الأكاديميون ومعوقات الإبداع المعرفي في العراق
الأكاديمي في المجتمع هو ذلك الإنسان الذي أوقف حياته للتحصيل الدراسي من اجل الوصول إلى الدرجة العلمية التي تؤهله للبحث العلمي وتطوير المعرفة الإنسانية بنتاجاته المعرفية، فاختار حقل العلم كعنوان له ومصدر لرزقه ومنطلق لنشاطه واهتمامه، ففي الوقت الذي ركن غيره إلى الراحة والاستمتاع بمباهج الحياة على اختلاف أنواعها، تجد أن الأكاديمي لا يعرف طعما لهذه الراحة، إذ هو غارق أما ببحث أو مقال يكتبه أو كتاب يتصفحه وأما يتجول بين المكتبات بحثا عن المصادر الجديدة أو جالس في مختبر يجري تجاربه أو في قاعات الدرس يلقي محاضراته.. ويضيع من وقته الكثير مما كان يتمنى أن يقضيه مع أهله، وأولاده، وأقاربه، وجيرانه..
هذه حياة الأكاديمي وهي قطعا تختلف عن حياة غيره، وإذا كان لبلد ما أن ينهض علميا ويتقدم معرفيا ويرتقي حضاريا، فأجدر من يقوده في هذا السبيل من أبناءه هم الأكاديميون، حتى بات الاعتناء بهذه الفئة من المجتمع هاجسا محركا لكثير من خطط التنمية وبرامج الإصلاح، انطلاقا من حاجة الدول إليهم،
وانسياقا مع برامج تنمية الموارد البشرية التي تجد أن أفضل مشاريع الاستثمار هي الاستثمار في ميدان الموارد البشرية بعد أن اكتشفت خطل المشاريع الاستثمارية التي تركز على تطوير البناء والآلة وتهمل الإنسان المشغل لها.
إن هذه المقدمة تعطينا تصورا مهما عن المركز المهم، والدور الخطير، والحياة الخاصة للأكاديميين، كما تقودنا باتجاه حقيقة أن الإبداع المعرفي إذا كان عند بعض الناس صدفة، فأنه عند الأكاديميين واجب أوقفوا حياتهم له وتحملوا الكثير في سبيله ومسؤولية كبرى ألقاها المجتمع عليهم، ولكن لنجاح هذه الفئة في القيام بدورها الإبداعي الخلاق لا بد من تذليل العقبات التي تؤرقهم وتشغل بالهم من قبيل فتح آفاق الحرية الفكرية أمامهم، ومنع الاستبداد الفكري والإداري وأحيانا الجسدي الذي تمارسه بعض القوى السياسية والأنظمة السلطوية والمؤسسات الإدارية من اجل ادلجتهم أو تعليب أفكارهم في قوالب خاصة أو التجاوز على كرامتهم وحياتهم هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بد من تيسير حصولهم على المعلومات الكافية في اختصاصاتهم سواء كانت المقروءة منها أو المسموعة أو المكتوبة، وتوفير البنية التحتية العلمية والمعيشية اللازمة من مؤسسات أكاديمية تنطوي على مكتبات متطورة ومتنوعة، وإنشاءات حديثة من قاعات ومختبرات وأماكن ترفيه مشيدة بعقول هندسية ذات رؤية معمارية متقدمة تفهم وسائل التعليم الحديثة وما تحتاجه من بيئة دقيقة تساعد العالم والمتعلم، وإدارات كفوءة تقود المؤسسات الأكاديمية وهي تعي خصوصيتها، فتفجر فيها عوامل الإبداع ومحفزات الارتقاء، فضلا عما يحتاجه الأكاديميون من تحرير لعقولهم من هواجس الحاجات الأساسية كالمأكل والمسكن والملبس وتكوين الأسرة وتوفير وسائل النقل المناسبة..
فيكونوا في تفرغ تام للدرس وتحصيل العلم وتطوير المعرفة، هذه هي باختصار الشروط الواجب توفرها لتنطلق مسيرة الإبداع عند الأكاديميين ومن ثم في المجتمع، لكن هذه الشروط على بساطتها وضرورتها نجدها استعصت على الحل في العراق اليوم، على الرغم مما يمتلكه هذا البلد من ثروات طائلة، وما يرفعه صناع القرار فيه من شعارات براقة فحواها تنمية الموارد البشرية واستقطاب الكفاءات وتحرير الفكر وتقدم الجامعات واستصلاح برامج التعليم، وإذا انتقلنا من هذا الهاجس الأسري الذي اتعب أكاديمي العراق، وأعيتهم حيله مع سلطات أغلقت أبوابها في وجوههم إلى بيئة العمل التي يعيشون فيها تجد أن إدارات كثير من الجامعات غير قادرة على تثوير روح الإبداع فيها، بل تكاد تكون سبب في قتل وتشويه وطمس هذه الروح، لكونها لا تعرف نمط الإدارة الحديثة وما تتطلبه من شروط تحفيزية مادية ومعنوية، وكثير منها لا زال يتحرك بمنطق الدكتاتورية وقيمها العتيقة، لأنه في الدول التي تحررت من الحكم ألطغياني كالعراق لا يكفي التحرر من الدكتاتور لبناء الديمقراطية، بل لا بد من التحرر من الدكتاتورية - أيضا - بكل ما تنطوي من قيم وقواعد وسلوكيات وهذا ما لا نجده قد تحقق لحد الآن في مؤسساتنا جميعا ومنها المؤسسة الأكاديمية، كما نجد أن اختيار بعض قيادات هذه المؤسسة تحكمه الولاءات السياسية الحزبية بدلا من الكفاءة والاستقلالية والنزاهة مما جعل بعضها يربط مصيره، وبقاءه في منصبه بمدى التزامه بهذا الولاءات واملاءاتها حتى بات ذلك ينعكس على مستوى أدائه وسلوكه داخل المؤسسة التي يقودها وخارجها، فضلا عما تقدم نجد أن وزارة التعليم العراقية لم تقم بدورها في التدوير الإداري داخل مؤسساتها التي لا زال كثير من قياداتها الإدارية كما هي منذ سقوط النظام وحتى يومنا هذا سواء على مستوى رؤساء الجامعات أو العمادات أو الأقسام، مما خلق نوع من الجمود والسلوك النمطي الواحد داخلها هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم تحاول طول هذه السنوات أن ترتقي بمستوى كوادرها الإدارية والتدريسية من خلال دورات تطويرية مناسبة داخل وخارج العراق، وإذا وجدت مثل هذه الدورات لم تحاول أن تصب جهود المنتمين إليها ببرامج خاصة تكفل الاستفادة القصوى منهم بحيث باتت هذه الدورات القليلة كأن لم تكن، أما البنية التحتية للبنايات الجامعية فتفتقر هي الأخرى لكثير من الشروط اللازمة للغرض الذي من اجله أنشئت إذ كثير من تصاميمها تفتقر إلى رؤية معمارية متقدمة تدرك حاجات التعليم الحديث من حيث توزيع الرؤية البصرية، ومكان الأستاذ والطالب، ولون الجدار..
فبات الكثير من قاعات الدرس عامل تشتيت لانتباه الجالسين فيها لا عامل تركيز وتشويق، كما تفتقر جامعاتنا إلى عناصر الترفيه المشجعة لتطوير التواصل الاجتماعي والتحرك الإبداعي، إذ لا توجد في كثير منها أندية ترفيهية حقيقية أو أماكن مناسبة للأنشطة الرياضية وغيرها، كما لا زالت مكتباتنا تشكو من النقص وتعاني من الإهمال، نعم لقد لمسنا تغيرا طفيفا في جامعاتنا منذ عام 2003، لكنه محدود جدا ودون مستوى الطموح كثيرا، وإزاء هكذا واقع مؤلم يعيشه الأكاديميون العراقيون، نجد أن معوقات الإبداع المعرفي تكبلهم وتأسر انطلاقهم الخلاق، ورفع هذه المعوقات يحتاج إلى تضافر جهود كثيرة ووضع برامج عمل حقيقية ومناسبة تدار من خلال كفاءات صادقة وقادرة لاسيما أن وزارة التعليم اليوم تحت إدارة جديدة نناشدها أن تنقذ التعليم العالي في هذا البلد، وتؤسس لمرحلة جديدة تثور ذخائر الإبداع المعرفي في بلد عانى كثيراً، ويحتاج لعمل جميع أبنائه من اجل وضعه على طريق التقدم والازدهار.