الصراع على السلطة واحتجاجات الشارع

شكل حكم المحكمة الاتحادية بعد انتخابات عام 2010 حول الكتلة الاكبر تحولا بارزا ذو تداعيات متجذرة وانعكاسات اسهمت، ولازالت، في تحريف ارادة الناخبين واعادة توجيه اصواتهم باتجاهات في اغلبها طائفية. فتفسير الكتلة البرلمانية او النيابية الاكبر على انها الكتلة التي تتشكل في الجلسة الاولى للبرلمان يجعل الاطراف الرئيسة الفائزة في الانتخابات اسيرة التوافقات وتقاسم المغانم السياسية من مناصب لترغيب الاطراف الاخرى في الانضمام الى مشروع الكتلة الاكبر. اذ ما يجري اليوم هو ليس ادارة الاختلاف على كيفية تنفيذ متضمنات البرامج الانتخابية للقوائم الفائزة، كما انها ليست تفاهمات تنطوي على ادراك لاوضاع البلاد المتردية سياسيا وامنيا واقتصاديا واجتماعيا ...الخ، ولاتهدف الى تفحص تجربة السنوات السابقة بعد التغيير السياسي عام 2003 والاستفادة من دروسها لاعادة تقويم عملية بناء الدولة وتصحيحها. بل هي تفاهمات على المناصب السيادية والحقائب الوزارية، وكل من القوائم الفائزة الكبيرة تريد ان تمسك بزمام الامور وان تكون هي المانحة للمناصب عبر آلية الكتلة الاكبر. ولذلك بدأت التفاهمات تتجة نحو كتل طائفية، الامر الذي لايشير الى وجود تغيير عما حصل بعد الدورات الانتخابية الثلاث.

هذه المساومات ليس جديدة، بل انها لازمت تشكيل ادارة السلطة ومؤسساتها التشريعية والتنفذية وحتى القضائية خلال الدورات الانتخابية الثلاث السابقة ويُراد لها ان تنسحب الى نتائج انتخابات 2018. هذه المساومات والمزايدات على المناصب ماهي الا صراع على السلطة. واطراف الصراع لاتكترث لموضوعة شرعية السلطة في المؤسسة التشريعية والتنفيذية في ظل مؤشرات خطيرة تبدأ من النسبة المتدنية للمشاركة في الانتخابات، ثم عمليات التلاعب بالاصوات وصولا الى الاحتجاجات التي تشهدها مناطق وسط وجنوب العراق والدالة على الرفض المطلق للقائمين على السلطة اجمالا، وليس كما تحاول بعض القوى السياسية ووسائل الاعلام تحجيمها على انها " ثورة الجياع" واحتجاجات هدفها توفير الخدمات وان كانت المطالب الصريحة للمحتجين تتأطر بالمطالبة بتوفير فرص العمل وتوفير الخدمات من ماء وكهرباء وخدمات بلدية.

بعد عقد ونصف من التغيير السياسي، لازالت القوى السياسية بما فيها التي حصلت على اعلى الاصوات في الانتخابات الاخيرة لاتدرك خطورة الاوضاع ومآلات الفشل، رغم انها عاصرت اعنف واقسى مصداق لتراكم الفشل وهو سيطرة عصابات ارهابية على اكثر من ثلث مساحة البلاد ووصلت الى بغداد وكادت ان تدخل البلاد في نفق مظلم. وتكبد العراق على اثرها خسائر بشرية بلغت مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين وخسائر مالية تفوق الـ (160) مليار دولار، وقتال استمر لاكثر من ثلاث سنوات. 

وعدم الاكتراث وعدم الادراك هذا – وان كان غير مصرح به من قبل الجمهور بشكل واسع – هو الدافع الاكبر لخروج الاحتجاجات. فغالبية الجماهير ترى ان تبرير انشغال الدولة ومؤسساتها في مواجهة عصابات داعش الارهابية لم يعد مقبولا بعد القضاء على داعش عسكريا، وان مرحلة مابعد داعش لابد ان تشهد استعادة الانسان العراقي لكرامته، ولكن ماحصل هو العكس تماماً، وبقيت القوى السياسية تلهث وراء مصالحها في التشكيلة التشريعية والتنفيذية لمابعد الانتخابات. 

لابل ذهبت الى اكثر من ذلك حينما دعى رئيس الجمهورية خلال اجتماعه بقادة القوائم الفائزة الى التسليم بنتائج العد والفرز اليدوي لاوراق الاقتراع ايا كانت، والاسراع بتشكيل الحكومة القادمة، وكأن ذلك اجراءا واعيا يهدئ من قوة الاحتجاجات. والواقع يشير الى ان رئيس الجمهورية والقوائم الفائزة يهدفون الى استغلال مطالب المحتجين والاسراع نحو ترميم الشرعية المنقوصة للحكومة والبرلمان القادمين بعد الانتخابات التي اقل مايقال عنها انها لتمثل صوت الجماهير. ويعتقد من في السلطة ان التسليم بنتائج الانتخابات وتشكيل حكومة هي المنقذ للبلاد من احتمالات انجرار البلاد الى الفوضى. ولكن العكس هو الصحيح، فالجماهير فقدت الموثوقية بالعملية الانتخابية الاخيرة ونتائجها. وبالتالي أي من سلطات الدولة وفي مقدمتها التنفيذية (الحكومة) لن تتوافر على بيئة مناسبة لتمرير سلطتها في عموم البلاد، وستقود الى ابعاد خطيرة بدأت اولى تجلياتها في تصاعد حركة الاحتجاج وامتدادها لكافة محافظات وسط وجنوب العراق. وهذا مخالف لمنطق التصحيح وتقويم الاداء السياسي لينعكس فيما بعد ايجابا على الاداء الاقتصادي التنموي والاجتماعي والثقافي والتعليمي والتربوي... الخ.

بعد كل ذلك، يبقى السؤال هل يمكن ان نحول الازمة الراهنة الى فرصة للتصحيح؟

من الامور التي يجب التركيز عليها هي ان مطالب المحتجين - حتى وان شهدت تصعيدا في الايام السابقة – فأنها ستتوج بمطلب أصلاح النظام السياسي ليقود الى تقويم الاداء السياسي، وبالتالي لم ولن تصل الى مرحلة اسقاط النظام السياسي الذي تشكل بعد 2003، الا اذا تمادت الحكومة وباقي مؤسسات تجاهل مطالب المحتجين، فالجماهير تدرك خطورة عدم توفر البديل المناسب في هذه المرحلة. وهنا بأمكان رئيس الحكومة الشروع بخطوات حاسمة على الاقل في مواجهة الفاسدين والفساد مستفيدا من مساندة الجماهير وحالة الاحتجاجات الشعبية المتنامية المدركة لخطورة الفساد وانعكاساته السلبية على مجمل الاداء الحكومي، لاسيما وان رئيس الورزاء اعلن مرات عدة ان اجراءات مواجهة الفساد تواجه ضغوطا سياسية داخلية كبيرة جدا. هذه الفرصة الثانية بعد فرصة المظاهرات التي شهدتها البلاد خلال الاعوام 2016 و2017 والتي اضاعتها الحكومة في وقت كان بامكانها توظيف زخم الانتصار العسكري وارجاء اعلان النصر الى حين مواجهة عتاة الفاسدين والافادة من ضغط الجماهير ومساندة المرجعية الدينية. وهنا نكون ضمن نمط للاصلاح السياسي بمبادرة القائمين على السلطة وبمساندة الجمهور. وهو اسلم طريق للتغيير السياسي والاصلاح السياسي بنمطه الداخلي بعد ان خيم اليأس من اصلاح النظام بمبادرة ذاتية.

التعليقات