العدد السابع
الرجوع للعدد السابع
حفظ هذا المقال فقط
مــجلة الــــفرات
النظرية الثقافية في مشروع الإمام الشيرازي الحضاري
راجي أنور هيفا
باحث في مركز الفرات - تدريسي
   عندما نطرح مسألة الثقافة على بساط البحث، فإننا نطرح بذلك مسألة تطوير وإيجاد الهوية الفكرية لمساحة وجودنا في هذا العالم، فالمرء بطبيعته وفطرته، يحاول أن يفكّك الرموز المحيطة به منذ مرحلة طفولته المبكّرة، ولا ينفكّ هذا المرء، وهو طفلٌ، يستكشف كل مفردة من المفردات التي تصادفه في كل لحظة من لحظات وجوده، وبالطبع، فإن هذه الحالة ليست حالة فردية يعيشها بعض الأفراد دون البعض الآخر، وإنما هي سمة من سمات الذات الإنسانية في كل زمان ومكان..

   مما لا شكّ فيه أن غالبية العلوم الاجتماعية تتمحور حول نقطتين هامتين: النقطة الأولى أن الإنسان كائن اجتماعي يميل إلى الاختلاط والاتصال بالآخرين، والنقطة الثانية هي أن الناس في المجتمع يميلون إلى التشابه فيما يصدر عنهم من سلوك في المواقف المختلفة، أو بعبارة أكثر وضوحاً، الناس يميلون إلى توحيد أنماطهم السلوكية قدر الإمكان داخل مجتمعاتهم، وإن كان هذا التوحيد يبدو ضرباً من المستحيل.

  وقد اعتنى الباحثون والمفكرون في حقل البحوث العلمية الاجتماعية بدراسة تلك التشابهات في السلوك الإنساني وفي الحياة الاجتماعية، ووجدوا أن هناك تشابهاً وتقارباً كبيراً بين مفهوميّ المجتمع والثقافة، فالعلاقة بارزة وبشكل واضح بين المفهومين من الناحيتين النظرية والواقعية، فالمجتمع هو الأساس الذي يستوعب المدد الثقافي، وهو الوعاء الذي يحتوي العصارة الثقافية لأبنائه، فالثقافة تعتمد على وجود المجتمع في الوقت الذي تكون فيه هي الوسيلة المثلى للنهوض بذلك المجتمع الذي قام بتأطيرها وحفظها لأبنائه المقيمين فيه. وبالرغم من أن علماء الاجتماع والأنثربولوجيا يرون أن هناك نقاط تشابه كثيرة بين ثقافات الشعوب المختلفة، إلا أن المشكلة التي لا تزال قائمة حتى اليوم تتمثّل بالسؤال التالي: ما هي الثقافة، وما هو التعريف الأمثل لها؟.

  لقد ذهب فريق من الباحثين إلى أن الثقافة عبارة عن اندماج المعارف والمعتقدات والأخلاق والأعراف والفنون والقوانين مع بعضها البعض، وقد تبنّى (إدوارد تايلور) هذه النظرية عن الثقافة، وقال في كتابه (الثقافة البدائية) معرّفاً إياها، أنها: (كل مركّب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع)(1).

  إذا، فالثقافة مجموعة أفكار وقيم ومعتقدات يؤمن بها مجتمع بأكمله، وبقدر معرفتك بهذه المنظومة الفكرية المتداخلة في عناصرها ومقوّماتها يتّضح حجم ثقافتك، لأن الإنسان في نهاية المطاف عبارة عن عنصر منفعل وفاعل في مجتمعه، ولا يمكن النظر إليه إلا على أساس أنه مفردة من مفردات المجتمع الذي يحتويه ويغذّيه بأعرافه وتقاليده، وجملة تركيبة أفراده الفكرية العامة، ولذلك فمن الطبيعي أن تخلق البيئة الثقافية جوّاً من الارتباط والوحدة بين الإنسان والحياة.

   وانطلاقاً من هذه الحقيقة، ندرك مدى أهمية تعزيز الجانب الثقافي في حياة الفرد، بل ربما يرى بعض المفكرين والباحثين أن الطريق إلى الحضارة الحقيقية لا يمرّ إلا عبر بوابة الثقافة الإنسانية الشاملة، تلك الثقافة التي تتجاوز حدود الجغرافية وتتخطى حدود العِرق واللون والدين، فالخطوط العريضة للثقافة الإنسانية متشابهة إلى حدّ التطابق أحياناً، فالإنسان الذي يعيش في متاهات إفريقيا لا يقلّ ذكاءً عن الإنسان الذي يقطن أوروبا، وبالتالي فإن دراسة أحوال هؤلاء الأقوام في مجاهل إفريقيا تبين لنا عن كثب أنهم يؤمنون بنقاط عديدة تشبه تلك النقاط التي يؤمن بها إنسان باريس أو نيويورك، وهذا يعني أن هناك حلقة وصل ثقافية قوية تربط بين هذين المجتمعين أو هاتين الحضارتين.

   وحتى لا نطيل الحديث عن هذه النقطة، سنكتفي بذكر نقطة واحدة هامة عن عقيدة الشعب الإفريقي، الذي يقطن إفريقيا الوسطى، بالله، وعن علاقة الله بالإنسان من وجهة نظرهم.

   ذكر الأستاذ (هانز بري) في كتابه (إفريقيا كما يراها الدارسون من الزنوج الأمريكيين) أن هناك وحدة حضارية تشمل إفريقيا كلها، ولم يستطع هانز بري أن يثبت في كتابه وحدة الحضارة والثقافة الإفريقية فحسب، بل استطاع - ولو عن غير عمد - أن يثبت وجود روابط فكرية واعتقاديه بين إفريقيا وشقيقاتها القارات الأخرى، وينقل هانز بري عن الباحث الدكتور (دابر) (1668م) قوله في إحدى دراساته الميدانية عن إحدى الممالك التي كانت تسكن ساحل غانا:
  (إنهم كانوا شعباً دمث الأخلاق، يعيشون معاً في سلام وتسودهم عدالة وقوانين صالحة.. وعرفوا حق المعرفة أن هناك إلهاً فطر السماوات والأرض وهو حاكمها)(2).


وقد أكّد المبشر الأمريكي (ليتون ولسون) هذه الحقائق بقوله:

  (بين الشعوب الوثنية في ساحل غانا، وما بين الرأس الأخضر والكاميرون، يسود إيمان كامل بكائن أعلى خلق الأشياء جميعها وحفظها، ولا يشوب هذه الفكرة في أذهانهم غموض أو نقص، بل إن هذه الفكرة محفورة في طبيعتهم الأخلاقية والعقلية حتى أن الإلحاد في أية صورة من صوره هو عندهم سخف وانحراف عن الصواب لا يستحق حتى عناء الإنكار)(3)، ولا نعتقد، تبعاً لذلك، أن الإنسان الأوروبي أفضل من الإنسان الإفريقي في نظرته إلى الله وإلى مفهوم وجوده وقدرته المطلقين.

   وهكذا نرى أن الثقافة الاجتماعية هي اختراع بشري قام الإنسان بابتكاره من أجل فهم ما يحيط به من رموز وألغاز، ومن أجل أن يعي حقيقة وجوده كإنسان له دور في دفع عجلة الحياة للأمام، فالثقافة إذاً، جدولٌ من التداعيات الفكرية الواعية والناضجة التي تجعل المرء يستكشف خبايا نفسه مثلما يستكشف خبايا محيطه حتى يصل في نهاية رحلته إلى دائرة الرؤية العقلانية لحقيقة الثقافة الإنسانية التي ينطبق عليها قول الفيلسوف الهندي (رادها كريشنان) الذي عبّر عن وجهة نظره تجاه علاقة الثقافة بالإنسان بقوله:

  (إذا ما تعالينا عن مظاهر الاختلاف بين المعتقدات والثقافات، فسنجدها جميعاً واحدة، لأن الإنسانية في جوهرها واحدة، وإن تنوّعت وتعدّدت ثقافاتها)(4).

   وبعد هذه المقدمة الموجزة عن مفهوم الثقافة وعلاقتها بقطبيها المتكاملين: المجتمع والإنسان، لابد لنا من الوقوف عند النظرية الثقافية التي رسم معالمها العامة أحد أبرز المفكرين من مراجع الدين في العصر الحديث، وعندما نتحدث هنا عن نظرية الثقافة من وجهة نظر إسلامية، فإننا نقوم بهذا العمل من أجل تحليل وتوضيح بعض النقاط التي طرحها الإسلام الحنيف بشأن التعايش والتفاعل مع الواقع الاجتماعي بما يحوي من أفكار ومعتقدات كثيرة ومتداخلة.

   وهنا نقف مع مفكّر ومرجع ديني كبير غادرنا منذ فترة زمنية قصيرة في رحلة سماوية إلى جنان الخلد ودار النعيم في جوار رب جواد كريم، بعد أن ترك لنا وللأمة الإسلامية ميراثاً ثقافياً وتراثاً روحياً قلّ نظيره عند الجهابذة والأفذاذ من علماء المسلمين.

  ويكفي أن نقول أن الإمام الراحل سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) قد ترك لنا من مؤلفاته القيمة أكثر من (1200) عنواناً لكتاب وكرّاس وموسوعة في مختلف أنواع العلوم والمعارف الدينية والدنيوية. وقد رفع سماحته راية الدعوة إلى (الشورى) و(الحرية) و(التعددية) و(الأخوّة الإسلامية) و(الأمة الواحدة) و(السلم واللاعنف).

  وكان سماحته قد أولى القضايا المستحدثة في الفقه الإسلامي أهمية كبرى، كما وأنه كتب عن مستحدثات السياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق والقانون والبيئة والطب والأسرة والثقافة بأنواعها وأبعادها.
  ومن خلال قراءتنا لبعض مؤلفاته (رحمه الله)، نستطيع أن نلمس عنده عمق التجربة الثقافية، وأن ندرك مكانتها الحقيقية في مشروعه الحضاري الشامل.

  وقبل الخوض في مكانة النظرية الثقافية في مشروع الإمام الشيرازي الحضاري لابد لنا من الوقوف على خصائص الثقافة من وجهة نظر سماحته.
  يرى سماحته أن الثقافة التي هي -حسب تعريفه لها- (عبارة عن الدين والعلم والأخلاق والرسوم والعادات ونحوها)(5)، تتميز بخاصيتين أساسيتين، وهاتان الخاصيتان هما: التكامل والتعقّد.

   فالتكامل هو الانتقال والتحوّل إلى الأفضل بعد المرور من حالة الوجود بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل، فعملية الانتقال من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية هي الناتج الطبيعي لعملية تفاعل المرء مع المفردات المحيطة به في مجتمعه، وبالتالي فإن هذه التفاعلات ستؤدي إلى عملية تشذيب وتهذيب للمعارف والأعراف التي تعيش مع أفراد المجتمع، فالثقافة الحقيقية هي التي تخلق حضارة حقيقية تقوم على احترام الفرد وحفظ كرامة المجتمع، وأية ثقافة لا تعمل من أجل ذلك فهي ثقافة مزيّفة وغير متكاملة.

أما الخاصية الثانية التي تتميز بها الثقافة فهي التعقّد، وتنتج عملية التعقد هذه من حقيقة أن حاجات الإنسان الجسدية والنفسية كثيرة جداً، وكلما وجد الإنسان إمكانية الحصول عليها سارع في أخذها بغية تحقيق تلك الحاجات، وكنتيجة لذلك فإن الروابط تتعقّد وتتشابك أكثر فأكثر، وهذا بدوره يؤدي إلى تشعب وتعقد المسؤوليات الحضارية التي يواجهها الفرد تجاه نفسه وتجاه الآخرين المحيطين به ثم تجاه المجتمع بأكمله.

  ويرى سماحة السيد الشيرازي أن ثقافة المجتمع، على كثرة وحداتها وفروعها، تنتظم في ثقافة موحّدة هي بمنزلة الهيكل العظمي لثقافة المجتمع العامة، فكذلك الحال بالنسبة للثقافة العامة للمجتمع، فثقافة العقائد وثقافة الآداب وثقافة العلوم والفنون وحتى ثقافة الأحوال الشخصية هي عبارة عن أجزاء ووحدات ثقافية كلية تعطي المجتمع هويّته المتميزة.

  والحقيقة أن هذه النظرة التحليلية للإمام الشيرازي تتطابق كلياً مع أحدث النظريات الاجتماعية التي تدعو إلى تكامل وتآلف الثقافات الفرعية ضمن منظومة ثقافية واحدة تجمع الجهود والمحاصيل الثقافية الفردية والفرعية ضمن دائرة واحدة وهي الدائرة التي عبّر عنها الإمام الشيرازي بـ (الهيكل العظمي لثقافة المجتمع).

  ويدعونا الإمام الشيرازي (قدس سره) إلى عدم الخلط بين نوعين من الثقافة، وهما ثقافة الحرف وثقافة العنف، فالثقافة التي يريدها الإمام الشيرازي (قدس سره) للمجتمع الإسلامي هي ثقافة الحرف أولاً، فالحرف هو مبدأ الكلمة، والكلمة هي سيدة الحضارة، فعندما ندعو أبناءنا لاعتناق ثقافة الحرف، فإننا بذلك ندعوهم إلى الدخول في عالم الفكر والحضارة، لأن التاريخ يعلمنا أن الحضارات الحقيقية هي الحضارات التي كانت تقوم على احترام الفكر والروح أولاً ثم على القوة والمنعة ثانياً، وهنا بإمكاننا أن نستقدم مثالاً على كلامنا من التاريخ القريب للتأكيد على صحة نظرية الإمام الشيرازي الثقافية.
  فلو سألنا التاريخ قائلين: أي مجدٍ وأية حضارة حققها (أدولف هتلر) للأمة الألمانية بعد أن قام بغزو معظم الدول الأوروبية والعديد من الدول الأخرى بقوّة الحديد والنار؟.

  وهل استطاعت ثقافة (التفوق العرقي) أن تبني مجداً عتيداً لأبناء الأمة الألمانية، أم أنها قادتهم -تلك النظرة (الثقافية السلبية)- إلى الاندحار والدمار؟.
  لا شك أن حصادهم الثقافي القائم على سيادة العنف والسلاح كان مرّاً حيث قادهم إلى الهزيمة والدمار، وإلى إعادة حساباتهم الفكرية والعقائدية أمام تلك النتيجة الخاسرة والتي لم تكن متوقعة من قبلهم قط، والثقافة التي أفرزت شعار (ألمانيا فوق الجميع) حصدت في نهاية الحرب شعار (الجميع فوق ألمانيا).

  وأمام حقائق كهذه، نرى أن الإمام الشيرازي يعطي الأمم والشعوب الحلول الأفضل لتجنّب الحروب وويلاتها، بل نلاحظ أن الحلول التي يطرحها سماحته لنزع فتيل الحرب بين الأمم والشعوب، وحتى بين أبناء الأديان والمذاهب المختلفة، ليست حلولاً طوباوية خيالية مستحيلة التحقيق، بل هي حلول أتى سماحته بها من عمق الواقع ومن دراسة حركة التاريخ ومن خلال رصد حركة أمواج الحروب الدامية الكثيرة التي شهدها مسرح الحياة الإنسانية.

  يرى سماحته في كتابه (الاجتماع) أن (الجماعة كلما قربت إلى الفهم، مالت إلى المعايشة بسلام مع كل الجماعات، سواء جمعهم الإطار العام أم لا، وإنا نرى أن البلاد الأوروبية تحاربت طويلاً،ثم سالمت بعضها البعض، لكنها لم تصل بعد إلى المسالمة مع العالم الثالث.. بينما نجد أن البلاد الإسلامية حيث ابتعدت عن الكتاب والسنة تحارب بعضها بعضاً في سبيل الأوهام، بمختلف أنواع المحاربة. ولو أخذت الدنيا بالعقل والعدل لاختفت الحروب)(6).

  ويعني هذا الكلام أنني عندما أفهم (الآخر) من خلال نتاجه الفكري ومن خلال حركته الفعلية على امتداد مساحة الواقع، وعندما يقوم هو بدوره في فهم حركتي وفهم طبيعتي الاعتقاديه مع احترام كل منا لخصوصيات الآخر، فسنكون بالتأكيد في حالة جيدة من التقارب والتضافر، وسنكون بذلك قد قمنا بعملية تطويق وتقييد لحالات التباعد والتنافر. ولئن ذكرنا سابقاً أن الثقافة في العديد من وجوهها ووحداتها اختراع بشري قام الإنسان بابتكاره من أجل إدراك ما يحيط به من رموز وألغاز، فإن هذا الكلام لا يعني أن ثقافة الأرض مفصولة عن ثقافة السماء، فالكتب والرسالات السماوية جزء لا يتجزأ ولا ينفصل عن ثقافة الأمم والشعوب، بل إنّ هناك العديد من المجتمعات التي تعتبر حضارتها الفكرية ثمرة التفاعل بين فلسفة الرسالات وتأملات الإنسان الخاصة.

ويؤكد الإمام الراحل أن إقبال الإنسان على تعاليم السماء وتدبّرها هو الحل المثمر للمجتمعات الإنسانية، سواء كانت تلك المجتمعات صغيرة على مستوى أفراد قلائل أم كانت كبيرة على مستوى دول وأمم. فعندما نعي ذواتنا وذوات الآخرين عن طريق العمل الطيب الذي يرفعنا فكراً وروحاً إلى عالم النقاء والترفع عن عالم الماديات والدنيويات، عندئذٍ سندرك قيمة تمسكنا بثقافة الكلمة السماوية والحرف الإلهي. فالله سبحانه وتعالى يقول: [إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم](7)، وهذا يعني أن أساس الخلق هو المعرفة والتعارف، فالحكمة الإلهية تقتضي منا، نحن البشر، أن نتعارف ونتلاقح فكرياً وحضارياً مع بعضنا البعض، وأن يكون أسلوب التعارف بين الشعوب والقبائل هو أسلوب التقوى والقرب من الله بالأفكار والأعمال الصالحة.

   ومن الوسائل التي يفضّلها الإمام الشيرازي (رحمه الله) في عملية الوعي الثقافي بين المسلمين عموماً، قراءة سيرة النبي والأئمة الأطهار، فحياتهم الحافلة بالمآثر الإنسانية وبالصور المشرقة تجعلنا في أمسّ الحاجة لاستلهام الدروس والعبر من سيرتهم وسنتهم I لأنهم أولاً وأخيراً ضد الحقد والبغضاء والصور المشوّهة للفكر والوعي الإسلاميين؛ ولذلك يقول سماحته: (إن الحقد لا يولّد إلا الحقد، والبغضاء لا تولّد إلا البغضاء.. فإن كل شيء يثمر مثله، الأخلاق الحسنة من الإنسان تثمر حسن الأخلاق في الجانب الآخر، أما الأخلاق السيئة فإنها تولّد رد فعل سيئ. وهكذا بالنسبة إلى السلام، وما يقابل السلام، فكل واحد يقابل مثله.. ولذا نشاهد في أنبياء الله تعالى والأئمة الطاهرين والمصلحين العظام هذه الظاهرة: ظاهرة حسن الخلق، العفو، السلام، سعة الصدر، الحلم، التواضع، الصبر، عدم ردّ الاعتداء بالمثل، وإنما ردّ الاعتداء بالتي هي أحسن)(8).

   ومن خلال جولاتنا وقراءاتنا التحليلية لمؤلفات الإمام الراحل (رحمه الله) نلاحظ أن سماحته يربط دائماً وأبداً بين المرتكزات الثقافية والقيمة الحضارية للحرية، فكما أن الهيدروجين يتفاعل مع الأوكسجين في عملية كيماوية لإعطاء الماء الذي هو أساس الحياة، كذلك الحال بالنسبة للتفاعل القائم بين الثقافة والحرية. إن أحد الشروط الأساسية لنضوج المجتمع وارتقائه الحضاري هو التزاوج بين الثقافة بكل مفرداتها والحرية بكل مقوّماتها.

ولذلك فعندما يتحدث الإمام الشيرازي عن الحرية، نراه يتحدث عنها بوصفها (ضرورة) وليس بوصفها (منحة) أو (عطاءً)، لأن سماحته يرى في كتابه (السياسة) أن: (الأصل في الإنسان الحرية..)(9)، فالإنسان - بالنسبة إليه - يولد حراً، لأن الضمير الإنساني والوجدان يؤكدان حرية الإنسان، فالإنسان دون حرية ليس بإنسان.

  الحرية تعمل على تفعيل وإثمار الثقافة ودفعها قدماً للأمام وللأعلى، في حين أن الثقافة تقوم بعملية تجذيرٍ للحرية في المجتمع، كما أنها تعمل على توجيهها الوجهة الصحيحة الصائبة، فهي لن تقبل أن تكون الحرية ذريعة لسفك الدماء وهتك الأعراض، بل ووسيلة لقتل الحرية ذاتها، كما حدث في الثورة الفرنسية عام 1789م عندما تمّ اغتيال الحرية باسم الحرية، وكما حدث في البلدان الشيوعية نظرياً حيث صودرت الحريات وكُمّت الأفواه ولجمت الأقلام، وكما يحدث الآن في الغرب حيث ينتصب تمثال الحرية في بلدٍ لا يعترف بحرية وسيادة العديد من البلدان الأخرى.

   ومن الواضح أن الإمام الشيرازي (رحمه الله) يسهب في حديثه عن الحرية لأنها قيمة أساسية في بنيته الفكرية الإسلامية التي يؤمن بها، فضلاً عن كونه رجل علم وعمل يؤمن بالعلم المثمر والعمل الجاد والدؤوب(10). ويؤكد الإمام الشيرازي، من خلال إصراره على الحرية كضرورة إستراتيجية للنهوض بالمجتمع، على أن الإسلام الحنيف الذي جاء به الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) هو العلاج للكثير من الأوبئة التي تعصف بالفرد والمجتمع.


والسؤال الدائم الذي يطرحه الإمام الشيرازي هو:

أي تحرر نستطيع أن نجده في البناء الأيديولوجي الإسلامي؟.
والجواب الذي يردّده دائماً أيضاً هو:

(ففي الإسلام التحرّر العقيدي، والتحرر الاقتصادي، والتحرر السياسي، والتحرر الثقافي، والتحرر الاجتماعي)(11)، ويبين سماحته أن الحرية الفكرية أو الثقافية تنمّي الإنسان وترتقي بالمجتمع، وتصنع التاريخ، وتصحح الانحراف.
  فجدلية العلاقة بين الحرية والقلم تطلق التفاعل المطلوب، لأن حرية القلم تفرض عملية البحث والكشف عن مواطن الخلل والخطأ في حركة المجتمع ونشاطاته.


ونحن نعلم أن سماحته قد قال: (وفي الإسلام.. التحرر الثقافي، فلكل إنسان أن يصل إلى ما يريده من العلم والثقافة، فليس أمام فرد حاجزٍ من المال أو غيره يمنعه عن الوصول إلى الجامعة، أو ما فوق الجامعة)(12). وهذا يعني أن نربط الثقافة بالمجتمع من جهة، وأن نربط الثقافة بالحرية من جهة أخرى.
   فالثقافة التي تمارس دورها من خلال المثقفين من أبناء المجتمع من أجل تعديل المسارات وتصحيح الانحرافات عن طريق القلم الرصين والعقلاني والبعيد عن لغة التقريع والتجريح، هي الثقافة المطلوبة لكل مجتمع ينوي النهوض والارتقاء إلى مستوى المسؤولية المناطة به تجاه أفراده وتجاه المجتمعات الأخرى، فعندما يتحرر القلم من خوفه وغربته يغدو أملاً، أما عندما يكون محاصراً وغريباً فسيغدو مفهوم (القلم) مرتبطاً بمعنى (الألم).

  وإذا كانت الأسس التي تقوم عليها الثقافة هي (الإرادة) و(الحرية) و(المعرفة)، كما نفهمها من خلال نظرية الإمام الشيرازي الثقافية، فإن هذا يعني أن تغيير أي مجتمع لن يتم دون خلق الأجواء المناسبة لميلاد هذه الأسس الثلاثة.

  ولا يكفي أن نعمل على خلق هذه الأسس عند بعض أفراد المجتمع دون البعض الآخر بحيث تبدو عملية التحول الثقافي عملية إفرادية تتحمّل عبئها شريحة صغيرة من المجتمع دون بقية الشرائح، ولذلك فإن الإمام الشيرازي قد دعا إلى تنظيم كافة أبناء المجتمع في إطار تنظيمات ثقافية تعمل على تغذيتهم فكرياً وروحياً وتقوم  بنفس الوقت على ربط ثقافتهم الأصيلة بالواقع الاجتماعي. وبإمكاننا أن نلاحظ هذه الحقائق التي تبنّاها الإمام الشيرازي في مشروعه الثقافي الحضاري ضمن كتابه القيمّ (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) والذي أُعيدت طباعته عدة مرات لما فيه من الفائدة والعقلانية في تناول أهم النقاط التي كانت ولا تزال تشغل بال الكثيرين من أرباب الفكر والثقافة والنظريات الاجتماعية في شرق الأرض وغربها.

  ولكي نحوِّل العالم المحيط بنا إلى مستوى ثقافي أكثر رقياً، يجب علينا أن نغير ما في أنفسنا، ولا يمكن لنا أن نحقق الغاية المطلوبة عن طريق العنف بتصفية الثقافة القديمة وقيمها وإحلال الثقافة الجديدة المفترضة بدلاً منها، ولكن يمكننا -من وجهة نظر الإمام الشيرازي- أن نجد محطات انطلاق مؤقتة وذلك بالانضمام إلى الهيئات والمنظمات التي تعمل بشكل جدي ورسمي على دراسة طرق الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، أو بسن التشريعات والقوانين التي تتناسب مع حاجاتنا ورغباتنا النفسية والاجتماعية التي تردم الثغرات بين (الأنا الداخلية) و(الأنا الخارجية).

  ويطرح الإمام الشيرازي في نظريته الثقافية قضية أبعاد التركيبة الإنسانية وعلاقتها بالمجتمع ووحداته الجزئية المتنوعة. ويرى سماحته أن الإنسان إذا استطاع أن يقوم بعملية التنسيق بين هذه الوحدات المجزأة، فسيصبح الإنسان سليماً، وسيكون المجتمع الذي يحتوي على هذه اللبنات الإنسانية مجتمعاً سليماً، بينما إذا لم يتمكن من التنسيق، وحدث الانفصام والافتراق، فسيصبح الفرد والمجتمع المبني عليه سقيماً(13).

   ويُحذّر سماحته من أربعة أنواع من الانفراط الذي يعيق عملية التنسيق والانسجام بين الوحدات والحاجات التي تتطلبها التركيبة الإنسانية في صورها المتعددة.

وعمليات الانفراط الخطيرة هي:

1.    الانفراط عن النفس: وهو فقدان التوازن بين حاجات النفس وحاجات الجسد، وهنا يقع الانفراط في جهة الإفراط، أو في جهة التفريط.

2.    الانفراط عن المجتمع: وهو، باختصار، عدم التنسيق مع قيم وثقافة وأعراف المجتمع. وهو مذموم، لقوله تعالى: [واعتصموا بحبل الله جمعياً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً](14).

3.    الانفراط عن الطبيعة: وهو الفهم والتعامل السلبي معها؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى سخر الطبيعة للإنسان، وقد اتخذ الإنسان الطبيعة معبوداً له، فتغيرت بذلك المعادلة وأصبح المسخَّر مسخِّراً، وصار العبد سيداً، وكان ذلك معنى الانفصام عن الطبيعة.

4.    الانفراط عن الله: وهذا أخطر انفراط يمكن أن يعيشه الإنسان، إنه أخطر انفراط لأن الإنسان في هذه الحالة يفقد هويته الروحية، ويستبدل قيم ومبادئ السماء بقيم ومبادئ لا تحقق له الأمان النفسي المطلوب، فالغربة الوجودية لا تبدأ إلا عندما يبدأ الإنسان معاناة الابتعاد عن الخط السماوي والمنهج الرسالي.


  وقد أكد علم النفس الحديث صحة نظرية الإمام الشيرازي في ما يتعلق بقوة تأثير الجانب الروحي على قيم ومبادئ وتفاعلات الفرد في المجتمع. ولو أخذنا، على سبيل المثال، ما قاله (سيرل برت) في كتابه الذائع الصيت (علم النفس الديني)، فسنلاحظ أن النتائج التي توصل إليها هذا الكاتب المتخصص بالقضايا النفسية قد تطابقت مع وجهات نظر الإمام الشيرازي تماماً. وهاهو (برت) يقول:

(إن خصائص الحياة الدينية لم تعد تبدو بعيدة كل البعد عن خصائص نشاطنا العقلي العادي.. وإذا كانت الظواهر الروحية قد شرحت أحياناً شرحاً مادياً، فإن الظواهر المألوفة في وجودنا اليومي الآن تتطلب شرحاً روحياً.

  .. وقد تتعدد المذاهب والأساطير الدينية، ولكن الدين الواحد، وهو كسائر منتجات العقل الواعي يترقى ويتطور، وقد تتغير مذاهبه في مادتها أو درجة يقينها.. ولكن تعابيره في أحسن صورها تتضمن أرقى أفكار الإنسان وأحاسيسه عما يحيط به من ألغاز الوجود، وتبين أسمى موقف له نحو معضلات الفناء)(15).

  ثم يتابع قائلاً عن الدين أنه (من أكثر العوامل الاجتماعية بقاء، ومن أقوى الوسائل الفعالة للسمو بحياة الفرد والمجموعة البشرية)(16).
   ولو عرضنا قضية الانفراط عن النفس، وقضية الانفراط عن المجتمع،على ضوء ما تطالعه من نظريات نفسية - اجتماعية جديدة، فسنتيقن من أن آراء ووجهات نظر الإمام الشيرازي (قدس سره) قد بنيت على قاعدة فكرية صلبة وسليمة، لأنها تعكس وبصدق واقع النفس الإنسانية وإمكانية انفراطها عن ذاتها وعن مجتمعها في حال غياب الموجه الثقافي والروحي السليم، يقول المفكر الهندي (ج. كريشنا مورتي) في كتابه (التعليم ومعنى الحياة):

   (ونحن لا نرى أبداً أننا نمثل البيئة كلها، ففينا عدة وحدات، تدور كلها حول (الأنا) أو (النفس)، و(النفس) تتكون من هذه الذاتيات التي هي مجرد رغبات في أشكال مختلفة، ومن تكتل الرغبات هذا ينتج الشكل المركزي، المفكر (الأنا) و(ما يخصني)، وهنا ينشأ التقسيم بين (النفس) وبين (الغير)، وبين (الأنا) وبين البيئة أو المجتمع، وهذا الفصل هو بدء الصراع الداخلي والخارجي)(17).

  وبالتالي فإننا نستطيع القول أن الوحدة الفكرية -في حقيقتها- هي فهم الشخص لنفسه، ومحاولته التصالح معها، لأنه في داخل كل فرد منا يجتمع العالم بأكمله.

  ومن النقاط الهامة التي يجب أن لا نغفل عن ذكرها، هي أن المشروع الثقافي عند الإمام الشيرازي لا يشمل المسلمين فحسب، بل يشمل الغرب أيضاً، فالإنسان أخو الإنسان، والنشأة واحدة، والنهاية إلى رحاب الموت واحدة، والكل أبناء آدم وحواء. هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن يتجاهل واقعيتها، ولذلك فإن الإمام الشيرازي يرى أن الإنسان في الغرب أصبح غريقاً في وحول الماديات الدنيوية، ولن يكون قادراً على الخروج من هذه الأوحال والتخلص منها إلا إذا قبل، على الأقل، أن يتلاقح فكرياً مع الفكر الإسلامي الأصيل.


ولكن كيف الوصول إلى ذلك؟.

   يستطيع أن يعثر على جواب هذا السؤال كل من يقرأ بعمق كتاب (كيف يمكن نجاة الغرب)، حيث يدرك القارئ أن هذا يتطلب وجود مفكرين كبار على مستوى القضية.. مفكرين إسلاميين درسوا الإسلام وعقلوه عقل دراية وعلم بكل شموليته.. لأن الإسلام مشروع عام وقادر على قيادة الدنيا، كل الدنيا، وفي جميع مناحي الحياة.. السياسية والاقتصادية والثقافية.. وبأحسن ما يمكن.. وكذلك يجب أن يكون المفكرون على مستوى عال من ثقافة العصر، ومتابعين متابعة دقيقة لكل تطورات العلم والحضارة المعاصرة بكل تشعباتها(18). ونحن نؤيد هذه النتيجة التي يمكن أن يخرج بها أي قارئ متفهم لنتاجات الإمام الشيرازي الفكرية، بل ونرى أن سماحته (قدس سره) كان من أوائل المؤهلين لقيادة حركة التغيير في العلاقات الفكرية بين الإنسان وأخيه الإنسان في الشرق والغرب.

   فالغرب يعيش حالة فقدان الروح.. حالة اللاوعي الروحي و(الغياب التبليغي). فما الذي ينتظره الإنسان - حسب مفهوم الإنسانية الشامل - من مجتمع يدّعي الحضارة الفكرية والثقافية وقد قتل فيه أكثر من (210) آلاف مواطن أمريكي في حوادث عنف داخلية خلال العقد الأخير بينما كان هناك (17) مليون مواطن كانوا ضحية لجرائم العنف في الفترة ذاتها؟.


وأية رياح ثقافية وتربوية يمكن أن تهب علينا من مجتمع يأتي أبناؤه بـ (135) ألف مسدس إلى مدارسهم في أميركا كل يوم؟.
  أما في بريطانيا، فقد جاء في استفتاء شمل (500) امرأة بريطانية، أن نصف البريطانيات اعترفن بعلاقات مع الرجال خارج حياتهن الزوجية، وغالبيتهن كشفن أنهن غير نادمات على ذلك! وكشف الاستفتاء أن (42%) منهن اعترفن بالزنا وأعمارهن بين 51- 64عاماً، و(39%) مطلقات، و(60%) لديهن أولاد، الثلثان منهن اعترفن بأنهن لسن أمهات جيدات(19).

  إن هذا التردي في القيم الأخلاقية لا يبشر بخاتمة سعيدة للحضارة الإنسانية المزعومة.
  نعم، نحن في الشرق متخلفون عن ركب الحضارة التكنولوجية والصناعية، ولا نخجل من قول الحقيقة، ولكن نحن نمد يدنا للقاء أهل الغرب من أرباب المدنية والانطلاقة الحضارية، ولا نرى حرجاً في أن نتبادل الأفكار ونهذب القيم و الأعراف، ولكن على الغرب أيضاً أن يعترف بعجزه عن وقف هذا الانهيار الأخلاقي العنيف في صفوف أبنائه المثقفين وغير المثقفين؛ ولذلك فإن الإمام الشيرازي يرى أن الغرب بحاجة لمبادئنا وعقائدنا مثلما نحن بحاجة الآن لصناعاته وخبراته التكنولوجية، وفي ذلك يقول سماحته: (وقد يزعم زاعم أن الغرب اكتفى من هذه الجهة الخدماتية، فهو لا يحتاج إلى خدماتنا، ولكن بعد دراسة الغرب نرى كثرة احتياجاته إلى بعض الخدمات الإنسانية.. فالإنسان هو الإنسان سواء كان في الغرب أو الشرق، حوله حشد من الحاجات، وتحيط به المشاكل، مهما كان مرفها ومنعماً)(20).

  إذاً، فالثقافة الإسلامية ثقافة غنية وثرية بمحتواها الروحي والفكري، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، ولكن المشكلة تكمن في أن المسلمين قد عملوا على تشويه الصورة المشرقة للإسلام وذلك عندما اعتقدوا أن أفعال الكثير من الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية، بل وفي العثمانية أيضاً، هي أفعال شرعية يجب الإقتداء بها والسير على هديها.

   ولذلك فإن الإمام الشيرازي من خلال كتابه (ثلاثة مليارات من الكتب)، لا يلقي باللوم على أهل الغرب إن وقفوا وقفة الحذر من الإسلام الذي وصل إليهم بتلك الطريقة المشوهة ويرى سماحته: (أنه ليس الغرب بأجمعه أعداء للإسلام بما هو إسلام، أو أعداء للمسلمين المتمسكين بالإسلام، بل هم أعداء لما تصوروه إسلاماً ومسلمين من خلال الحكام الذين ذكرناهم. والغرب إنما اتخذ المسيحية ديناً لأنه رأى فيها بعض ما تبقى من الجمال، ونوعاً من لمعات وحي السماء، وشيئاً من معاني الإنسانية الرفيعة التي جاء بها النبي الكريم المسيح (21).
وهكذا نرى أن معاداة الغرب للإسلام، إنما هي معاداة للثقافة السلبية التي لا يزال المسلمون يعيشونها بإرادتهم بعد أن قبلوا الابتعاد عن النهج الرسالي الذي أراده الرسول لأمته الإسلامية.

  وقد أصاب الإمام الشيرازي (قدس سره) عندما أدان المسلمين المنحرفين عن خط الثقافة الروحية للإسلام قبل أن يدين المجتمع الغربي الذي لا يعرف عن جوهر وروح هذا الدين الحنيف إلا النزر اليسير.
  فالثقافة، بالنسبة للإمام الشيرازي، هي حليب الحضارة، تلك الحضارة التي تبدأ طفلة ثم تنمو شابّةً، ولتصبح بعد ذلك أمّاً قادرة على الإنجاب والإثمار وعلى تربية أبنائها خير تربية وتوعيتهم خير توعية.

  ولذلك، فإن رحيله (رحمه الله) عنّا يعتبر رحيل أحد الأعمدة الثقافية في مجتمعنا الإسلامي.
  لقد كانت توجيهاته، بل وسلوكه التوجيهي أيضاً، خير دليل على أن ثقافة الإسلام ليست بالثقافة الطوباوية التي يصعب تحقيقها وترجمتها على أرض الواقع، بل إنها ثقافة العصر وكل عصر، والدليل على ذلك فكر وسلوك وإنجازات الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).
  لقد آمن سماحته بقداسة الكلمة وبجلال الحرف مثلما آمن بعبثية الشقاق والفرقة وبقباحة العنف. فالكلمة كانت في البداية، وستبقى القوة العظمى دائماً حتى النهاية، ولا شك في أن الذي يؤمن بالكلمة سيكون من أهلها، وقد كان الإمام الراحل حقاً هكذا.



فهرس المراجع المستخدمة في البحث
1.    راجع كتاب (نظرية الثقافة): مجموعة من الكتاب، ترجمة: د. علي سيد الصّاوي، سلسلة عالم المعرفة (العدد 223) الكويت 1997 ص9.
2.    د. عبد العزيز كامل: الفكر طريق إلى الإيمان، مجلة الهلال - أيلول 1972 ص7.
3.    نفس المصدر السابق: ص8.
4.    مايكل كاريذرس: لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة العدد (229). الكويت 1998 ص15.
5.    آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): الاجتماع، دار العلوم - بيروت 1992 ج1 ص102.
6.    نفس المصدر السابق: ج1 ص116.
7.    سورة الحجرات: 13.
8.    آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره): السبيل إلى إنهاض المسلمين، مؤسسة الفكر الإسلامي - بيروت 1994 ص154.
9.    آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره): السياسة، طبع دار العلوم - بيروت ص63.
10.    محمد غالب أيوب: ملامح النظرية السياسية في فكر الإمام الشيرازي(قدس سره)، دار المنهل - بيروت 1991 ص26.
11.    نفس المصدر السابق: ص27.
12.    آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره): السياسة، ص240.
13.    آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره): الصياغة الجديدة، ص29.
14.    سورة آل عمران: 103.
15.    سيرل برت: علم النفس الديني، ترجمة: سمير عبدة دار - دمشق ص22.
16.    نفس المصدر السابق: ص23.
17.    ج كريشنا مورتي: التعليم ومعنى الحياة، ترجمة: طارق فودة، مطبعة السعادة - القاهرة ص61.
18.    آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره): كيف يمكن نجاة الغرب؟، مركز الرسول الأعظم p  للتحقيق والنشر - بيروت 1999 راجع مقدمة الكتاب ص7.
19.    نفس المصدر السابق: راجع هامش الصفحة 20 لمعرفة الواقع اللاأخلاقي في أميركا وقد أخذت هذه المعلومات عن مجلة (المجلة) العدد 916 ص31 بتاريخ 6- 9- 1997. وراجع أيضاً هامش الصفحة 23 لمعرفة تفاصيل التقرير المنشور عن أحوال بريطانيا اللاأخلاقية، وقد أخذت المعلومات عن مجلة (النبأ) في عددها (17-18) رجب وشعبان 1418هـ. ص37 تحت عنوان (المرأة البريطانية إذا حكت).
20.    نفس المصدر السابق: ص35.
21.    آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره): ثلاثة مليارات من الكتب، هيئة آل يس y للطباعة - بيروت 1998 ص26.