الرجوع للعدد الخامس
حفظ هذا المقال فقط
الرقابة القضائية على دستورية القوانين كضمان للحقوق والحريات العامة في ظل دستور العراق الدائم لعام  2005
ياسر عطيوي عبود
تدريسي في كلية القانون - جامعة كربلاء
المقدمة
لاشك إن الحقوق والحريات العامة تحتل قيمة اجتماعية رفيعة في أفئدة البشر باعتبارها أسمى القيم الإنسانية إن لم تكن اسماها على الإطلاق، فهي ترتبط بهم وجوداً وعدماً، فأصرت البشرية في أطوارها المختلفة على الإيمان والتمسك بها، كما إنها من مقومات الإنسان نفسه ولا يمكن أن تكون ترفاً، إذ لابد من صيانتها، فجميع الثورات والانتفاضات التي قامت بها الشعوب ضد تعسف السلطات الحاكمة، كان الهدف منها انتزاع هذه الحقوق والحريات ومن ثم فانه في النتيجة تم تسطيرها في نصوص دستورية وقانونية تكفل ممارستها وحمايتها.

ويعد الدستور العراقي الدائم لعام 2005 (1). أحد الدساتير الحديثة الذي أعطى قسطاً واسعاً في الاهتمام بالحقوق والحريات العامة، فجاء بنصوص صريحة تفصيلية تكفل تلك الحقوق والحريات.

إن احتواء الدستور على تلك النصوص إنما يسبغ عليها القدسية والاحترام من قبل الجميع حكام ومحكومين على حد سواء، على اعتبار إن قواعده تسمو على جميع القوانين المرعية في الدولة.

ولكن هل إن مجرد وجود هذه النصوص في صلب الدستور يعد بحد ذاته ضمانة للحقوق والحريات ؟ الإجابة على هذا السؤال ستكون بالتأكيد بالنفي، إذ صحيح إن النص عليها في صلب الدستور يعد أمرا ضروريا لكن لابد من إيجاد وسيلة يمكن بواسطتها مراقبة أي تصرف من شأنه أن يشكل اعتداءً وانتقاصاً من الحريات خاصةً إذا صدر الاعتداء من هيئة تمارس اختصاصاتها باسم الشعب ألا وهي السلطة التشريعية لذلك حرص الدستور الدائم لعام (2005) على إيجاد مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين لتفحص أي قانون من شاًنه أن يشكل اعتداء على نصوص الدستور.

وعليه سنحاول في هذا البحث أن نبين مدى اعتبار الرقابة القضائية على دستورية القوانين كضمان للحقوق والحريات العامة التي جاء بها الدستور العراقي الدائم لعام 2005 وفق مبحثين متتاليين:-

- المبحث الأول:- مفهوم وأهمية الرقابة القضائية على دستورية القوانين

- المبحث الثاني:- الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ظل الدستور العراقي الدائم لعام 2005.



المبحث الأول:-
مفهوم وأهمية الرقابة القضائية على دستورية القوانين

عند استقرائنا اغلب دساتير دول العالم على اختلاف نظمها السياسية والايدولوجية نجد إنها تمنح احدي محاكمها مهمة الرقابة على دستورية القوانين التي يصدرها المشرع العادي، وهذه الطريقة تعد ضمانة حقيقية تكفل ممارسة الأفراد لحقوقهم المنصوص عليها في الدستور، وتأتي هذه الأهمية في إمكانية مسائلة السلطة التشريعية أمام الهيئة القضائية في حالة تجاوزها للحدود التي رسمها المشرع الدستوري في تنظيم ممارسة تلك الحقوق والحريات، وذلك بإلغاء أو إبعاد تطبيق القانون المحكوم بعدم دستوريته، وبسبب ضرورة الدور الذي يلعبه هذا النوع من الرقابة، فان الفقه الدستوري عني ببيان مفهومها، وأهمية وجودها في الدول القانونية، وهذا ما سنوضحه في المطلبين الآتيين:-

- المطلب الأول:- مفهوم الرقابة القضائية على دستورية القوانين.

- المطلب الثاني:- أهمية الرقابة القضائية على دستورية القوانين.
المطلب الأول :- مفهوم الرقابة القضائية على دستورية القوانين.  

إن تحديد مفهوم الرقابة القضائية على دستورية التشريعات التي يصدرها البرلمان قد نال اهتمام الفقه القانوني من خلال ما طرحه من مفاهيم محدده لها، فقد عرفها البعض بأنها ((عملية من خلالها تستطيع المحاكم إخضاع أعمال وتصرفات الوكالات الحكومية الأخرى بالأخص المشرعين للاختبار لمعرفة موافقتها للمبادئ الدستورية الأساسية وإعلان المواد المخالفة لاغيه وباطلة))(1)، فيما عرفها آخرون بأنها ((البت في مصير قانون ما من حيث كونه يخالف أو لا يخالف الدستور يعود لهيئة قضائية أي إلى محكمة))(2). ويذهب البعض الآخر في تعريف الرقابة القضائية إلى إنها ((حق المحاكم بمقتضى وظيفتها الأصلية وبناء على طلب من ذي مصلحة بتفحص قانون ما للتحقق من مدى توافقه مع دستور البلاد، ومن ثم الامتناع عن تطبيق هذا القانون أو إلغائه على حسب الأحوال إذا ثبت لها تعارضه مع الدستور))(3)



  المطلب الثاني :-
أهمية الرقابة القضائية على دستورية القوانين

   أسهب جانب من الفقه الدستوري في تحديد أهمية وجود رقابة على دستورية القوانين، إذ يرى الفقيه ((جورج بيردو)) في أهمية هذا النوع من الرقابة بقوله، مادام الدستور هو القانون الأعلى في الدولة فلا مناص من احترامه بما يستتبعه هذا الاحترام من بطلان القوانين المخالفة له، ولما كان من غير المتصور إسناد عملية الرقابة على دستورية القوانين إلى واضعيه، فانه يتعين وجود هيئة أخرى تختص بإقرار عدم الدستورية وبالتالي الحيلولة دون ترتيب القانون غير الدستوري لأية آثار(1)، كما يؤكد البعض إن أهمية الرقابة هذه تعود إلى مبدأين أساسيين، الأول تحقيقها لمبدأ المشروعية و الرقابة على تصرفات الحكام هي من أهم القواعد الرئيسية في أية حكومة قانونية  إذ لابد في كل حكومة عادلة من خضوع الحكام جميعاً رئيس الدولة والوزراء والبرلمان، لمبدأ المشروعية في تصرفاتهم سواء كانت قوانين  أو لوائح أو قرارات أو إجراءات فردية، ومن ثم لا يستقيم القول بان القواعد التي عينها الدستور للسلطة التشريعية لا رقيب عليها سوى ضمير أعضاء هذه السلطة ومسؤولياتهم الأدبية أمام الأمة إذ لا يمكن الأخذ بها في حكومة شرعية ويجب أن تعمل في حدود الدستور وتخضع في تصرفاتها لقيوده وأحكامه.

أما المبدأ الثاني فمؤداه، أن هذه الرقابة من طبيعة عمل القاضي التي تتمثل بتطبيق القانون وإيجاد الحل القانوني للنزاع المطروح عليه وهو ملزم بتطبيق القوانين كما هو ملزم أيضا باحترام الدستور الذي هو القانون الأساسي في الدولة ومن المسلمات انه إذا تعارضت لائحة مع قانون، وجب تطبيق أو ترجيح الأخير لأنه أعلى، وكذلك إذا تعارض قانون عادي مع الدستور وجب إعلاء كلمة الأخير باعتباره القانون الأعلى في الدولة(2).كما ويرى البعض أيضا، إن الرقابة القضائية خاصة التي تمارس بطريق الدعوى المباشرة، تؤدي إلى وحدة الحلول القضائية بشأن دستورية القوانين طالما إن هناك جهة قضائية عليا واحدة متخصصة في ممارسة تلك الرقابة حيث تصدر أحكامها بشأن قانون معين سلباً أو إيجاباً وفي كلتا الحالتين لا يمكن إثارة مسألة دستورية ذلك القانون ثانية لان قرارها يتمتع بحجية مطلقة لكونه يسري تجاه الكافة(1).

وهكذا يظهر لنا جليا أهمية وجود الرقابة القضائية على دستورية القوانين باعتبارها من الوسائل الرئيسية التي يمكن بواسطتها ضمان احترام ونفاذ القواعد الدستورية وتضمن أيضا صدور القوانين من السلطة التشريعية في الإطار الدستوري دون أي إخلال أو تعدي، وهذا بلا شك يحقق في النهاية احترام الحقوق والحريات العامة التي عملت التشريعات الدستورية على كفالتها ومن ثم يجب أن تأتي القوانين محكومة بما تحدده الدساتير من أحكام وضوابط في هذا الصدد.
المبحث الثاني:- الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ظل الدستور العراقي الدائم لعام 2005

كما ذكرنا سابقاً إن من مقومات الدولة القانونية هو وجود رقابة قضائية على دستورية القوانين التي يصدرها البرلمان لمراقبة مدى مطابقته  مع نصوص الدستور من خلال منح الأفراد أو بعض الجهات، حق الطعن أمامها بأي قانون يعتقد انه مخالف للدستور، ولهذا عمل دستور العراق الدائم لعام 2005 على تحقيق هذا الأمر من خلال استحداث محكمة مختصة لهذا الغرض تتمثل بالمحكمة الاتحادية العليا، ولمعرفة كيفية تشكيل هذه المحكمة والية عملها فإننا سنقسم هذا المبحث إلى المطلبين الآتيين:- 


  المطلب الأول:-
تشكيل المحكمة الاتحادية العليا:- 

إن الأساس القانوني لانشاء هذه المحكمة يعود إلى الأمر رقم (30) لسنة 2005(1)، ثم جاء الدستور الدائم يحدد كيفية تكوينها واختصاصاتها والية عملها، فقد قضى الدستور بأن ((المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة مالياًو إداريا ))(2) ونص كذلك ((تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون يحدد عددهم وطريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب))(3)

ويلاحظ من النصوص أعلاه إن الدستور أعطى قوة دستورية فعالة للمحكمة من خلال جعلها هيئة قضائية مستقلة أداريا ومالياً، أي انه عمل بمبدأ الفصل بين السلطات، فلا تخضع هذه المحكمة لرقابة أو إشراف أية هيئة تنفيذية أو تشريعية هذا من جهة، كما إن القانون الذي ينظم عملها يُشرع بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب وهذا لا يعني إن المجلس هو رقيب على المحكمة بل إن القانون الذي تستند المحكمة في عملها عليه يقره البرلمان باعتباره ممثلاً عن الشعب، أما من حيث تكويها، فأن الدستور لم يجعل هيئة المحكمة حكراً على ذوي اختصاص معين بل انه مزيج من مجموعة اختصاصات فقهية إسلامية وقانونية وقضاة ويبدو إن المشرع الدستوري أراد أن تكون هذه المحكمة مثالية في تكوينها وعملها وبالتالي يحقق مبدأ الدولة القانونية بعد أن كان العراق خالياً من هذا المبدأ نظراً لغياب الرقابة القضائية على دستورية التشريعات التي يصدرها البرلمان ومن شانها أن تمس بالحقوق والحريات.  


المطلب الثاني:-
اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا:-

افرد الدستور العراقي نصاً صريحاً يحدد بموجبه اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا وهي ما يلي:-

1. الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة.

2. تغيير نصوص الدستور.

3. الفصل في القضايا التي تنشا عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء وذوي الشأن من الأفراد وغيرهم، حق الطعن المباشر لدى المحكمة.

4. الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية.

5. الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الأقاليم والمحافظات.

6. الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وينظم ذلك بقانون.

7. المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب.

8. الفصل بين تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم وكذلك الفصل في تنازع الاختصاص الذي يحصل بين الهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم.

ولعل من ابرز ما يهمنا في هذا الصدد الاختصاص الرقابي للمحكمة إذ ينعقد لها الاختصاص بمراقبة مدى توافق القوانين أو الأنظمة مع الدستور وذلك إذا ما تم الطعن أمامها بدعوى مباشرة ترفع من قبل مجلس الوزراء أو الأفراد وغيرهم ويعد هذا تطوراً كبيراً في مسار القضاء الدستوري العراقي عندما يسمح للأفراد تقديم الطعون بأي قانون من شانه أن يمس بحقوقهم وحرياتهم المنصوص عليها في الدستور.

هذا وتعد القرارات الصادرة من المحكمة نهائية وملزمة لجميع السلطات في الدولة فلا يجوز الطعن بها مجدداً، وهذا يعني أن المحكمة إذا ألغت قانون من شانه أن يقوض الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، فان البرلمان يكون ملزماً عندئذ باتخاذ الإجراءات اللازمة لإلغاء القانون .
الخاتمة



  بعد الانتهاء من هذا البحث لابد لنا أن نبين أهم النتائج التي توصلنا   إليها وهي:-

1. تتمتع الحقوق والحريات العامة بضمانات حقيقية وأكيدة في ظل الدستور العراقي الدائم لسنة 2005، من خلال استحداث محكمة اتحادية عليا يكون من بين اختصاصاتها مراقبة مدى توافق القوانين مع الدستور وإلغاء القانون الذي تراه مقوضاً للحقوق والحريات التي نص عليها الدستور.

2. إن الضمانات المقررة للحقوق والحريات في إطار الرقابة القضائية على دستورية القوانين نجدها من جهة تتجسد بذاتية المحكمة الاتحادية العليا التي أعتبرها الدستور هيئة مستقلة إداريا وماليا وبالتالي لا تخضع للأهواء والتيارات السياسية والحزبية، كما إن تشكيلها يحقق ضمانة مهمة من خلال الأعضاء المكونين لها، فهم خليط من اختصاصات مختلفة (فقهية إسلامية وقانونية وقضائية) وهذا بلا شك سيقوي من المحكمة علمياً وعملياً مما يجعل قراراتها موضوعية.

3. سمح الدستور للأفراد بالطعن المباشر أمام المحكمة بأي قانون أو نظام يصدره البرلمان في حالة اعتقادهم بأنه يمس أو ينتقص من حقوقهم وحرياتهم الدستورية وهذا ضمانة بحد ذاته .

4. وأخيراً فان الضمانة الأخرى تتعلق بالطبيعة القانونية لقرارات المحكمة حيث تكون نهائية لا يجوز الطعن بها مجدداً، وملزمة لجميع الجهات والسلطات العامة في الدولة تنفيذية وتشريعية .





الهوامش

(1) نشر دستور جمهورية العراق الدائم لسنة ( 2005 ) في جريدة الوقائع العراقية العدد ( 4012 ) في ( 28\12\2005 ).

(1) Robert K, carrels and others, American Democracy, 5th edition, Holt Rinehart & Winston, Inc, USA, 1968-P374.

(2) د. منذر الشاوي، القانون الدستوري، نظرية الدستور، ج2، مطبعة شفيق،  بغداد، 1972.

(3) يعقوب عزيز قادر، ضمانات حقوق الإنسان في إقليم كردستان العراق ط1، مؤسسة (O.P.L.C) للطباعة والنشر، أربيل،2004، ص93-94.

(1) د.علي السيد باز، الرقابة على دستورية القوانين في مصر، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، 1978، ص712 .

(2) د. السيد صبري، مبادئ القانون الدستوري، القاهرة، 1949، ص646 وما بعدها.

(1) د. إحسان المفرجي وآخرون، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق، بغداد، 1990، ص181.

(1) نشر الأمر في جريدة الوقائع العراقية العدد (3996) في (17\3\2005).

(2) انظر الفقرة (أولاً) من المادة (92) من دستور العراق الدائم لعام 2005.

(3) انظر الفقرة (ثانياً) من المادة (92) من الدستورالعراقي الدائم.