الرجوع للعدد السادس
حفظ هذا المقال فقط
المقدمـــة
    تغطي عالم السياسة اليوم سحابة كثيفة من المفاهيم والمتغيرات، قد أمطرت الباحثين والعلماء بوابل من المعرفة حتى اغرورق بها القاموس السياسي. وتنادى الباحثون يشقون طريقهم في هذه اللجة المعرفية طمعاً في استجلاء كنه الحقيقة وسبر أغوارها.

    وكانت الإستراتيجية من بين المفاهيم الكثيرة التي وقف عندها الكثير من الباحثين يستكشفون أبعادها ويسلطون الضوء على ماهيتها. بيد إن هلامية هذا المفهوم قد أذابت إمكانية الاتفاق عليه بين معشر الباحثين، وهكذا حاول كل فريق إسقاطه بأرضهم طمعاً بفائدته لحقل تخصصهم، وكان أهل السياسة من بين أولئك الذين استقطبهم مفهوم الإستراتيجية، فاستقبلوه في حقل تخصصهم وأخضعوه لأعرافهم ومقاييسهم، وما كادوا يفعلون حتى أطلقوا العنان لتكهناتهم في وصف هذه المفهوم بأنه لا يعدوا أن يكون فناً أو ممارسة ولا يرتق لئن يكون علماً أو نظرية تؤدي وظيفة على ارض الواقع، والأكثر من ذلك راح بعضهم ينكر على من يحاول إخضاع الإستراتيجية إلى محددات إجرائية (وظيفية) تنسجم وطبيعة أغراضها وإبعادها.

    من هنا نشأت الحاجة إلى إقامة الرابط الموضوعي بين البنية النظرية للإستراتيجية بعد استكمال ملامحها وبين البعد الإجرائي الوظيفي لها، على قاعدة الافتراض بإمكانية استثمار تلك النظرية في تطوير فاعلية الإستراتيجية لخدمة أغراض الأمة.

     وبغية امتحان مصداقية هذه الفرضية، تم الاستعانة بأدوات ومحددات المنهجين الوظيفي والنظمي في تصنيف المعطيات النظرية سبيلاً لإخضاعها لافتراضات سياق الأداء الوظيفي.

    وقد انقسمت هيكلية هذه الدراسة على ثلاثة محاور رئيسية، انصرف الأول منها إلى استخدام البعد الإجرائي في تعريف الإستراتيجية، وانصرف المحور الثاني إلى تحليل بنية الإستراتيجية ومحتواها على ضوء معايير إجرائية وظيفية، وكرس المحور الثالث إلى استكشاف الأبعاد الإجرائية لتفرعات الإستراتيجية ومخرجاتها.



المحور الأول- المـدخل الإجرائي إلى تعريف الإستراتيجية
    الإستراتيجية كاصطلاح تعود إلى التعبير الإغريقي (استراتيجيوس) الذي أورده الإغريقي اوليسند في كتابه ((تعليمات عسكرية للقادة)) والذي قصد به ((فن القائد))(1)

   إن هذه النشأة العسكرية لمصطلح ((الإستراتيجية)) متفاعلة مع الأهمية التي مثلتها الحرب - آنذاك - في تقرير مصائر الأمم قد جعل الإستراتيجية وصفاً للحرب في أذهان معظم من تصدى لمفهوم الإستراتيجية حتى يومنا هذا.

    فعرِف المفكر الألماني كارل فون كلاوزفتز الإستراتيجية بأنها ((استخدام الاشتباك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب))(2)
   فحقق كلاوزفتز - بهذا التعريف - التواصل بين الوسائل والأهداف في نظرته إلى الإستراتيجية إلا انه جعل الإستراتيجية حكرا على ميدان القتال بوسائلها وأهدافها.

   أما الفرنسي ليزيه فقد ذهب في تعريفه للإستراتيجية بكونها فن إعداد خطه الحرب وتوجيه الجيش في المناطق الحاسمة والتعرف على النقاط التي يجب تحشيد اكبر عدد من القطاعات فيها لضمان النجاح في المعركة.(3)
   فاغرق ليزيه الإستراتيجية في تفاصيل الاستعداد للحرب والخوض فيها لإدراك النصر فيها، وبذلك ضيق ليزيه مساحة الهدف الاستراتيجي بالمعركة دون الحرب كما لم يخرج ليزيه من بزته العسكرية في نظرته للإستراتيجية.

   وجاء فون مولتكه - المفكر العسكري الفرنسي- بنقله نوعية في تعريف الإستراتيجية بأنها ((إجراء الملائمة العملية للوسائط الموضوعة تحت تصرف القائد لتحقيق الغرض المقصود))(4)
   فاوجد الصلة التكتيكية بين الوسائل والغابات واخرج الإستراتيجية من ميدانها الحربي ليضعها في خدمة القيادة السياسية، وبذلك أطلق العنان للإستراتيجية بجعلها توظف وسائلاً غير حربية لخدمة أغراض واسعة.

   الملاحظ إن التطور في مفهوم الإستراتيجية وأبعادها يحاكي التطور في النظرة إلى الحرب التي بدأت ومنذ القرن التاسع عشر تطال المجتمعات بتأثيراتها، بسبب التطور في أنظمة السلاح وإدارة الحروب واستعداداتها.(5)
   فحصول الترابط بين الحرب من جهة وبين السياسة والمجتمع من جهة أخرى، قد نقل مفهوم الإستراتيجية-جزئياً من ميدان الحرب إلى ميدان السياسة.

    فنجد إن ليدل هارت يعرف الإستراتيجية بكونها ((فن توزيع واستخدام مختلف الوسائط العسكرية لتحقيق هدف السياسة))(6)
    وميزة التعريف هذا انه أسبغ على الإستراتيجية صفة فنية في تكييف العلاقة بين الوسائل العسكرية والأهداف السياسية، فجعل الإستراتيجية تصب في مصلحتها لتحقيق أهداف سياسية، إلا إن ليدل هارت -بالمقابل- أبقى الإستراتيجية في فرقعتها العسكرية من منظور الوسائل، وتناسى الوسائل الأخرى غير العسكرية التي تعمل أيضاً في خدمة السياسة، وقد اقتفى اندريه بوفر خطى ليدل هارت في تعريف الإستراتيجية بأنها فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف السياسة.(7)

    فالقوة التي فسرت بدلالتها الإستراتيجية تنطوي على أبعاد أكثر سعة من البعد العسكري فاخرج الإستراتيجية من غايتها العسكرية ووسيلتها العسكرية إلى وسيلة وغاية اعم واشمل.
   إلا إن بوفر قد فسر غموض الإستراتيجية بغموض القوة، إذ إن القوة بحد ذاتها مفهوم يتسع في تفسيراته ويغوص في غموضه وهلاميته.
  ولما أصبحت الحرب في القرن العشرين حرب الأمة والشعب - بسبب ما أملته الحرب العالمية الثانية من تطورات تقنية في منظومات السلاح وولادة السلاح النووي، وما أملته الحرب الباردة، وحركات التحرر في العالم من تأكيد اعتمادية الحرب على موارد الأمة وإمكاناتها، أضحت الإستراتيجية كذلك إستراتيجية شاملة باستخداماتها لموارد الأمة كافة وشاملة في أهدافها لتحقيق طموحات الأمة(8)  فتنادى المعنيون يؤكدون هذه الحقيقة مسبغين على الإستراتيجية مفهوم (الإستراتيجية الشاملة).

   يعرف ليدل هارت هذا النوع من الإستراتيجية (الإستراتيجية الشاملة) بأنها ((تنسيق وتوجيه كل موارد الدولة وإمكانياتها للحصول على الغرض السياسي للدولة، وهو الذي تهدف السياسة القومية إلى تحقيقه))(9) ورغم شمولية هذا التعريف في إيجاد الموائمة بين استخدام الوسائل المتمثلة بموارد الدولة وبين هدف السياسة القومية، إلا انه حدد أهداف الإستراتيجية الشاملة بالأهداف السياسية البحته، فوقع الخلط عنده بين الإستراتيجية السياسية والإستراتيجية الشاملة، فعرف الإستراتيجية الشاملة ومبتغاها تحقيق أهداف شاملة توازي كفة استخدامها الشامل للموارد المتاحة للدولة، فمن غير المنطقي أن تسخر الإستراتيجية كل موارد الدولة لتحقيق هدف سياسي وتذر باقي الأهداف (الاقتصادية، العسكرية، الثقافية) معلقة دون تحقيق.

   أما راؤول كاستيه فيعرف الإستراتيجية الشاملة بقوله ((هي فن السيطرة على المجموع الكلي لقوى الأمة في السلم وفي الحرب))(10). فأعطى كاستيه الإستراتيجية بعديها السلمي والحربي وجعل الموارد وقوى الأمة تصب في خدمتها، غير إن مصطلح السيطرة الذي أورده كاستيه ينصرف في دلالته إلى الاستمكان وإبقاء الوضع الراهن أي يأخذ منحنى ثبوتي (ساكن) في حين إن الإستراتيجية تنطوي على بعد ديناميكي (حركي) يأخذ بالموارد المتاحة عن - طريق توظيفها واستثمارها - إلى خدمة الأهداف المتوخاة لا أن يقنع بالسيطرة عليها.

  وانصرفت الموسوعة البريطانية إلى تعريف الإستراتيجية الشاملة بأنها ((فن استخدام كل وسائل الأمم لتحقيق أهداف الحرب والسلام))(11)، فألقت على الإستراتيجية بعداً شمولياً وأسبغت عليها صفة فنية تجد الوصلة بين الوسائل والغايات ذات الأبعاد المزدوجة في الحرب والسلم.

    أما الموسوعة الأمريكية فتعرف الإستراتيجية بأنها فن وعلم يدور حول استخدام القوة الشاملة بظروف مختلفة للتحكم بالخصم بوسائل مختلفة(12).
   ومثلما اكسب هذا التعريف الإستراتيجية بعداً فنياً وعلمياً وشمولياً فانه أيضاً اكسبها بعداً عدوانياً بإخضاع الخصم والتحكم في سلوكه فليس كل الفاعلين الدوليين خصوم وليست علاقات الأمم مع بعضها علاقات صراع.

    ومن الباحثين العرب يعرفها اللواء حسن مطاوع بأنها ((الاستغلال الكامل للقوى السياسية والاقتصادية والنفسية والعسكرية للدولة في السلم والحرب لتحقيق الأهداف التي تضمن سلامتها وأمنها))(13).
   فنجد في التعريف الدقة في توصيف القوى المتعددة للدولة، وأوقات عمل الإستراتيجية، كما كان هذا التعريف دقيقاً في تحديد أهداف السلامة والأمن للدولة كغاية نهائية ترنوا إليها الإستراتيجية، إلا إن الاستغلال دون فن أو خطة أو حتى إطار يظل عشوائياً ومتخبطا فتهدر قوة الأمة دون الوصول إلى غاياته، فهيئة الاستخدام من ضرورات الفعل المؤثر للإستراتيجية.

    ويعرف الدكتور خليل السامرائي الإستراتيجية بأنها ((خطة شاملة تنطوي على فن استخدام الوسائل المتاحة لتحقيق الأهداف))(14)، فتنصرف الإستراتيجية - من هذا المنظور- إلى خطوط نظرية تصوغ استخدام الوسائل لتحقيق الأهداف قبل تطبيقها على ارض الواقع، ففهم الإستراتيجية هنا صار بدلالة الخطة الشاملة ضمن الإطار النظري.

  مما تقدم يمكن الخروج بتعريف للإستراتيجية ينطلق من وصفها بأنها ((فن توظيف إمكانيات الدولة المتاحة وتهيئة بيئتها الداخلية والخارجية لتحقيق أهدافها بأقل الكلف)) أو هي ((القدرة على التأثير الفاعل عن طريق التوظيف الرشيد للإمكانيات المتاحة للأمة سبيلاً لتحقيق أهدافها العليا بأقل الكلف)) وبسبب من تعدد الآراء في تفسير الإستراتيجية، نجد إن الإستراتيجية في بعض الأحيان صارت تدرك بدلالة مفاهيم أخرى مثل (التعبئة، السياسة، التخطيط).

   والضرورة العلمية تقتضي وضع حدود موضوعية لمفهوم الإستراتيجية لتحصينها من التداخل مع غيرها من المفاهيم. فالإستراتيجية تتميز عن التعبئة بكون الأخيرة تنطوي على تحركات محدودة لتحقيق أهداف وسطية (تفصيلية) لوقت محدد في حين إن الإستراتيجية تستخدم وسائل أكثر وتتعامل في مجال أوسع ولفترة أطول لتحقيق أهداف تحتوي أهداف التعبئة بصورة أوسع(15). إذن فالعلاقة بين الإستراتيجية والتعبئة كالعلاقة بين الكل والجزء، فالإستراتيجية هي الكل الذي يؤطر ويوجه الأجزاء التعبوية التي تتعشق مع بعضها لتصب في مصلحتها في خدمة الإستراتيجية(16)، فالإستراتيجية تعطي للتعبئة محتواها وإطارها، مثلما تكون التعبئة عنصراً هاماً من عناصر الإستراتيجية.  كما وتتميز الإستراتيجية عن السياسة بكون الإستراتيجية هي شرح لفكرة السياسة عند التنفيذ(17) أي إن الإستراتيجية تعمد إلى حشد الوسائل وتوزيع الأدوار وتهيئة البيئتين المادية والمعنوية وتكيف العلاقة بين الوسائل لبلوغ أهداف السياسة وبالتالي تكون الإستراتيجية البيئة الحركية (التطبيقية) لفكرة السياسة. ويتفرع من ذلك ضرورة التمييز بين الإستراتيجية والسياسة الخارجية، فالسياسة الخارجية كما يعرفها علي الدين هلال ((مجموعة الأنشطة والتصرفات التي تقوم بها دولة ما إزاء الدول الأخرى بقصد تحقيق أهدافها في ضوء الحدود التي تفرضها قواعد التعامل الدولي وقوة الدولة))(18). فتحرك السياسة الخارجية - وبضمنها الدبلوماسية- كأداة من أدوات الإستراتيجية داخل إطار بيئتها الخارجية (الإقليمية والدولية).  لذلك يرى الدكتور مازن الرمضاني إن العلاقة بين السياسة الخارجية والإستراتيجية هي كالعلاقة بين الوسيلة والهدف، بوصف الإستراتيجية الإطار الغائي الذي يضم الوسيلة السياسية الخارجية(19).

   وعن العلاقة بين الإستراتيجية والتخطيط، فان الأخير ينصرف في دلالته إلى التفكير الواعي والمسبق بالمستقبل(20) والذي يرمي إلى وضع خطة تهدف تحديد الوسائل الصالحة والمقبولة سياسياً لترجمة الهدف(21) وبذا يؤشر التخطيط بهذا الوصف إطاراً نظرياً ويجسد أمنية تسعى الدولة إلى تحقيقها، لتقوم الإستراتيجية - هنا- مقام المعبر الذي ينقل الخطة من إطارها النظري (الساكن) إلى إطارها التطبيقي (المتحرك).
    فالتخطيط يحتاج الإستراتيجية لترجمة الطموحات، مثلما تحتاج الإستراتيجية إلى إطار فكري تستهدي به في تحركاتها كي لا تقع في مطب الارتجالية والتخبط العشوائي.






المحور الثاني - البنية الإستراتيجية ومضمونها الوظيفي:
   إن البناء الاستراتيجي(22) يتبلور من تفاعل العناصر المكونة له، وباستنطاق التعريف القائل بان الإستراتيجية ((هي فن استخدام الوسائل لتحقيق الأهداف))(23).

   فان الإستراتيجية - بهذا الوصف- تصاغ من مكونات هي (الأهداف، الوسائل، وفن استخدام هذه الوسائل)). والهدف من المنظور المفاهيمي ((وضع معين يقترن بوجود رغبة مؤكدة لتحقيقه عن طريق تخصيص ذلك القدر الضروري من الجهد والإمكانيات التي يستلزمها الانتقال بهذا الوضع من مرحلة التصور النظري إلى مرحلة التحقيق الفعلي))(24)، فتحديد الأهداف يعد المرحلة الأولى من مراحل إعداد إستراتيجية معينة(25). مثلما يشكل الهدف مكوناً أساسياً من مكونات الإستراتيجية، وبدون الأهداف يتعذر تفسير الأسباب الداعية لإعداد الإستراتيجية، فالهدف يكون بمثابة الحافز للصياغة الإستراتيجية والإطار الذي تتحدد به الإستراتيجية، والغاية التي تنشدها فتكون الإستراتيجية بلا هدف، ولا مأوى ترنوا إليه في محصلتها النهائية، عندها تتلاشى حدود الحركة، ويضيع معيار النجاح أو الفشل الذي يمثله الهدف. بيد إن الهدف المتوخى ينبغي إن يتسم بالواقعية والوضوح، إذ إن واقعية الهدف تعني إمكانية تحقيقه ضمن الإمكانيات المتاحة، وبغياب الصلة الموضوعية بين الهدف والإمكانيات تعجز الإستراتيجية عن تحقيق أهدافها أو تتواضع في تحقيق أهداف أدنى من المطلوب انجازه والمكافئ للإمكانيات(26).

   كما يستلزم أن تكون الأهداف واضحة وبعيدة عن الغموض أو الخلط، فوضوح الأهداف يؤشر درجة الاتفاق عليها بين صناع الإستراتجية، ويعني وضوح مسلك الإستراتيجية ويسلط الضوء على الطريق الذي ستسلكه وبالتالي عدم تخبطها بتحقيق أهداف أخرى ناجمة عن الخلط وسوء الفهم فعلى قدر وضوح الأهداف يأتي الانجاز الاستراتيجي(27). وبسبب من تمايز الدول في واقعها الداخلي والخارجي وانعكاس ذلك على عملية تحديد الأهداف وجدنا إن الدول تسعى إلى تحقيق أهداف متنوعة تبعاً لمعايير عدة كمعيار الأهمية بتصنيف الأهداف إلى أهداف أساسية وأهداف ثانوية، أو تصنيف الأهداف تبعاً لطبيعتها بتقسيمها على أهداف مادية وأهداف اديولوجيه وأخرى أمنية كما تصنف الأهداف تبعاً لمعيار البعد الزمني إلى أهداف قريبة وأهداف متوسطة وأهداف بعيدة الأمد(28).

  وتستمد الإستراتيجية -عند التطبيق- معينها من عنصر الوسائل أو الإمكانيات المتاحة، فتقوم هذه الوسائل والإمكانيات مقام المحددات التي تؤطر مسالك الإستراتيجية، وتشكل قيوداً ومعياراً يتم بموجبه اختيار كيفية الحركة وغايتها(29) ويمكن تقسيم هذه الوسائل على نوعين الوسائل المادية (الجغرافية، الاقتصادية، العسكرية) والوسائل المعنوية (الثقافية والاجتماعية).

  تجدر الإشارة إلى انه من الصعوبة بمكان أن يتوافر لإستراتيجية ما قدر متساوي من الوسائل المتاحة فالتفاوت- موضوعيا- أمراً واقعياً لا مفر منه، وهنا تقع مهمة الإستراتيجية في التكييف والتنسيق بين هذه الإمكانيات المتاحة لاحتواء ثغرات التفاوت (الكمي والنوعي) في الإمكانيات وانعكاساتها السلبية على أداء الإستراتيجية.فالعامل الجغرافي يؤثر على الإستراتيجية من ثلاثة اتجاهات


   أولها الموقع: فموقع الدولة سواء أكان بحراً أو براً يفرض على الإستراتيجية التكيف تبعاً لمعطى الموقع الجغرافي فإذا كان بحرياً انصرفت الإستراتيجية إلى تامين شواطئها وبناء أساطيلها، وتبني خططاً وسياسات تنسجم مع كل ذلك وإذا كان الموقع برياً عمدت الإستراتيجية إلى تأمين حدودها مع الدول المجاورة، وبناء قواتها البرية وتسليحها تبعاً للغاية التي تنشدها، وطابقت كل ذلك على عقيدتها.


    وثانيها المساحة: فكلما اتسعت المساحة كانت إمكانات الإستراتيجية أكثر وتركزت مهمتها الأساسية في السيطرة على هذه المساحة وتأمينها من الأخطار الداخلية والخارجية، وكلما ضاقت المساحة تحددت إمكانياتها واتخذت موقعاً ينسجم مع ضيق المساحة داخلياً وخارجياً.
   وثالثها التضاريس: فهي التي تحدد ماهية الموارد المتاحة للإستراتيجية، والكيفية التي تتحرك بها الإستراتيجية داخلياً وخارجياً.ويتمثل العامل الاقتصادي في كمية ونوع الموارد المتاحة، ونمو الدولة وتخلفها، وكذلك تطورها التقني وكل ذلك يحد أو يوسع من هامش الحركة الإستراتيجية. فإذا انسحبت الدعامة الاقتصادية من الإستراتيجية انكفأت على نفسها وتراجع أداؤها، وعلى العكس إذا ما توفر للإستراتيجية مقومات اقتصادية واسعة اتسعت حركتها وتأثيرها على الصعيدين الداخلي والخارجي للدولة.


  مثلما يحدد العامل الاقتصادي كيفية أداء الإستراتيجية فقد تسلك سلوكاً عدوانياً بحثاً عن الموارد في حالة فقرها أو حتى غناها مع توسعها أو بحثاً عن الأسواق في حالة غناها الاقتصادي وقد تسلك الإستراتيجية سلوكا دفاعياً أو حماية لمواردها وغناها الاقتصادي أو حماية لنفوذها خارج حدود دولتها بسبب توسعها والمسلك الدفاعي للإستراتيجية يختلف من المسلك القانع المرغم للإستراتيجية الفقيرة الموارد والقدرات الاقتصادية.

  وأما العامل العسكري، فيكون تجسيداً - بسبب اعتماديته على تلك العوامل- للعوامل الاقتصادية والجغرافية، مثلما يكون وسيلة للتعبير عن توجهات الإستراتيجية، فيكون المتغير العسكري تجسيداً للقدرات الاقتصادية في ترسانتها التسليحية (كماً ونوعاً وحجم قواته فالعلاقة طردية بين العامل الاقتصادي والعامل العسكري  ويكون المتغير العسكري تجسيداً للمتغيرات الجغرافية من خلال تبنيه لمنطلقات وخطط تنسجم مع طبيعة جغرافية الدولة، ويكون العامل العسكري تعبيراً عن توجهات الإستراتيجية من حيث أن الإستراتيجية القانعة تهمل أو تهمش من دور هذا المتغير ولا تهتم باستخدامه، وإذا كانت الإستراتيجية دفاعية وخفت المتغير العسكري لأغراض دفاعية سواء بإعداد الجيش أو نوعية ترسانة السلاح والعقيدة العسكرية وانحطاط الخطط التي تتبناها المؤسسة العسكرية، أما إذا كانت الإستراتيجية هجومية في فروعها تعددت مهام القوات المسلحة وكثفت الإستراتيجية الاهتمام بهذا المتغير العسكري أعداداً وتوجيهات وكانت خطط العسكريين استجابة لمطالب الإستراتيجية الهجومية بتبني خططاً هجومية.

   أما عن المتغيرات المعنوية (الثقافية والاجتماعية) فيتأتى تأثيرها في الإستراتيجية سلباً وإيجاباً انطلاقاً من طبيعة هذه المتغيرات والغاية من استخدامها، فمن حيث الطبيعة نكون أمام تكوين الثقافة السائدة والاندماج بين فئات الشعب أفقياً وعلاقة الشعب بالسلطة عمودياً، والروح المعنوية السائدة إلى غير ذلك ولكل عنصر من عناصر المتغيرات المعنوية تأثيراً معيناً على الإستراتيجية عند الاستخدام، فيكون التأثير سلبياً عندما ينفرط عقد الوئام بين أفراد الشعب فيما بينهم أفقياً وبين الشعب والقيادة عمودياً، وارتفعت الروح المعنوية، وكانت الثقافة حيوية فاعلة ومؤثرة داخلياً وخارجياً(30)، العنصر الأخير والاهم من عناصر ومكونات الإستراتيجية هو القدرة على الاستخدام فالوسائل تبقى معطلة، والأهداف تبقى (حبر على ورق) عندما تغيب القدرة على الاستخدام من التكوين الاستراتيجي، على ذات الصعيد يمكن تشخيص ثلاثة عوامل تدخل في تقييم الاستخدام تقييماً موضوعياً.

أولهـا: عنصر الإدراك وثانيها عنصر الخبرة وثالثها عنصر الكفاءة أو الحنكة في الاستخدام. فعن الإدراك: فانه يعد مدخلاً أساسيا في عملية صياغة الإستراتيجية وفي ضوءه تتحدد مخرجات هذه الإستراتيجية، وينبني الإدراك عمودياً على قاعدة من المعلومات( 31) والتي لا تؤثر في كيفية تقييم الإمكانيات وتشخيص الواقع الموضوعي فحسب(32) وإنما تكون عاملاً مهماً من عوامل نجاح الإستراتيجية فبغياب المعلومات تصبح الإستراتيجية بلا أساس، ويضحى الغموض محيطاً بالمواقف والأوضاع كما يغيب التقييم الموضوعي كحجم الإمكانيات ونوعيتها.

إن المعلومات تنشد غاية مفادها الوقوف على ماهية الوسائل المتاحة، معرفة طبيعة الظروف المحيطة ببيئة الحركة الإستراتيجية، وتحليلها لتشخيص الفرص المتاحة والعقبات التي تعترض هذه الإستراتيجية.يتفاعل عنصر الإدراك للإمكانيات المتاحة والظروف المحيطة بالبيئة الراهنة مع عنصر الخبرة الذي يوفر الخلفية التاريخية للتعامل مع مواقف مماثلة أو أوضاع مشابهة فاستدراك أخطاء الماضي والإفادة من تجاربه تمكن الإستراتيجية من تجاوز أخطاء مماثلة في الحاضر على صعيد التعامل مع الموقف الماثل حالياً، إذن تنهض الخبرة بمهمة تحجيم الأخطاء الناجمة عن تكرار الممارسات السابقة واستنهاض فرصاً جديدة بضوء التجربة السابقة للإفادة منها في التعامل مع الموقف الراهن ولا تقتصر مهمة الخبرة على معرفة أخطاء الذات وإنما تتعداها إلى توفير خلفية كافية للتعرف على الطرف الآخر ومعرفة ثغراته بضوء التجارب السابقة فتكفل الخبرة بذلك توفير فرص استغلال هذه الثغرات - التي قد تتكرر في سلوك الطرف الآخر سبيلاً لرفد فاعلية الإستراتيجية لتحقيق أهدافها، وفوق هذا وذاك تكفل الخبرة التعرف الكافي على طبيعة الموقف والطرف الآخر بضوء تجارب مماثلة سابقة وبالتالي تحجم من احتمالية سوء الفهم وسوء الإدراك الذي يدفع إلى سلك السلوك الخاطئ المتبني على الإدراك الخاطئ للموقف وسلوكيات الطرف الآخر وعند غياب التجربة تقع الإستراتيجية في مطبات تكرار أخطاء الماضي، والتخبط مجدداً في التجربة الجديدة مما يكلف الإستراتيجية الوقت والجهد ويهدد كامل الانجاز بالفشل ناهيك عن سوء الإدراك الناجم من غياب الخلفية المطلوبة لتفهم سلوك الطرف الآخر، وفهم ماهية الموقف.

وتبقى العناصر السابقة بحاجة إلى عقلية كفوه ومحنكة تنتفع من الخبرة والقاعدة المعلوماتية بغية التوظيف الرشيد للوسائل والإمكانيات المتاحة، وهذا يتحقق عن طريق الموازنة في استخدام هذه الوسائل أو التركيز على بعض الوسائل تبعاً لماهية الوسيلة وظرف الاستخدام وغايته(33).ويدخل في حنكة الأداء عنصر الزمن من خلال تقديم أو تأخير استخدام هذه الوسائل أو تلك تبعاً لمتطلبات الموقف الراهن واحتماليات المستقبل القادم. إن الاستخدام الكفوء للوسائل هو الذي يتولى ردم المسافات الناجمة عن التفاوت في توزيع الإمكانيات والوسائل، ويحقق الانسجام والاستقرار في الأداء وصولاً لتحقيق الأهداف والعكس بالعكس.




المحور الثالث - البعـد الإجرائي في تفرعـات الإستراتيجية ومخرجاتهـا:

   تنشأ الإستراتيجية عن التقولب في إطار جامد يعزلها عن المرونة والديناميكية(34) وبثبات هدف الإستراتيجية النهائي، تتفرع الإستراتيجية عند التطبيق إلى أنواع عدة تبعاً لنوعية الأداة (الوسيلة) وكيفية الاستخدام، وغاية الاستخدام. وعند تقسيم أنواع الإستراتيجية تبعاً لماهية الوسائل تظهر (الإستراتيجية السياسية، والإستراتيجية العسكرية، والإستراتيجية الاقتصادية والإستراتيجية الثقافية (35)  فتتولى الإستراتيجية السياسية إعداد الخطط والمبادئ التي تهيئ الأجواء لتحقيق الأهداف السياسية للدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي. داخلياً تتولى الإستراتيجية السياسية إدارة برنامج وطني لتحقيق الاستقرار والرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وخارجياً تسعى هذه الإستراتيجية وعبر موائد التفاوض إلى تهيئة البيئة الخارجية للدولة لتحقيق أهدافها السياسية في التصدي واحتوائهم للخصوم وكسب الحلفاء والأصدقاء وتحقيق المكانة والتأثير للدولة. وهذا لا ينفي أن تستمد الإستراتيجية السياسية فاعليتها من إمكانات الدولة لرفد فاعليتها في تحقيق أهدافها السياسية التي تصب في محصلتها في خدمة أهداف السياسة العليا للدولة(36). إذن فحركة هذه الإستراتيجية تكون في أوقات السلم والحرب، ونطاق هذه الحركة يكون في الداخل والخارج، خلافاً للإستراتيجية العسكرية التي وان ارتكنت إلى معين إمكانيات ألامه، إلا إنها تبقى في ساحة القتال في وقت الحرب أو الاستعداد لها، إذ تنصرف الإستراتيجية العسكرية إلى استخدام القوات المسلحة أو التهديد بها لتحقيق أهداف تعود في محصلتها إلى خدمة الهدف الاستراتيجي النهائي.

وقد يتم توظيف مجموع الوسائل الميسورة لإستراتيجية الدولة من دون التعويل على هذه الإستراتيجية لكن تبقى هذه الأخيرة ماثلة، فقد تضطر الدولة إليها (أي الإستراتيجية العسكرية) لحسم موقف لصالحها سواء كان هذا الموقف عدوانياً (هجومياً) أم دفاعياً(37)، فتعمد الإستراتيجية العسكرية إلى انتهاج نهج خاص تودعه في عقيدتها العسكرية، سواء من ناحية الاستعداد للحروب من حيث حجم القوات وأسلحتها (كماً ونوعاً) أو من ناحية خوض هذه الحروب باستخدام أساليب متعددة مباشرة عن طريق التعرض المباشر للخصوم أو غير مباشرة بتحطيم معنوياتهم وتفتيت قواهم، أو قد يكون استخدام الإستراتيجية العسكرية لأغراض الردع والتهديد من خلال المناورات واستعراض القوى وعقد التحالفات ترهيباً للخصم.أما الإستراتيجية الثقافية فهي الإستراتيجية التي ترعى العوامل النفسية للمواطن داخل الدولة وتكفل التأثير على الرأي العام العالمي خارج الدولة(38) سبيلاً لتحقيق الغرض من استخدامها والذي يصب في محصلته النهائية في خدمة غرض الإستراتيجية النهائي فتعمد هذه الإستراتيجية لاستخدام أدوات كالإعلام والمعلومات في تحقيق التلاحم بين أفراد المجتمع أفقياً، وتأمين التفافهم حول قيادتهم عمودياً بترسيخ ثقافة معينة على الصعيد الداخلي.

وتوظف الإستراتيجية الثقافية ذات الأدوات (الإعلام، والمعلومات) لنشر ثقافتها، والدفاع عن سياستها وحشد الرأي العام العالمي إلى جانب مواقفها على الصعيد الخارجي.وعند تقسيم الإستراتيجية تبعاً لكيفية الاستخدام للوسائل، نكون أمام إستراتيجية مباشرة وإستراتيجية غير مباشرة (39).الإستراتيجية المباشرة هي الإستراتيجية التي تبحث عن تحقيق الأهداف القومية بالطرق السريعة والوسائط الأكثر قوة والأكثر وضوحاً وتحديداً(40)، ويمكن تسميتها أيضاً بإستراتيجية الطرفين إذ تتوجه هذه الإستراتيجية بصورة مباشرة إلى الطرف الآخر وعبر آليات الإغراء والتهديد لإيقاع التأثير المناسب فيه تحقيقاً لأهداف الإستراتيجية النهائية.ومع التسليم بكون الأدوات الرئيسية للإغراء هي الإعلام والدبلوماسية إلا إن الإغراء يتفرع من حيث المكسب الاشتراطي للطرف الثاني فيكون الإغراء مادياً إذا توخى توظيف الإعلام والدبلوماسية لإقناع الطرف الآخر بان التغير الايجابي في مواقفه لمصلحة الدولة الأولى سينطوي على تحقيق مكاسب مادية له (معونات اقتصادية، معونات عسكرية، التنازل له عن منطقة معينة) ويكون الإغراء معنوياً إذا تم توظيف ذات الأدوات (الإعلام والدبلوماسية) لإقناع الطرف الآخر بان التغير الايجابي في مواقفه لصالح الدولة الأولى سيحقق له مكاسب معنوية (تأييده في قضية معينة أو مطلب معين، أو تحقيق مطلب معين له).

فيقوم الإغراء على توازن المصالح بين الطرفين، عن طريق تحقيق المنافع المتبادلة لهما، ويصب في محصلته النهائية في تحقيق إحدى أهداف الإستراتيجية.ويختلف الإرغام (التهديد) عن الإغراء بأنه يوظف وسائط مادية (عسكرية، اقتصادية) ووسائط معنوية (الإعلام والدبلوماسية) بدلاً من الارتكان إلى الوسائط المعنوية كما يفعل الإغراء، ويرنوا إلى تحقيق أهداف ومصالح تكون على حساب الطرف الآخر، فيقوم الإرغام على اللعبة الصفرية في الكسب والخسارة لأعلى توازن المصالح الموجود في الإغراء. وينقسم الإرغام إلى ذلك، تبعاً للوسائط المستخدمة فيه، على إرغام مادي حينما يعمد الطرف الأول إلى إرغام الطرف الآخر بواسطة التهديد أو باستخدام وسائل مادية (القوة العسكرية، العقوبات الاقتصادية) سبيلاً لتحقيق أهدافه، ويكون الإرغام معنوياً عند استخدم الطرف الأول أو التهديد باستخدام وسائل معنوية (الإعلام، والدبلوماسية) لإرغام الطرف الآخر على الاستجابة(41).من مزايا الإستراتيجية المباشرة سرعة الحسم، ووضوح الغرض، وعمق التأثير وذلك متأتي من تمحور أداءها باتجاه واحد على طرف بعينه لغرض معين. وما يشوب هذه الإستراتيجية التسرع والانكشاف مع احتمالية بالفشل وصعوبة تلافي الأخطاء فتفاعل التسرع غير المدروس في الأداء مع انكشافيته يفضي إلى الفشل وصعوبة تلافي الأخطاء.الإستراتيجية غيـر المباشـرة: ليس من جفاء الصواب تسمية هذه الإستراتيجية بـ(إستراتيجية الطرف الثالث أو إستراتيجية خلف الكواليس)، طالما إن سمتها الغموض والالتفاف إلى مسالك غير مباشرة بحثاً عن تحقيق الهدف، فالإستراتيجية غير المباشرة لا تتجه إلى طرف بعينه بأداة وهدف واضح، وإنما توظف الإمكانيات المتاحة لديها في تهيئة الظروف المحيطة بالطرف الثاني لتدفع به إلى تبني أنماط سلوكية تخدم في محصلتها الهدف النهائي للإستراتيجية.فيكون أداء هذه الإستراتيجية أشبه بأداء لاعب الشطرنج(42)  وذلك بتهيئة أجواء اللعبة والتهيئة أو التمهيد للفوز عن طريق سلسلة من النقلات لإيصال الخصم إلى النقطة المطلوبة تحقيقاً للغاية المطلوبة. وهكذا تتسم هذه الإستراتيجية بالمرونة، والتكيف مع الظروف والأحوال، وإمكانيات تلافي الخطأ وبالتالي تحقيق الهدف، بيد إن ما يشوبها الاستغراق في الزمن، واستنزاف الموارد، والاحتمالية في تقدير المكاسب. أما أنواع الإستراتيجية تبعاً لغاية الاستخدام فتكون إستراتيجية دفاعية وإستراتيجية هجومية، وتعرف الإستراتيجية الدفاعية بأنها قدرة الدولة على تجنب أو تفادي الانصياع أو الإذعان أو الخضوع للقسر والإكراه والإرغام الذي تحاول دولة أخرى إن تعرضها له أو تهديدها به(43) لذا يمكن اعتبار هذا النوع من الإستراتيجية استجابة يبديها الطرف الآخر على إستراتيجية الإرغام التي يبديها الطرف الأول، أو بالعكس.

غالباً ما تصنف الإستراتيجية الدفاعية إلى الإستراتيجية الدفاعية الساكنة والإستراتيجية الدفاعية المرنة (المتحركة) فإذا ما انتظرت الدولة العدوان أو لحظة البدء بتنفيذ التهديد وتركت الخيار للخصم للقيام بالخطوة الأولى كانت إستراتيجيتها دفاعية ساكنه(44) عندها تسلك الدولة المدافعة سلوكاً باتجاهين: الاتجاه الأول داخلي بترصين بنيان الدولة الداخلي والاستعداد به للاحتمالات المتوقعة، وسد الثغرات التي من الممكن أن يستل منها الخصم إلى الداخل لتفتيت الجبهة الداخلية والثاني خارجي ويظهر من خلال إقامة الأحلاف ذات الطبيعة الدفاعية أو تقوية علاقتها مع أطراف أخرى للضغط على الطرف المهاجم، أو الدخول معه في مفاوضات وصولاً لتسوية الأزمة  أما الإستراتيجية الدفاعية الناشطة (المتحركة) فينطبق عليها وصف الاستباقية فإذا ما أحست الدولة بمصدر الخطر، ونية الخصم -قبل ترجمتها إلى سلوك عدواني- اتخذت الخطوات العملية لمواجهة التحدي على ذات الميادين (الداخلية والخارجية) بفرق التوقيت، بعبارة أخرى إن الإستراتيجية الدفاعية الساكنة تنتظر المبادرة من الخصم أي لحظة وقوع العدوان والهجوم لتقوم بتحصيناتها، في حين إن الإستراتيجية الدفاعية المتحركة تستعد لمواجهة الخصم قبل شروعه بالعدوان.وتتمثل الإستراتيجية الهجومية في قدرة الدولة على فرض إرادتها على دولة أخرى بتوظيف استخدام الوسائل المتاحة لإيقاع التأثير وفرض الإرادة على الخصوم لتحقيق أهداف ذات طبيعة(45) تكاد تكون عدائية وذلك عبر سلوكيات متعددة منها (امتلاك القدرات العسكرية والاقتصادية والثقافية المتفوقة، إقامة الأحلاف والتكتلات والنشاط البارز في المنظمات الدولية فيكون هدفها استركاع الخصوم، بذلك تغلب على هذه الإستراتيجية سمة العدوان(46) وتنطوي على مزايا منها إنها تملك عنصر المبادئة وحرية اختيار وقت الحركة وأداتها ونقل الحركة إلى ساحة الخصوم فضلاً عن إنها تكسب دولتها النفوذ والمكانة وما يعيب هذه الإستراتيجية بأنها تكون على الغالب ذات صبغة عدوانية مستهجنة دولياً خاصة إذا ما خلت من مبرراتها.



الاستنتاجات

من سياق ما تقدم  يمكن استخلاص الاستنتاجات الآتية:

-   لم يولد مفهوم الإستراتيجية متكامل الأبعاد والصفات بل تدرج في اكتساب هويته التعريفية من المتغيرات التي ارتبطت به والتطورات التي مرت بها الأمم التي مارسته عبر صيرورتها التاريخية والتي نقلته من الميدان العسكري إلى ميادين أكثر شمولية والتصاق بحياة الأمم لا تقتصر على الحرب وإنما تمتد إلى وقت السلم.

-   إن التفاوت في إمكانيات الدول يفرض التفاوت في طبيعة أهدافها وهو الأمر الذي ينعكس سلباً وإيجاباً على بلورة حدود الوظيفة الإستراتيجية وبناء قاعدتها النظرية والعملية. أي بعبارة أخرى إن وظيفة الإستراتيجية تغطي المسافة الواصلة بين الإمكانيات المتاحة الدولة والغايات التي تسعى إليها دون إن تتحدد بنطاق التخطيط والرؤية الاحتمالية حيث تتعداها بالنزول إلى الواقع والاحتكاك بمعطياته ومعوقاته سعيا إلى تذليلها وبلوغ أهدافها.
-   يتداخل مع المؤهلات المادية لمساحة الانجاز الاستراتيجي مؤهلات معنوية مثل (الخبرة والكفاءة) تنتقل معها الإستراتيجية من ضفة القوة الغاشمة إلى ضفة القدرة الواعية على استحصال الأهداف بأقل قدر من الكلف.

-   تتنوع مزايا الأداء الاستراتيجي بتنوع فروع الإستراتيجية ذاتها فالوظيفة الإستراتيجية تنقاد بمحددات الوسيلة وطريقة استخدامها ومثل هذا التصنيف يكسب الوظيفة الإستراتيجية مرونة وتنوعاً في الأداء وقدرة على استحصال الهدف بتغير أنماط الوسائل واستخداماتها تبعا لذلك يمكن استشفاف الإطار النظري للإستراتيجية الذي يكرس البعد الوظيفي والإجرائي لها.  




الهوامش

1- احمد داود سليمان، نظريات الإستراتيجية العسكرية الحديثة، بغداد: دار الحرية للطباعة، 1988، ص17.
2- كلاوزفتز، فن الحرب، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، الكتاب الثالث، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، سنة الطبع (بلا)، ص218.
3- نقلا عن د. كاظم هاشم نعمة، الوجيز في الإستراتيجية، بغداد: شركة أياد للطباعة الفنية 1988، ص88.
4- ادوارد ميدايرل، رواد الإستراتيجية الحديثة: الفكر العسكري من ميكافلي إلى هتلر، ترجمة محمد عبد الفتاح إبراهيم، الكتاب الثاني، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، سنة الطبع (بلا)، ص231.
5-  International Encyclopedia of Social science, Vol 15, New York: the Macmillan Company, Inc, 1958, P.282.
6- ب.هـ ليدل هارت، الإستراتيجية وتأريخها في العالم، ترجمة الهيثم الأيوبي، بيروت: دار الطليعة، 1967، ص 399.
7- اندريه بوفر، مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الثانية، 1970، ص28.
8- د. كاظم هاشم نعمة، مصدر سبق ذكره، ص90.
9- ليدل هارت، مصدر سبق ذكره، ص400.
10-   نقلا عن د. كاظم هاشم نعمة، مصدر سبق ذكره، ص 95.
11-   The Encyclopedia Britannica, London : The Encyclopedia Britannica Company, Ltd.,  Vol 21 , p.453.
12-   The Encyclopedia Americana, Vol 25, New York: Americana Corporation, p.272.
13- نقلا عن د. حسين عمر توقة، أبعاد إستراتيجية، عمان: دار المشرق للنشر والتوزيع، سنة الطبع (بلا)، ص15.
14- د. خليل السامرائي، مدخل إلى الإستراتيجية، محاضرات غير منشورة ألقيت على طلبة كلية العلوم السياسية - جامعة بغداد، 1994، ص32.
15-   Encyclopedia Britannica, Op.cit, p290.
16-   International Encyclopedia, Vol 17, New York: Lexicon- 16 Publications, Inc., 1980, p30.
17-   Encyclopedia Britannica, Op.cit, p
18- د. على الدين هلال، الأمن القومي العربي: دراسة في الأصول، مجلة شؤون عربية، العدد 35، 1984، ص 19.
19-   د. مازن إسماعيل الرمضاني، السياسة الخارجية: دراسة نظرية، بغداد: دار الحكمة، 1991، ص59.
20-   المصدر السابق ص31.
21- د. مازن إسماعيل الرمضاني، في التخطيط السياسي الخارجي: دراسة نظرية، مجلة الحقوقي، العددان الأول والثاني، 1978، ص 27.
22- ذهب الأستاذ بنجامين تريفوا إلى نفس هذا الرأي في تعريفه الإستراتيجية بأنها الهيكل الذي يقود الخيارات إلى تحديد طبيعة المؤسسة وتوجهها .
انظر: القوة المحركة: إستراتيجية جديدة للمؤسسة، ترجمة هشام القروي، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1990، ص11.
23- وهو التعريف الذي أعطاه الدكتور خليل السامرائي للإستراتيجية. انظر د. خليل السامرائي، مصدر سابق، ص 32.
24- د. إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية: دراسة في الأصول والنظريات، الكويت: منشورات ذات السلاسل، الطبعة الخامسة، 1987، ص 128.
25- د. جمال داود سلمان وطاهر فاضل حسون، التخطيط الاقتصادي، الموصل: دار الكتب للطباعة والنشر، 1989، ص81.
26-   د. عمرو محي الدين، التنمية والتخطيط الاقتصادي، بيروت: دار النهضة العربية، 1972، 274.
27- د. عبد الغفور حسن كنعان، نظرية وتجارب التخطيط الاقتصادي، الموصل: دار الحكمة للطباعة والنشر، 1993، ص62 - 63.
28-   د. مازن إسماعيل الرمضاني، مصدر سابق، ص 326-327.
29-   د.حسين عمر، التخطيط الاقتصادي، القاهرة: دار المعارف، 1967، ص 185.
30-   للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى الكتب التالية:
"   د. إسماعيل صبري مقلد، مصدر سابق،  ص 173 - 193.
"   د. مازن إسماعيل الرمضاني، مصدر سابق، ص141-236.
"   د. كاظم هاشم نعمة، العلاقات الدولية، بغداد: شركة إياد للطباعة الفنية، 1987، ص 108 - 1554.
"   A.F.K. Organski, world politics, New York: Alfred A. Knopf, Inc. Second Edition , 1968, pp 124 - 182 .
"   Peter A.toma (and others), Basic Issues in International Relations, Boston: Allyn and Bacon, Inc., 1974, pp 178 - 226.
31- المعلومات كما يعرفها الدكتور مازن إسماعيل الرمضاني هي الأداة التي يتم من خلالها تحويل البيئة الحركية إلى البيئة النفسية والتي يتم بضوئها إدراك الموقف السياسي واتخاذ القرار.
    انظر د. مازن إسماعيل الرمضاني، في التخطيط السياسي الخارجي، مصدر سابق، ص47.
32-   د. عمرو محي الدين، مصدر سابق، ص 294.
33-   د. حسين عمر، مصدر سابق، ص 185.
34-   ليدل هارت، مصدر سابق، ص 91.
35-   د. كاظم هاشم نعمة، الوجيز في الإستراتيجية، ص102-110
36-   المصدر نفسه، ص 105.
37-   المصدر نفسه، ص 103.
38-   المصدر نفسه، ص 108.
39- ثمة اتفاق بين المعنيين على فهم الإستراتيجية المباشرة وغير المباشرة بدلالة الاستخدام المباشر وغير المباشر للوسائل العسكرية. غير إن هذا الفهم للإستراتيجية المباشرة وغير المباشرة لم يعد يصلح في وقت صارت تتحرك فيه الإستراتيجية المعاصرة في مدارات أوسع من تلك التي ارتبط بها في السابق، فالإستراتيجية اليوم صارت تعمد إلى توظيف كل إمكانات الدولة المتاحة لبلوغ أغراضها بصورة أكثر حذرا وابلغ أثراً، وحتى الاستخدام العسكري للإستراتيجية قد أضحى في عصر السلاح النووي انتحارا متبادلا من قبل الأطراف الحائزة لهذا السلاح.
   عليه فمن الضروري الخروج بفهم الإستراتيجية المباشرة وغير المباشرة إلى مدارات أوسع وأرحب لملائمة متطلبات العصر والتطورات التي شهدت العالم المعاصر.
40-   احمد داود سليمان، مصدر سابق، ص 50.
41-   د. إسماعيل صبري مقلد، مصدر سابق، ص 201- 202.
42- وهو الوصف الذي أطلقه جارلس اوليرتش على أداء الإستراتيجية السوفيتية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية أبان الحرب الباردة.
   انظر جارلس اوليرتش، الحرب الباردة وما بعدها، ترجمة فاضل زكي محمد، بغداد: دار الحرية للطباعة، 1976، ص 48.
43- هنري كيسنجر، العقيدة الإستراتيجية الأمريكية ودبلوماسية الولايات المتحدة الأمريكية، ترجمة حازم طالب مشتاق، بغداد: دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع، 1987، ص29.
44-   المصدر نفسه، ص 30.
45-   المصدر نفسه، ص 29.
46- ينبغي الإشارة إلى إن الإستراتيجية الهجومية قد تتوخى تحقيق أهداف مشروعة وغير عدوانية في أحيان أخرى ومن أمثلة ذلك: (النضال ضد المستعمر، استرداد أراضي مسلوبة بالقوة، تغيير وضع دولي فيه ظلم واقع على طرف ما) لذلك لا يسعني تعميم وصف العدوانية على هذه الإستراتيجية الهجومية، ومع ذلك فأن تقييم تحركات الدولة في المجتمع الدولي لا يخضع لرؤيتها الخاصة فحسب، ولا يخضع كذلك لاعتبارات مثالية أو قانونية محددة، وإنما يخضع لرؤية نسبية من جانب القوى الدولية تقدم المصلحة على المبدء في تقييم تحرك تلك الدولة. وعليه يخضع تقييم هذه الإستراتيجية لنظرة المجتمع الدولي النسبية لها.
د. سامر مؤيد
باحث في المركز - تدريسي علوم سياسية/ كلية القانون/ جامعة كربلاء
الإستراتيجية من منظور وظيفي إجرائي