يظن السياسيون الشيعة المتسيدين للمشهد في العراق منذ عام 2003 الى الوقت الحاضر أنهم قادرون على الاستمرار بلعبتهم السياسية الفاشلة التي اعتادوا عليها الى ما لانهاية، لكنهم قريبا سيدركون انهم واهمون للغاية
شهدت نهاية العام الماضي، ومطلع العام الحالي، سلسلة احداث متسارعة، وكبيرة، وضعت الشرق الأوسط على حافة الهاوية؛ خشية اندلاع حرب شاملة جديدة في المنطقة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الامريكية. لكن ظروف الازمة الصحية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا-في كلا البلدين-هدأت الوضع في الوقت الحاضر، الا أن ذلك لا يعدو ان يكون مجرد وقت مستقطع في سلسلة طويلة من الصراع سيتحتم بعدها التصعيد لتصل الامور الى نهاية ما، سواء سلما أم حربا.
ان ما جرى ويجري، وما يمكن حدوثه مستقبلا ربما أربك حسابات بعض المتابعين؛ نتيجة غفلتهم عن رؤية الصورة الشاملة للأوضاع في الشرق الأوسط، فالمنطقة منذ مطلع هذه السنة شهدت تغييرا في قواعد اللعب بين الكبار، وهناك رغبة جدية لحسم القضايا الرئيسة العالقة بينهم. وتدرك جميع الأطراف هذه الحقيقة، لذا تطور مواقفها، وتحرص على تغيير قواعدها، استعدادا للمرحلة القادمة، كما تمارس عملية شد الحبال فيما بينها، مستخدمة أوراق الضغط لديها؛ لتظهر لبعضها البعض مقدار ما تستطيع فعله إذا ما تم تجاهل مطالبها. ويبدو كل طرف عارفا ماذا يريد تماما من الطرف الاخر. وعليه، تعد سياسة حافة الهاوية وتخطي بعض الخطوط الحمر التي شهدناها خلال المدة القريبة السابقة بين واشنطن وطهران معلما بارزا من معالم هذه المرحلة الدقيقة في حساباتها الى اقصى حد.
في ظل شرق أوسط متغير، وقواعد للعب جديدة بين لاعبيه الكبار، بدا البيت السياسي الشيعي في العراق في أسوء حالاته؛ كونه يعيش مأزقا كبيرا للغاية، فالسياسي الشيعي لم يستوعب بما فيه الكفاية التغيير الحاصل، ولا زال يظن، او يريد ان يوهم نفسه بأن كل شيء في المنطقة كما كان في السابق، منكرا، او متغافلا عن واقع كونه سمح –بشكل ما-لنفسه ان يصير جزء من أوراق ضغط الاخرين، كما سمح لبلاده ان تصبح ساحة لتصفية حساباتهم.
فضلا على عقلية الانكار، او التغافل والايهام التي يعاني منها الكثير من القادة الشيعة، تجد ما يزيد الطين بلة هو تشرذم قرارهم السياسي بشكل مخزي، وانقسام مواقفهم بصورة حادة عند التعامل مع القضايا الرئيسة لبلدهم على المستويين: المحلي والدولي. لقد ظهر هذا الامر جليا في تعاملهم مع: ملف الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت منذ الأول من أكتوبر-تشرين الأول 2019، وملف اخراج القوات الأجنبية من العراق، وملف تشكيل الحكومة المؤقتة للسيد محمد توفيق علاوي التي فشل في الحصول على توافق سياسي لتمريرها، ويتكرر الامر اليوم مع المكلف الجديد السيد عدنان الزرفي، وغيرها من الملفات.
هذا الواقع المأزوم ينذر بأن التشرذم والانقسام السياسي داخل البيت الشيعي العراقي لن يتوقف، بل على العكس، سيزداد مستقبلا عند تشكيل أي حكومة عراقية تأخذ على عاتقها تحمل مسؤولية الملفات الشائكة والمعقدة التي ترتبط بسيادة الدولة وحقوق مواطنيها كملفات: محاربة الفساد، وفرض سيادة القانون على انتشار السلاح والتنظيمات المسلحة الخارجة عن سيطرة الحكومة، ومحاسبة قتلة المتظاهرين السلميين، والمسؤولين عن سقوط المدن العراقية بيد التنظيمات الإرهابية عام 2014، والعلاقة بين المركز والاقليم، وعلاقات العراق الإقليمية والدولية، وغيرها من الملفات الشائكة والمعقدة.
ان معظم الانقسام والصراع بين القوى الشيعية الرئيسة في العراق ناجم عن: اختلاف ولاءاتها الخارجية، ورغبتها المحمومة في كسب المزيد من السلطة والنفوذ، وغياب القيادة الاستثنائية القادرة على تقريب المواقف وفرض الحلول، فضلا على اختلاف منطلقاتها الفكرية والعقائدية، وفوقية الكثير منها وانعدام احساسها وادراكها بحاجات شعبها وتحولات بيئتها: المحلية والاقليمية، وربما –أيضا- لتورط الكثير من قياداتها بملفات وقضايا يحاسب عليها القانون، فتكون مصلحتها مقترنة باستمرار حالة الفوضى وغياب سلطة انفاذ القانون، لذا تعمل على عرقلة مشروع الدولة وتشجيع مشروع اللادولة، وربما –أيضا- يرتبط هذا الانقسام، في جانب كبير منه، بعدم النضج السياسي لمعظم القيادات الشيعية الحالية، الأمر الذي منعها من العمل بعقلية رجال الدولة المحترفين.
هذا التشظي والأداء السياسي السيئ للقوى الشيعية الحق اضرارا فادحة بسمعة الشيعة في العمل السياسي، لا على مستوى العراق والعالم فحسب، بل –أيضا-على مستوى المجتمع الشيعي نفسه، اذ أخذ معظم افراده ينظر الى أداء قادته نظرة احباط وشعور بالخذلان؛ لما يعانيه هذا المجتمع من نقصد حاد في الحاجات الأساسية وخدمات البنية التحتية، وارتفاع حرج في معدلات البطالة والفقر والجريمة والعنف والتفكك الاسري وغيرها من المشاكل، على الرغم مما يتمتع به من ثروات هائلة في الموارد الطبيعية والبشرية.
ولا يمكن للقيادات الشيعية العراقية تبرير ما يعانيه مجتمعها الخاص من مشاكل جمة، وهي مشاكل سوف تتفاقم قريبا؛ نتيجة استمرار تفشي وباء كورونا، وانخفاض أسعار النفط، وارتفاع حجم المديونية العامة، والعجز الكبير في موازنة الحكومة لعام 2020 والاعوام اللاحقة، فالوعود الاصلاحية التي أطلقتها حكومتي السيد حيدر العبادي، والسيد عادل عبد المهدي ستعجز أي حكومة عن الوفاء بها، وهذا ينذر بأيام صعبة للغاية تنتظر الوزارة القادمة في حال تشكيلها، بل ربما سيكون صيف هذا العام ساخن سياسيا للغاية، واكثر عصفا مما شهدته الأعوام السابقة بكثير.
ربما يظن السياسيون الشيعة المتسيدين للمشهد في العراق منذ عام 2003 الى الوقت الحاضر أنهم قادرون على الاستمرار بلعبتهم السياسية الفاشلة التي اعتادوا عليها الى ما لانهاية، لكنهم قريبا سيدركون انهم واهمون للغاية عندما يتبين لهم حجم التغيير الذي حصل في المنطقة، كما سيبدو لهم حجم المخاطر والتهديدات التي تنتظرهم والتي سيفشلون قطعا في التعامل معها؛ لأنهم فشلوا في التعامل مع مخاطر وتهديدات اقل منها بكثير، وفي ظل ظروف أفضل، وسيترتب على فشلهم خسارة الكثير منهم لداعميهم الإقليميين والدوليين، عندما يحين الوقت المناسب؛ لأن هؤلاء الداعمين في النهاية لا يرغبون في العمل مع فاشلين يهددون مصالحهم. كما ستتغير خارطة التحالفات المحلية -بشكل ما-بما يضمن استمرار العملية السياسية الحالية بصورة أفضل، أو ستفتح الباب على خيارات أخرى تنسف العملية السياسية بالكامل.
صفوة القول: ما لم يعي السياسيون الشيعة، ومعهم بقية السياسيين العراقيين، على اختلاف انتماءاتهم التغيير الحاصل في بيئتهم: المحلية، والإقليمية، والدولية، ويفهموا قواعد اللعبة الجديدة؛ لتوظيفها بذكاء في حماية مصالح دولتهم العليا، فان الاشهر القادمة ستكون حبلى بأحداث جسيمة، بعضها تدار من خلف الحدود، فيما البعض الآخر هي حصيلة التخبط والانقسام الداخلي، وسيترتب عليها عواقب وخيمة للغاية، فالحماقة والجهل في هذه المرحلة الحرجة مكلفة بشكل لا يمكن تخيل تبعاته.
اضافةتعليق