الرجوع للعدد الخامس
حفظ هذا المقال فقط
إشكالية مفهوم الدفاع عن النفس!!
حسن عبيد عيسى
محلل سياسي وعسكري
عندما أغارت الطائرات الاسرائيلية على  منشأة نووية عراقية في مطلع عقد الثمانينات، فان ذلك عد عملا مشروعا كونه دفاع عن النفس، وكان الرأي العام العالمي وقتذاك،إضافة إلى قوى التأثير في العالم الغربي غير مبرمجين للانصياع التام للرغبات الأمريكية،ولم يكن هنالك إرهاب فكري تمارسه أمريكا والصهيونية على شكل قذف الخصوم بتهمة اللاسامية، فإن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة أدانا الغارة الاسرائيلية،ولم يعترفا بحقها المزعوم في الدفاع عن النفس،بل قررتا فرض تعويض يدفعه الكيان الصهيوني للعراق عما الحقه العدوان من ضرر على منشآته العلمية، إضافة إلى إن العلماء المختصين بالذرة ورجال القانون الدولي عدوا ذلك العدوان بادرة خطيرة تتعارض مع القانون الدولي الذي يحرّم الهجوم على مكامن المواد الخطرة ويعدها جريمة حرب..الوضع الآن بعد الهيمنة الأمريكية الطاغية بعد انهيار القطب الثاني في قيادة العالم(الاتحاد السوفيتي) والتنامي الصهيوني الذي يقابله




التشجيع الأمريكي
وكان بوش يهتف لمجرم الحرب المخضرم كلما وجه ضربات مدمرة يزهق فيها عشرات الأنفس في غزة وقبل ان تتعالى صرخات الضميرفي أوربا وغيرها، ويقول عباراته التي حفظناها عن ظهر قلب ومنها: إنني أتفهم دواعي الدفاع عن النفس لدى اسرائيل.

وعندما رأى الإرهابي العتيق شارون ان بقاء مستعمراته وقواته في القطاع المتأجج يعني انه سيستمر بدفع تكاليف لايمكن ان يحافظ على مكانته مع استمرارها،لذا رأى أن ينسحب، على الرغم من عدم وجود قرار دولي يتعكز عليه كما تعكز باراك المنسحب من لبنان، ولكن شارون أكثر قدرة على إسكات الأصوات المعارضة، فماضيه الإرهابي العتيق يشفع له فيما يفعل، وهو أمين بنظر الأغلبية على المصلحة الصهيونية أكثر من غيره.

ومع انه انسحب وفكك المستعمرات التي بمتناول صواريخ المقاومة الفلسطينة، إلا انه اضمر في نفسه فكرة الانتقام البطئ من غزة التي خدشت سيرته وجعلته يجنح إلى الأمر الذي  دمر مستقبل باراك،أي الانسحاب من طرف واحد.. فكان ان أطلق العنان لطيرانه الحربي في استباحة سماء غزة باستمرار،وكانت طائراته المسيَّرة جاهزة لإطلاق الصواريخ على أي هدف دونما رادع ولا تهيّب.. بينما وضع خطا أحمرا لا يحق للسكان في المدينة التي ظلت محاصرة على الرغم من الانسحاب، تجاوزه،بل يمنع حتى اقترابهم منه، وكانت المدفعية والدبابات تصبان حممهما على جوانب ذلك الخط، وتتعداه ببضعة مئات من الأمتار أحيانا فتشمل مزارع أهالي المدينة، لتصيب أكبر قدر من الفلسطينيين، حتى ولو كانوا أولادا يمارسون لعبة كرة القدم بأمان وهم يشعرون أنهم بعيدون عن خط الموت بينما كانت الطائرات ترسل صواريخ الموت كلما حلا لها ذلك.

عموما استمر ذلك الانتقام البطئ وغير المهيج أحيانا للكثير من مكونات الرأي العام الغربي ذي الفضول الزائد عن الحد مما يزعج شارون كثيرا، والذي لايتفهم دواعي اسرائيل للدفاع عن النفس كما يتفهمها الرئيس بوش، وكانت الحصيلة مهولة، فبعد سنة من الانسحاب، كانت حصيلة هذا الانتقام الهادئ والمبرمج والذي استمر على مدار اليوم، ثلاثمائة وثمانية وسبعين شهيدا وشهيدة، إضافة إلى ألف وثلاثمائة وخمسة وثمانين جريحا وجريحة.. ولك ان تتصور عزيزي القارئ كم من الجرحى صار كمن مات عمليا،ولكنه ما زال في عداد الأحياء ثقيلا على ذويه وهو يستنزف مواردهم من أجل تأمين مستلزمات علاجه وعافيته المسلوبة؟.
طبيعة التهديد العربي

ولا بأس من التوقف هنيهة لنتعرف على بعض نماذج التهديد للأمن الصهيوني الذي يستوجب الدفاع ضده ضمن مفهوم الدفاع عن النفس، فنقول.. أي خطر على امن إسرائيل يشكله فلاح عجوز ذهب ليسقي مزروعات حقله الذي لا يبعد عن آخر بيت في المدينة غير بضعة مئات من الأمتار، أو ليجني بعض ثمار حقله  ليقيت عائلته ،حتى تمزقه الدبابات الإسرائيلية المتربصة،والتي تقتل دفاعا عن النفس؟.. ثم انه دأب على عمله ذاك عشرات السنين دون أن يلحق ضررا بأمن إسرائيل أو يشكل خطرا عليها، فما بال ذلك الأمن يهدده هذا العجوز لمجرد إن إسرائيل انسحبت من غزة؟

وإذا ما تجاوزنا شارون وخليفته الأمين جدا على نهجه أولمرت الذي دمر لبنان دفاعا عن النفس،وسألنا بوش المتفهم دائما لدواعي الدفاع الإسرائيلي عن النفس، هل ان إزهاق أرواح الأطفال الذين يلعبون الكرة في الساحات العامة هو دفاع عن النفس، وهل ان استهداف البيوت الآمنة دفاع عن النفس؟.



الحرب الاستباقية عدوان غير مبرر
قد يجنح الرئيس بوش إلى ذات الفعل الإجرامي لشارون وفريقه الدموي،أوليس هذا الرئيس هو الذي دمر العراق ليدافع عن أمن الشعب الأمريكي، من خلال تبنيه وتنفيذه لنظرية الحرب الاستباقية التي هي فحوى مفهومه للدفاع الأمريكي عن النفس ضد الأخطار الخارجية العظمى، وكأن العراق الذي كان يعاني من الجوع وسعة الفجوة التي تفصله عن العالم، يشكل خطرا رهيبا على الأمن الأمريكي، ما أوجب قيام الرئيس بوش بواجبة الذي يحتمه عليه الدستور والضمير ليحقق الدفاع عن النفس ضد الخطر العراقي.

ومن عجائب مهزلة الاستخدام السئ لمفهوم الدفاع عن النفس،إن أمريكا عندما فرضت مناطق حظر الطيران في شمال وجنوب العراق متذرعة بكذبة أنها بذلك تنفذ قرارا صادرا عن الأمم المتحدة بهذا الشأن، بينما ليس هناك من أحد يستطيع وضع إصبعه على وثيقة للأمم المتحدة تتضمن إشارة ولو باهتة أو حتى مبهمة لذلك الحظر.. أمرت طياريها بقصف ملاعب للكرة في محافظة نينوى وغيرها، وقتل الأولاد فيها واحراق حقول الحنطة وتدمير مساكن الناس الامنين في السماوة وغيرها بحجة ان الطيارين كانوا يدافعون عن أنفسهم ضد أجهزة الكشف الرادارية.. وان لم يدافعوا فإنهم كانوا يتسلون باختراق حاجز الصوت لإحداث أصوات مدوية تهشم زجاج النوافذ الذي يتشظى فيقتل ويجرح سكان المنازل داخل منزلهم، إضافة إلى تحميلهم تكاليف تبديل ألواح الزجاج المهشم والتي كانت فوق قدرة العراقي على تحملها، والسبب هو دفاع الطيارين الأمريكان عن أنفسهم.

وبذا فان المناطق التي زعمت أمريكا أنها فرضت حظر الطيران فيها حماية لسكانها من طيران النظام، كانت تتعرض يوميا إلى قصف أمريكي متواصل وكان الطيارون الأمريكان يقتلون سكانها باستمرار، دفاعا عن النفس!!ولا أدري ماذا جاء بهم يومذاك  الى بلدنا لينسوا سماءه الطاهرة فيضطروا الى الدفاع عن أنفسهم؟



هل ثمة حاجة إلى تدخل القانون
ترى هل سيحتاج الأمر إلى الطلب من محكمة العدل الدولية والمؤسسات القانونية التابعة للأمم المتحدة، وضع تعريف صريح وواضح ودقيق لمصطلح الدفاع عن النفس ومتى يكون دفاعا مشروعا عن النفس ومتى يكون عدوانا على الآخرين لمنع الدمويين في أمريكا وإسرائيل من خلط الأوراق وخداع السذج عندما يمارسون دمويتهم ضدنا تحت ذريعة الدفاع عن النفس؟

فإذا كان المجتمع البشري لم ينجح في وضع تعريف قانوني للإرهاب وهو عامل في هذا السبيل منذ أكثر من سبعين سنة (انظر دراستنا الموسومة إشكالية تعريف الإرهاب المنشورة في مجلة المستقبل العدد الثالث صيف 2006)، والارهاب مسألة واضحة والفصل بينها وبين النضال التحرري واضح وبين، فكيف سيصار إلى تحديد مفهوم الدفاع عن النفس مادامت أمريكا وإسرائيل هما المستفيدين الوحيدين من التعتيم على حقيقته ليصار إلى تفسيره بما يتوافق مع المزاج العدواني للدولة الأكبر والدولة الأكثر عدوانية.