا كوفيد-19، وانخفاض اسعار النفط (المورد الرئيس لإيرادات الموازنة)، لا سبيل امام الحكومة الا السيطرة على كامل اقليم الدولة وبالشكل الذي يسهم بتعزيز الايرادات غير النفطية، ويساعد في توفير الاموال اللازمة لديمومة دفع الرواتب والمعاشات، وتوقفي التخصيص اللازم لمواجهة الجائحة.

اخيرا، ينبغي على الحكومة الاستمرار في نهجها وتعزيز قدرات الدولة وتوسيع مساحة سيطرتها على اقليمها. ففي ظل الجماعات المسلحة وتنامي قوتها وتأثيرها السياسي والدعائي، تبرز الحاجة الى ضرورة اعادة هيكلة الاجهزة الامنية عموديا وافقيا وفي مقدمتها هيئة الحشد الشعبي واخضاعه الى السياقات والانظمة العسكرية والإدارية والمالية النافذة والمعتمدة لدى الاجهزة الامنية والعسكرية الاخرى في البلاد.

الخلاصة:

بعد الجهود الكبيرة للدعاية الايرانية (ايران الثورة والبربغندا) لتسويق استراتيجية الحرس الثوري في عد الحشد الشعبي في العراق على انه تابع وهو ما اثبتته القوى اللا دولتية في الحشد الشعبي، شعرت مرجعية النجف والمتمثلة بالسيد السيستاني ان ذلك يشكل خطرا على مستقبل نظام الدولة في العراق، وان ذلك تهديد على نظريتها في الحكم وهي نظرية الحكم (المدرسة الدستورية) والتي تقابل في قوتها نظرية ولاية الفقيه في الحكم، ارادت مرجعية السيد السيستاني ان توجه ضربة قوية لمصاديق نظرية ولاية الفقيه في العراق (الفصائل التابعة لايران) وسحب الغطاء الشرعي عنها واخراجها بمظهر القوى غير الوطنية والتي تعمل جاهدة لتنفيذ اجندة ايران الثورة المضادة لأعدائها على الساحة العراقية. وبذات الوقت المحافظة على تشكيل الحشد الشعبي الذي يأتمر بأمرتها ويكون ولائه للعراق فقط، ليستمر في مساندة القوات الامنية ولاسيما مع استمرار التهديدات الارهابية، وبالشكل الذي يجنب قادة القوات التابعة لها العقوبات التي فرضت على بعض قادة الفصائل الموالية لايران او الفصائل في المستقبل، ويجنب منشآتها الضربات العسكرية الاميركية في المستقبل بعد استهداف بعضها كما حصــــــــل مع مــــــــــــطار كربلاء الــــــــدولي.

التعليقات