العدد السابع
الرجوع للعدد السابع
حفظ هذا المقال فقط
مــجلة الــــفرات
هندسة الدستور وحمايته
د.سامر مؤيد عبد
للباحث ايمر بي فلوس، ترجمة: د. سامر مؤيد عبد اللطيف
    تمتلك البشرية جمعاء نزوعا طبيعيا إلى السلطة ونزوعا مماثلا للقانون الذي  يحضى بتقدير الغالبية العظمى من الكائنات التي تشكل أهم موضوعاته. ومثلما يوجد في المركبة دواسة البنزين والفرامل -على سبيل المثال-  فان الأمر عينه يحصل في الحياة البشرية التي لا تحتاج فقط إلى الاندفاع وإنما تحتاج أيضا إلى التعقل والضبط، فهذه الحياة تتضمن الخصائص والنوازع كلها، وبدونها، لا تقوم  للإنسانية قائمة. ومن هنا فان الإنسانية  لا تحتاج إلى التغيير فحسب بل والى الضبط  أيضاً.

   ولعل هذا ما يفسر طبيعة التفاعل بين السلطة والقانون، إذ لا بد من أن تكون ممارسة السلطة السياسية داخل الدولة الدستورية أكثر رسوخا وتمثيلا في التعبير عن العلاقة بين القانون والقوة. وهذا بحد ذاته ما يوجب توافر الأدوات اللازمة لهندسة الدستور وحمايته.


أولاً:  الهندسة الدستورية

   لا مراء في تلمس أهمية الهندسة الدستورية عند تنظيم الدولة، والحكومة، أو المجتمع فمن خلالها يجري تقسيم السلطات السياسية والحد منها، من أجل إضفاء الشرعية على مصدرها ومجال عملها، وأخيرا لضمان التناغم بين مسارات التغيير والنظام ضمن نسق مؤسسي ومظهر ثقافي فاعل.

   إلى جانب ذلك، تتأكد  الحاجة إلى الهندسة الدستورية لتثبيت ركائز  السلطة السياسية من حيث هي (أي الهندسة الدستورية) تأكيد صميمي  للتفاعل الوثيق  بين القانون والسلطة.
  في ضوء ذلك، ومع انتقالنا لمناقشة بعض جوانب الهندسة الدستورية وعلاقتها بالسلطة السياسية. نجد أن  السلطة السياسية بوصفها المالك الوحيد لوسائل  الإكراه الشرعي  تتطلب:

‌أ.    تنظيمها من خلال تركيزها وتوزيع المسؤوليات والمهام.

‌ب.    إضفاء الشرعية على صاحب السلطة السياسية و ممارساته.

‌ج.    تاطير تنظيم السلطة عن طريق القانون.

‌د.    تحقيق التوازن بين التغيير والنظام  داخل السلطة السياسية، وهو ما يهمنا في موضوعة هندسة الدستور وحمايته.



أ. تنظيم السلطة السياسية:

تعرف السلطة بكونها اختزال لعلاقة القوة المتواجدة ضمن حدود الطاعة والمقاومة المفوضتين. ويمكن استكشاف تلك القوة في حالة السلطة السياسية في حيازة  وسائل معينة ، هي  وسائل الإكراه التي تستخدمها عادة لفرض ولايتها على الرغم من مقاومة الآخرين لها.
وبالمثل، فإن السلطة السياسية لا تتميز بحيازة وسائل الإكراه فحسب، ولكن باحتكار استخدامه كذلك. وهذا ما يفسر أهمية تنظيم وضبط مسارها ليس في حالة مركزتها وتركيزها فحسب، بل وفي حالة  تقسيمها وتحجيمها عند توزيع قدراتها ووظائفها.

ب. إضفاء الشرعية والمشروعية على السلطة السياسية:


   لا يكفي السلطة السياسية احتكارها القوة فقط، بل تحتاج أيضا إلى شرعنة مصدرها وأهدافها. والسلطة السياسية هي شرعية طالما حققت مصالح الحكام والمحكومين على حد سواء هذا من جانب. ومن جانب أخر فان هذه السلطة تكتسب الشرعية طالما استمدت مصدرها من إرادة شعبية استحصلت من قبول عام بها، في صيغة عقد مبرم سلفا.

بالنتيجة، يجب أن تستخدم السلطة السياسية وفقا للقانون. ومن هنا  تشير الشرعية إلى مصدر السلطة، في حين يشير مفهوم المشروعية إلى طريقة ممارسة السلطة. في السابق كان يستلزم من أولئك الذين يملكون السلطة السياسية ممارستها بصورة شرعية بدلالة توافر عنصر الرضا الشعبي بها، واليوم يستلزم منهم أن يفعلوا ذلك بشكل قانوني. وبالتالي، يجب أن تكون السلطة السياسية شرعية وقانونية على حد سواء.

ج . الحد من السلطة السياسية:

  إن نزوع الإنسان الطبيعي غير المحدود للسلطة يتطلب آليات معينة للحد من استخدامها. هذا ألطرح ينطبق بشكل خاص على السلطة السياسية التي لا تتطلب الشرعية والمشروعية فقط ولكن أيضا أن يحكم تنظيمها قانون. إن تنظيم السلطة السياسية من خلال مركزتها وتركيزها وتوزيع القدرات أو المسؤوليات أصبح قيدا مهما للسلطة السياسية نفسها.

  فمن جانب، إن العلاقة بين الدستور والسلطة السياسية هي واحدة من أوضح الأمثلة على النزوع الطبيعي المتقاطع إلى السلطة والقانون الذي يميز البشر. و لهذا السبب أضحى من الضروري أن يحجم القانون نزوع السلطة السياسية ويحكم تصرفاتها  وإلا فإن كلاهما سيشكلان تهديدا للحياة البشرية.

   ولنتذكر في هذا المقام مقالة: "إذا كان البشر ملائكة ، فلن تكون الحكومة ضرورية. وإذا كانت الملائكة هي من يحكم البشر ، فلن يكون ثمة حاجة للضوابط الخارجية والداخلية لعمل الحكومة." 26
ومن جانب آخر، إن الهدف الرئيس من الدستور هو تفويض الحكومة أمر المحكومين وتنظيمها بداعي  حماية الشعب: "إن الغاية من هيكلة الحكومة هو لكي يحكم فيها رجال رجالا آخرين، بيد إن الصعوبة تكمن  في وجوب تمكين الحكومة من السيطرة على المحكومين، ومن ثم إجبارها في المرحلة التالية على ضبط نفسها. وإذا كان الاعتماد على الشعب هو، بلا شك، الوسيلة المثلى للسيطرة على الحكومة، فان التجربة قد علمت البشرية ضرورة الاحتياطات المساعدة. "

د. التغيير والنظام في السلطة السياسية:

  أخيرا، وكما لاحظنا، أن الهندسة الدستورية ليست مهتمة فقط في الحفاظ على الضبط الاجتماعي فحسب، ولكن في تشجيع التغيير الاجتماعي كذلك. فالضبط الاجتماعي مرتبط ارتباطا وثيقا بالأمن واليقين. ولكن عندما يكون حفظ هذه على حساب المساواة والعدالة، والحرية، يفرض التغير الاجتماعي، لوضع نهاية  لعدم المساواة، والظلم، والقهر. كذلك، فإننا نجد قوى مختلفة داخل الدولة والحكومة والمجتمع، بعضها محافظة ترغب في الإبقاء على الوضع الراهن، وأخرى ترغب في إلا صلاح، وتشجع التغيير والتقدم.

ويعبر (ريكاسينس سيجس) عن هذه الحقيقة  ببلاغة  بالقول: "إذا كان القانون يسعى -من جانب-  لتحقيق الطمأنينة والأمن والثقة، فانه من جانب آخر يسعى  لتلبية الاحتياجات الناشئة عن التغيرات الاجتماعية والرغبة في التقدم. لذا، وفي الوقت الذي يظهر فيه القانون مستقرا  فان هذا لا يعني انه غير متطور، بل على العكس، لا بد من التغيير المتناغم مع الاحتياجات الاجتماعية والظروف المستجدة. إن كمال الأمن يعني جمود المجتمع التام. والتغيير المستمر، من دون ضبط عناصره ونظمه قد يجعل الحياة الاجتماعية مستحيلة ".


ثانيا: الحماية الدستورية

   الهندسة الدستورية بحد ذاتها لا تكفي إذا لم تستكمل بتوفير الحماية لنصوصه، فلا يتحقق الغرض من  تصميم الترتيبات المؤسسية إذا تركت لمتاهات الفرصة. وإذا ما كان القلق حول ضرورة تحجيم السلطة غائبا في العصور السالفة، فان منهجة المفاهيم والأفكار المتعلقة بالأطر العامة لآليات الحماية الدستورية التي أنشئت تدريجيا في صراع مستمر ودائم لم تبدأ إلا في الثلاثينيات من القرن المنصرم.

وقد بدا اختبار فاعلية الصيغ المختلفة لحماية الدستور وصيانته يأخذ حيزه من الاهتمام على يد (كارل شميت) في كتابه "حامي الدستور"  وكذلك (هانز كيلسن)الذي رد عليه  بصراحة في كتابه "من الذي ينبغي أن يكون حامي الدستور؟". ومنذ ذلك الحين أضحى تطور فكرة الدفاع عن الدستور -في المجالات الفقهية والتشريعية والقضائية- هائلا. وفي الطريق ذاته تقف اليوم مفاهيم العدالة الدستورية أو القضائية ،والضوابط والضمانات الدستورية على أرضية مشتركة. ومع ذلك  فان المنهجة الصارمة للحماية الدستورية والآليات التي أنشئت لحماية قواعده لم تزل غير مكتملة.
   تتضمن الحماية الدستورية جميع الأدوات  الهيكلية والإجرائية التي تم وضعها ليس فقط للحفاظ على النظام الدستوري ولكن أيضا لمنع انتهاكه، والحد من الاستخفاف به، وتحقيق التقدم المنشود في أحكامه.

وينبغي أن ينظر إلى ما تقدم من زاويتين: وجهة نظر الدستور الرسمي الملازمة لإدراك هدف التكيف التدريجي مع الواقع الاجتماعي والسياسي المتغير، وكذلك من وجهة النظر العملية  للدستور الواقعي، من أجل رسم مسار تحوله (أي الدستور)، وفقا للمبادئ المبرمجة والقواعد المنصوص عليها في طياته. ووفقا لهذا المنظور فان الحماية الحقيقة للدستور هي التي تستطيع تجسير الفجوة ما بين الدستور الرسمي والدستور الواقعي.

   والواقع إن الدستور على الصعيدين الرسمي والواقعي ينبغي أن يتميز بعنصر التطور  لمواكبة التغييرات في هذه الحقبة من التغيرات السريعة والمتلاحقة. لهذا السبب، فان عملية حماية الدستور ينبغي أن تحافظ على المبادئ والقواعد الأساسية، فضلا عن تطورها واستيعابها للواقع، للحؤول دون تحول الوثيقة المكتوبة إلى مجرد صياغة شكلية مفرغة من جدواها. ولذلك، ترد ضرورة حماية لائحة ذات درجة معقولة من الكفاءة والتبصر ،طالما لن يغدو ممكنا أو مرغوبا فيه محاولة حماية مجرد مجموعة من الصياغات الجوفاء المنمقة.

   أن المفهوم العام للحماية الدستورية، والذي يمكن تمييزه بدلالة الضمانات الدستورية ضمن المدى الواسع، يمكن تقسيمه على صنفين أساسيين يرتبطان بشدة في الممارسة العملية. الأول وهو المعروف باسم  "أدوات الحماية الدستورية"، ولكننا سنستخدم  مصطلح "الضمانات الهيكلية"، وذلك لأنها تتوافق بالتحديد مع المحافظة على بنية الدستور من خلال الحماية الذاتية لقواعده. والثاني يسمى بـ "الضمانات الدستورية"، بالمعنى الضيق للكلمة، ويشار بها  إلى  "الضمانات الإجرائية" التي تسمح لتصحيح أو إعادة البناء الإجرائي للمنظومة الدستورية عندما يتم تجاهلها أو انتهاك قواعدها.

‌أ.    الضمانات الهيكيلة:
     تشتمل عملية حماية الدستور على مزيج  من عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وقضائية  يتم تضمينها في وثائق دستورية، بعد أن يتم صكها في ضوء مبادئ وقواعد عامة. كل هذا لتحقيق هدف رئيس مفاده تحجيم السلطة وحمل مالكيها على الامتثال للمبادئ التوجيهية المنصوص عليها في الدستور، سواء عند ممارسة سلطاتهم أو من خلال احترامهم  لحقوق المحكومين. وبالتالي، فإن هذه الآليات تهدف إلى تحقيق الانسجام والتوازن والتقيد بحدود الوظيفة الرسمية للسلطة العامة.

‌ب.    الضمانات الإجرائية
  ينبغي أن لا تفهم الضمانات الدستورية ولا تحدد بخصوصية حقوق الإنسان المعترف بها دستوريا، بالمعنى الدقيق للكلمة، والمصنفة ضمن إطار "الحقوق الفردية" أو حتى "الضمانات اجتماعية"، بل ينبغي أن  تحدد ضمن المدى الواسع لجميع الوسائل القانونية والقضائية  ذات الطابع الإجرائي السائد والمستخدمة من أجل إعادة التكامل للنظام الدستوري عندما يتم التنكر له أو انتهاكه من قبل أجهزة السلطة ذاتها.