الرجوع للعدد الخامس
حفظ هذا المقال فقط
دور علماء الدين الشيعة بأحداث العراق السياسية الثورة العراقية الكبرى 1920 - الجزء الثاني
باسم أحمد هاشم الغانمي
أستاذ أكاديمي وباحث في التأريخ السياسي العراقي - كلية التربية - جامعة كربلاء
يأس أحرار العراق من وفاء الانكليز بعهودهم التي قطعوها للشعب، الأمر الذي جعلهم أمام حقيقة واحدة هو أن الانكليز لا يعيدون المواثيق والعهود أي اهتمام سواء كان ذلك على المدى القريب أو على المدى البعيد، إذا كان آخر دليل لهم على ذلك هي المهزلة التي أنتجها رجال السياسة الانكليز بإطلاقهم موضوع "الاستفتاء". وحينها لم يبقى أمام السياسيين العراقيين المخلصين طريقاً أوضح من الطريق إلى الثورة والتي يجب أن تتسم بالسرعة قبل أن يجد الانكليز الأعوان من القوى الأخرى التي تساندهم، خصوصاً بعد انتهاء ثورة النجف وما قادته المواقف العامة في العراق بوجوب الاتجاه بطريق الثورة الذي لا مناص منه.

في وقت وجد رجال الدين الشيعة في العراق إن الانكليز لا هم لهم سوى هم السيطرة والسلطنة على العراق وانَ لابد لهم من التحرك السياسي الذي ينتهي بانجاز ملموس على الساحة السياسية العراقية، هذا التحرك السياسي تمثل بتشكيل بوادر التنظيمات السياسية التي تتناسب مع المرحلة التي يعيشها العراق أبان تلك الفترة.

منها التشكيلات السياسية ذات الطبيعة السرية (حزب النجف السري) والذي شكل بدعوة من عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد الرضا الشبيبي والشيخ محمد الباقر الشبيبي والسيد محمد السيد كمال الدين وآخرين(1) بطبيعة الحال السياسي لم ينشأ هذا الحزب حال بقية التنظيمات السياسية المتعارف عليها إنما أعتمد على التنسيق بين العلماء وزعماء القبائل من أجل تعبئة الجماهير والاستعداد للثورة، كما كان له مجموعة من الفروع المتنثرة مابين كربلاء والكوفة والحلة والرميثة والغراف وعفك والعمارة والناصرية وسوق الشيوخ والبصرة وغيرها(2).

من جهة أخرى أسس الشيخ محمد رضا الشيرازي نجل الميرازا محمد تقي الشيرازي ما يسمى بالجمعية الإسلامية في كربلاء بأواخر عام 1918 وضمت في عضويتها السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني والسيد حسين القزويني والسيد عبد الوهاب الوهاب والشيخ محمد حسن أبو المحاسن وعبد الكريم العواد وعمر العلوان وعبد المهدي القمبر وغيرهم(3) كانت هذه الجمعية تمتاز بالجراءة والفعالية الأمر الذي دفع الانكليز إلى اعتقال عدد من أعضاءها في (1 تموز 1919) وكان من بينهم عمر العلوان وعبد الكريم العواد وطليفح الحسون ومحمد علي أبو الحب والسيد محمد مهدي المولوي والسيد محمد علي الطباطبائي، مما دفع السيد محمد تقي الشيرازي بأن أرسل رسالة إلى (ولسن) يطلب منه إخلاء سبيلهم وإنهم لم يفعلوا شيئاً طالبوا بحقوقهم المشروعة وبالطريقة السلمية، وكان رد ولسن على الرسالة قسما بالمراوغة والتملص مما أثار هذا الأمر حفيظة السيد الشيرازي الذي أعتزم السفر إلى إيران وإعلان الجهاد ضد الانكليز لما لهذا الأمر من استهان لكرامة الوطنين، وعندما أنتشر هذا الخبر بين الأوساط العراقية بدأت العديد من الرسائل تتوافر من الكاظمية والنجف يبدي أصحابها عزمهم على الهجرة معه ومجاهدة الانكليز من هناك، وكان من ضمن الرسائل حملت تواقيع سيد كمال الدين ومحمد باقر الشبيبي ومحمد الشيخ يوسف والسيد حسين كمال الدين وعبد الرضا السوداني والسيد أحمد الصافي والسيد سعد جريو(4).

أستمر نفي العناصر الوطنية أربعة أشهر بعدها شعر ولسن إن من مصلحتهِ وبلادهِ استرضاء أية الله الشيرازي قبل أن يؤول الأمر إلى ما لا يحمد عقباه فأوعد بإعادتهم، وبعث بمبلغ من المال بيد محمد حسين خان الكابولي، إلا إن السيد الشيرازي رفض قبول المبلغ بل وأنه بعث برسالة مجاملة إلى ولسن قابلها ولسن برسالة شكر وتقدير عالي لسماحته(5).

كان لعودة السياسيين المبعدين ابتهاج رائع في كربلاء يوم 2 ك1 1919 واستقبلوا بحفاوة عالية، إذ كانت عودتهم في نظر ولسن بمثابة تهدئة للوضع المتأزم في العراق، بينما نظر أبناء المدينة إلى أمر عودة المبعدين بمثابة نصراً مؤزراً صنعه أبطال وطنيين، وكان الجميع يكنون لهم هذا الشعور الذي يخالجهم متمنين أن يحصلوا ما حصل عليه إخوانهم من سمة وطنية(6).

    أما في مدينة الكاظمية فقد أسس السيد أبو القاسم الكاشاني وبتوجيه من شيخ الشريعة الأصفهاني (الجمعية الإسلامية) التي كانت تحمل مبادئ ومضامين سياسية تقضي بتحسين الوضع القائم في العراق وبحثه (الأخير) على التوجه إلى الفرات الأوسط للمشاركة في الأوضاع التي يعيشها العراق هناك وان يكون مندوباً عن أهالي الكاظمية داخل القيادة المرجعية هناك(7). أما في بغداد فقد تأسس في نهاية شباط 1919 حزباً سرياً عرف باسم (حرس الاستقلال) ضم في عضويته السيد محمد الصدر والشيخ يوسف السويدي والشيخ محمد باقر الشبيبي وجعفر أبو ألتمن وعلي البازركاني وغيرهم كثير من الشخصيات الشيعية والسنية المنتمية له(8).

كانت هذه الأحزاب والجمعيات المذكورة وغيرها الكثير كانت تعمل بدعم وتوجيه من الميرزا محمد تقي الشيرازي وكان هناك نوعاً كبيراً من التنسيق المتبادل لتوحيد التحرك السياسي، ففي (21 نيسان 1920) ذكرى ولادة الإمام الحسين(ع) عقد اجتماع في بغداد حضره العديد من رجالات السياسة العراقية إلى جانب علماء الدين وسياسي الفرات الأوسط الذين أنابهم كلاً من الحاج عبد المحسن شلاش والسيد هادي زوين حيث كان هذا الاجتماع على درجة عالية من الأهمية وكانت الغاية من الخروج بتصورات يتم من خلالها التنسيق بين علماء بغداد وعلماء الفرات الأوسط والسياسيين حول الموقف الراهنة ورسم أبعاد التحرك الجديد. وفي هذا الاجتماع عرض السيد هادي زوين حالة الفرات الأوسط وذكر استعداد العلماء ورؤساء القبائل للعمل سوياً من أجل تغير حالة العراق المزرية والخروج بنتائج هدفها مصلحة العراق وأهله(9).

وبعد أن أنهى كلمته أجابه محمد جعفر أبو ألتمن معرباً على إن قادة الرأي في بغداد مستعدين للمشاركة مع أبناء الفرات وزعمائهم الدينين والعشائريين في أي تحرك سياسي يذكر، على أن تكون هناك خطط مشتركة للعمل السياسي المتبادل، وعندها قرر محمد جعفر أبو ألتمن أن يسافر إلى كربلاء لحضور الاجتماع الذي سيعقد هناك إذا كانت الغاية من الاجتماع الثاني توثيق التقارب في وجهات النظر السياسية بين سياسيي بغداد والفرات الأوسط(10). حينها أجتمع مندوب بغداد بعدد من السادة السياسيين أمثال محمد جواد صاحب ألجواهم والشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ عبد الرضا الشيخ راضي، والسيدين سعيد وحسين كمال الدين والسيد محمد رضا الصافي وكن هؤلاء يمثلون علماء النجف وأشرافهم، أما مندوبو الفرات الأوسط فقد حضر كل من السيد نور الياسري والشيخ شعلان أبو الجون والشيخ عبد الواحد الحاج سكر ومجبل الفرعون والسيد علوان الياسري والسيد كاطع العوادي وغيث الحركان والسيد محسن أبو بطيخ ورايح العطية ومرزوك العواد وشعلان الجبر وعبادي الحسين وعبد السادة الحسين رهنين الحنون وجدى المريّع والسيد هادي الكوطر والسيد هادي الزوين وسرتيب المزهر الفرعون. حيث تم التداول بالأوضاع التي يعيشها العراق تحت السيطرة الانكليزية وقرر في نهاية الاجتماع أن يذهب أربعة أشخاص من المجتمعين برفقة محمد جعفر أبو ألتمن إلى الاجتماع بالسيد محمد تقي الشيرازي في داره(11).

وبعد أن تم الاجتماع بالسيد محمد تقي الشيرازي ووفد الزعماء والرؤساء العراقيين التأم مؤتمر عام في داره حضره الجميع، وبعد انتهاء المؤتمر قصد الجميع إلى الروضة الحسينية الطاهرة لتأدية الزيارة ومن خلالها عاهدوا الله ورسوله أمام ضريح الإمام الحسين على الإخلاص في العمل والتفاني في أداء الواجب الوطني(12).

بعد عودة أبو ألتمن إلى بغداد كان قد عمها استياء عام من الانتداب الذي أُعلن على العراق وأن مرحلة التذمر قد وصلت خطى واسعة، ومهما يكن من أمر عقد يوم (9 أيار) اجتماع ثاني في بغداد بدار حمدي بابان حضره العديد من السياسيين العراقيين وبعض الشخصيات من الفرات الأوسط تحدث محمد جعفر أبو ألتمن خلال الاجتماع على التصميم الذي رآه حول القيام بالثورة من قبل عشائر الفرات الأوسط وزعاماتهم الدينية. إلا أن الاجتماع لم يخرج بأي نتيجة تذكر سوى الاتفاق على تأليب الموقف المعارض ضد الانتداب، وان يتم العمل على دفع الجماهير وتعبئتها بأسلوب يخدم الحل السياسي السلمي ولم يجدوا طريقاً إلى ذلك إلا عن طريق الشعائر الدينية ومناسباتها كتوقيت جيد للسير في العمل السياسي خصوصاً يوم المولد النبوي وذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) إذ إن هاتان الشعيرتان الأشد نفاذاً على قلوب المسلمين سواء كانوا سنةً أو شيعة، وقد تم اختيار الجوامع البغدادية المعروفة والحسينيات لاستذكار هذه المناسبات مع مزجها بالطابع السياسي الراهن آنذاك بان كانت تلقى القصائد والخطب الحماسية السياسية الساخنة، هذا مع الاستمرار في تبادل الوفود مع كربلاء والنجف وعشائر الفرات الأوسط للوقوف على أسرع التطورات الحاصلة على الواقع السياسي العراقي(13).

وتأكيداً للموقف الوطني واللمحة الوطنية السنية والشيعية كان جموع المواطنين تخرج بعد كل احتفالية يتقدمها السيد محمد الصدر أحد علماء الشيعة في الكاظمية والشيخ أحمد الرادوود أحد علماء السنة في بغداد ليرمزا إلى الوحدة الوطنية الصادقة(14).

    وفي أحد المظاهرات انتخب الأهالي لجنة مندوبين تتألف من خمسة عشر عضواً بارزا من الأوساط السنية والشيعية ليمثلوا الشعب أمام إدارة الاحتلال، ومن خلال لجنة المندوبين هذه واصلت الحرية الوطنية في بغداد والكاظميةمعارضتها للاحتلال، عن طريق أقامة المظاهرات واستخدام المناشير التي تدعوا إلى الاستقلال(15). بالمقابل فان سلطات الاحتلال قد وسعت من نشاطها باتجاه الحركة الاستقلالية في بغداد والكاظمية وأخذت تمارس معها أساليب مختلفة من التعسف المستمر والمتمثل بالنفي والسجن، هذا الأمر دفعها إلى الاستغاثة بالإمام محمد تقي الشيرازي عن طريق تكليف محمد جعفر أبو ألتمن بتحرير رسالة إلى سماحة السيد الشيرازي يشرح فيها الوضع الحرج الذي يعيشه البغداديين، وقد أرسلت الرسالة بمعية الشيخ محمد باقر الشبيبي، حيث أجابها السيد الشيرازي برسالة بعث بها إلى أبو ألتمن يثمن فيها الجهود الوطنية التي يبذلونها في بغداد والكاظمية، ويطلب منهم الاستمرار بالمطالبة بحقوقهم المشروعة، بالإضافة إلى أنه عمل على إرسال الوفود من منطقة الفرات الأوسط إلى مركز القرار في بغداد للمطالبة بنفس المطالب التي يسعى من أجلها إخوانهم البغداديين(16) وجاء توجه هذه الوفود إلى بغداد استجابة إلى نداء السيد محمد تقي الشيرازي الذي طبع بآلاف النسخ ووزع أنحاء عديدة من العراق حيث كان الهدف منه شد الأزر العراقي في مواجهة المحتل(17).       

وعلى أثر انتشار نسخ النداء الذي بعث به السيد الشيرازي شرح سكان مدن الفرات الأوسط بتنظيم مضابط توكيل وحسب توجيهات الشيرازي الذي كان من أهمها مضبطة أهالي كربلاء والتي جاء فيها (نحن الموقعين أدنى هذا التحرير من ممثلي أهالي كربلاء المشرقة، وما حوتها: علماءها، أشرافها، وساداتها، وكبرائها، وعموم أفرادها، من جميع طبقاتها، قد انتدبنا عنا وعن ممثلين حضرات الميرازا عبد الحسين نجل آية الله الشيرازي دامت بركاته، والشيخ محمد نجل حجة الإسلام الخالصي دامت بركاته، والسيد محمد الطباطبائي، والشيخ صدر الدين حفيد حجة الإسلام البازندراني، والسيد عبد الوهاب، والحاج الشيخ محمد حسن  أبو المحاسن، والشيخ عمر العلوان: انتدبنا هؤلاء الأنجاد لينوبوا عنا أمام  الحكومة الأختلالية في تبليغها مقاصدها المشروعة...الخ)(18).

     هذا وأبرق أهالي النجف مضبطة أخرى حملت نفس المطاليب وقع عليها أهالي المدينة وأشرافها وعلماءها، وكان من ضمن الموقعيين خادم العلوم الدينية شيخ الشريعة الأصفهاني المرجع الديني الذي خلف الإمام الشيرازي بعد رحيله(19) إذ كانت هذه المضابط التي وقعت في كربلاء والنجف وبابل هي من المقدمات الأولى والمباشرة لقيام الثورة(20).

     الا انه لم يكن في وسع مندوبي كربلاء والنجف والشامية وغيرهم فمنحصلو على مضابط التوكيل أن يأموا بغداد للمذاكرة مع الحكومة البرطانية كما طلب الامام الشيرازي وإكتفوا باعداد المذكرات على شاكلة مذكرة الوفد البغدادي - الكاظمي التي رفعوها إلى السلطة(21).

     كما طلب بعض المندوبين في النجف والشامية من الميجر(نور بري) سيتحدد موعد للاجتماع معه جاء ذلك في وثيقة رفعها المندوبين مطالبين فيها أن يؤلف الشعب بأختياره مؤتمر عراقي قانوني يعقد في بغداد الهدف منه تأليف حكومة مستقلة بعيدة عن كل تدخل أجنبي يرأسها ملك عربي، كما وطالبو برفع جميع الحواجز التي تفصل العراق عن جيرانه بالأضافة الى منح حرية الصحافة والمنشورات والمطبوعات، والعمل على مساعدة الأمة لتشكيل التجمعات وإقامة المنتدبات في كافة مناطق العراق، وقد حملت هذه الوثيقة توقيع كل من الشيخ عبد الكريم الجزائري، جواد نجل المرحوم صاحب الجواهر، عبد المحسن شلال، والسيد علوان السيد عباس، السيد نور السيد عزيز، عبد الرضا المرحوم، والشيخ راضي ( قدس سره)، ويذكر السيد عبدالرزاق الحسيني المؤلف  العراقي الكبير في كتابة الثورة العراقية الكبرى إن نص هذه الوثيقة المهمة بحوزة السيد سعيد كمال الدين.

وبعد أن اعتذر الحاكم (نور بري) عن تحديد موعد للمقابلة تحتأعذار واهمة وتأجيل الموضوع لحين ورود جوا الحاكم العام في بغداد، أبرق المندوبون برقية أخرى يمكن إعتبارها برقية تهديدية توحي عن عظم التطورات السيئة التي تعيشها الحالة السياسية العراقية(22).

إنًّ أمر امتناع الحاكم نور بري في لواء النجف والشامية عن مقابلة مندوبي الشعب هناك كان قد أثار حفيظة الناس في كربلاء والنجف والشامية والحلة، ولهذا عمد الشيخ محمد رضا الحائري نجل الإمام محمد تقي الشيرازي على تأجيج الحماس في نفوس المواطنين لفلأمر بأقامة المظاهرات العارمة في صحن الإمامين الحسين والعباس عليهما السلام يوم 21 حزيران 1920 وكانت هذه المظاهرة تمتاز بالتنظيم الجيد الذي أعدته لجنة مؤلفة من السادة: عمر العلوان، عبد الكريم العواد، ومهدي القنبر، وطليفح الحسون، تخلل هذه المظاهرة الخطب الحماسية كان من أوجها خطبة الشيخ (محمد الخالصي) وبعض القصائد الوطنية المؤججة للشعور الوطني الأمر الذي دفع بالحاكم السياسي في الحلة إلى التوجه نحو كربلاء لإلقاء القبض على المسببين لهذه المظاهرة جاء ذلك بأمر من القيادة العليا في بغداد حيث وصلت هذه القوة في نفس اليوم وعملت على احتلال مداخل المدينة وكان لوصول هذه القوة العسكرية العديد من الأثار الجانبية على أهالي المدنة بالإضافة إلى أهالي الفرات الأوسط عموماً، كما وإنها كان لها الأثر اللأكبر على شخصية الإمام الشيرازي الذي بادر باستدعاء الميجر (بولي) الذي رفض دعوة الإمام وإكتفى بإرسال كتاب لسماحة الشيرازي يبرر فيه إن الهدف  من ارسال القوات إلى كربلاء هو ارساء الأمن والإستقرار وإلقاء القبض على العناصر التي تحاول بعثرتهِ، الأمر الذي دفع الإمام الشيرازي بأن يبرق كتاب آخر الميجر (بولي) يذكره بعاقبة العمل الذي يروم عمله بيد إن النصيحة لم تجد طريقها في مسامح الميجر بولي(23).

وهذا الأمر زاد الطين بله عندما لم يلتفت الميجر بولي إلى نصائح المرجع الشيرازي بل إنه تمادى أكثر عندما استدعى في يوم22 حزيران كلاً من الشيخ محمد رضا نجل الإمام الشيرازي، وهادي كمونة، ومحمد شاه هندي، وعبد الكريم عواد، وعمر الحاج علوان، وعبد المهدي الكبير، وأحمد قنبر، ومحمد علي الطباطبائي، والشيخ كاظم أبوذان، وإبراهيم أبووالدة، والسيد أحمد البير(24) ويذكر إن المطلوبين قد ترددوا في بادئ الأمر بإجابة الطلب إلا إن السيد الشيرازي أوعد إلى ولده أن يكون في مقدمة من يجب تسليم أنفسهم إلى السلطة، إذ اعتقل الجميع ونقلو إلى الحلة وارسلو منها بالقطار إلى البصرة ومنها بحراً إلى جزيرة (هنجام) في الخليج العربي، أما السيد محمد علي هبة الدين الحسيني الشهرستاني فقد عدل عنه الميجر بولي لثبوت إصابته بالمرض، كما وعدل عن الميرازا أحمد الخرساني لتوصية أحد العلماء(25).

هذا وقد أبرق الشيرازي رسائل عديدة أخرى إلى علماء الدين في النجف ورؤساء العشائر يطلب فيها التواصل مع بقية الرؤساء والزعماء والعمل سوية وفق خطة توقف هذه الأعمال الإنكليزية، من جهة أخرى أرسل زعماء العشائر ورجال الدين في النجف رسائل رفقت معها رسالة الإمام الشيرازي إلى بقية الزعماء والرؤساء في الفرات الأوسط، بالإضافة إلى إرسال رسالة أخرى ذات صيغة احتجاجية إلى الحاكم (نور بري) حاكم لواء النجف والشامية يحذروه من خطر إعتقال نجل الإمام الشيرازي، ووجهوا رسالة أخرى إلى مندوبي بغداد والكاظمية طالبين فيها تظامنهم مع قضية إخوانهم في كربلاء والفرات الأوسط، حيث احتجو بدورهم على سلطان الاحتلال(26).

وقبل القيام بالمضاهرة في مدينة كربلاء عقد اجتماع وطني في جامع الحلة الكبير القيت به الكلمات والقصائد الحماسية والتي عمقت الشعور الوطني ألقاها كل من الشيخ محمد الشيخ عبد الحسين ومحمد باقر الحلي ورؤوف الأمين والسيد عبد السلام هذا بالإضافة إلى قراءة كتاب الإمام الشيرازي الموجه إلى العراقيين كافة والداعي إلى المطالبة بحقوقهم، كما وتليت البيعة والمنادات بالأمير عبد الله ملكاً على العراق، ونتيجة لاحترام الموقف عمل نائب الحاكم السياسي في الحلة إلى إرسال مساعدة (خيري الهندي) إلى مكان الاجتماع يهدئ الموقف ويزيل التوتر إلا إن الأخير عمل على العكس فألقى خطبة وطنية ألهبه بها شعور المجتمعين بدلاً من أن يعمل بتوصيات نائب الحاكم في الحلة وقيل إنه كان ثملاً آنذاك واعتقله نائب الحاكم في الحلة ومعه كل من رؤوف الأمين والسيد عبد السلام والسيد أحمد السالم وجبار الحساني وعلي العمادي الحسن وأُرسلوا إلى البصرة ومنها إلى هنجام سجنوا لمدة خمسة أشهر توفي خلال هذه الفترة أحمد السالم(27).

وفي مدينة النجف دعى السيد كاطع العوادي إلى اجتماع كبير في جامع الهندي بمدينة النجف الأشرف حضره العديد من رجل الدين ورجال السياسة والمثقفين والأشراف، نودي بالملك عبد الله ملكاً على العراق وتخللته الخطب والقصائد الوطنية مما دفع السلطات الإنكليزية بمهاجمة المجتمعين إلا إنهم لم يقبضوا على أحد منهم(28). كل هذه التطورات وغيرها كثير مثلت وبجلاء أرباك للوضع الإنكليزي في العراق مما حدى بالسلطة المركزية في بغداد بأن أو عزت إلى الحكام السياسيين في الحلة والكوفة والشامية والنجف للاجتماع وتدارك الوضع المحترم، وفعلاً تم الاجتماع في الكوفة توصيل حاكم الحلة والكوفة إلى أمر مهم في رأيهم وهو إلقاء القبض على العلامة النجفي المعروف الشيخ عبد الكريم الجزائري وإبعاده عن العراق بصفته مثيراً للبلابل والفتن وعدم الاستقرار في المنطقة، إلا إن الميجر (نور بري) عارض فكرة هذا المشروع، لان النتيجة تؤدي إلى انفلات الوضع الأمني برمته في النجف، واختار مقابلة كل من الشيخ عبد الكريم الجزائري أن يكتب إلى الإمام الشيرازي في كربلاء يهون عليه أمر اعتقال ابنه الشيخ محمد رضا، فرد عليه الشيخ عبد الكريم الجزائري إلى إن الإمام الشيرازي لم يبلغ مرتبته الحالية التي هو فيها إلا لأنه كان ينظر إلى المسلمين كافة كأولاده.. وهكذا انتهى الاجتماع(29).

شمل الوضع السياسي في العراق إلى تدخل رموز دينية كبيرة أمثال الشيخ فتح الله، شيخ الشريعة الأصفهاني والذي مثل فيما بعد الركن الثاني لزعامة الثورة بعد وفاة الشيرازي، حيث تمثل موقفه موقف الإصلاح مابين الطرفين المتنافرين طرف يمثله الحكومة الإنكليزية وطرف الوطنيين والذي يقوده الزعيم الروحي الشيرازي، حيث وجد شيخ الشريعة الأصفهاني خطاباً يوم الخامس والعشرين من حزيران عام 1920 موضحاً فيه إن طبيعة الشعب العراقي هو الهدوء والسكينة وإن طريقهم لنيل مبتغاهم هي الوسائل السلمية إذ إنهم يتمتعون بمتانة العقول وسلامة الفطرة وشرح في كتابة عن شديد استقرار حول الأسباب والآلية التي وعت الحكومة البريطانية اعتقال الوطنيين في الحلة وكربلاء ومنهم نجل الإمام الشيرازي، وأضح له إن مفتاح إصلاح الوضع مابين الطرفين هو فك المعتقلين وإطلاق سراحهم قبل أن تأول الأمور إلى غير حسن(30) .

يحلل الشيخ شريف المزهر الفرعون لما يوعزه بأن كثرة المراسلات والبرقيات التي كان يرسلها العلماء الأعلام في تلك الفترة المحرجة ما هي إلا دليل على إنهم عراقيين والعراقيين جميعاً هم ميالين للسلم والتفاهم مع حكومة إنكلترا بعيدين كل البعد عن كل ما يضيف التعكر إلى الجو العام في الحياة على عكس الإنكليز الذين لا يبدون أي رغبة في التفاهم أو التعبير المتبادل أو أن يجدوا آذاناً صاغية لمطاليب هذه الأمة، هذا بالإضافة إلى إشادته بدور الشعب باتجاه المرجعية والانقياد المطلق نحوها باعتبارها القائد الروحي والموجه الأول في مل حدث سياسي وهذا ما لمس من خلال دور شيخ الشريعة وقدرته على إخماد لهيب الثورة لو إن تجاوباً حصل من قبل الإنكليز،  الأمر الذي دفع ولسن نفسه إلى الإشادة بهذه الشخصية الرائعة عندما أرسل برقية إلى سماحته بواسطة حاكم النجف تحمل في طياتها التقدير والاحترام له.

وفي نفس الموضوع فلا غرابة أن نجد التأريخ يعيد نفسه أمام شخصيات دينية فذة قادت العراق في أضنك أوقاته وواجهت أصعب الأحداث السياسية المتمثلة بانهيار دولة برمتها وسقوطها أرضاً أمام أعتى القوى العالمية حالياً، فلا نجد أي اختلاف الأمرين سابقا حالياً، إذ كان هناك اختلاف في العدة والعدد واليوم الموضوع نفسه موجود، اختلاف في الدين والمذهب وهو أمر حاضر الآن هذا بالإضافة إلى اتجاهات متعاكسة بالأفكار والطموحات مابين القديم والآتي ولهذا فإننا لمسنا اليوم الانصياع والطاعة لهذه القيادة الروحية من قبل أبناء شعبنا كما وإننا لمسنا وبجلاء الأدوار التي قامت بها هذه المرجعية سدد الله خطاها في كل مرتكز من مرتكزات المشروع السياسي العراقي الحالي... إذاً الوجهين متشابهين والفاصل بينهما هو التأريخ.

وبناءً على ما تقدم من شواهد كثيرة توضح حراجة الموقف وتفاقم الأزمة لم يبقى أمام الشعب العراقي إلا سبيل واحد ألا وهو سبيل الموجهة مع المحتل والتي يجب أن تشق طريقها خصوصاً وإن الثمار قد أينعت والدليل هو التناقض والاختلاف في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل العراق بالإضافة إلى الإفرازات التي خلفتها السيطرة الاستعمارية على العراق وتأثيرها على الناس برمتهم.

ولهذا كان التهيؤ إلى الثورة قد وصل مراحل متقدمة لا يحتاج إلا لشرارة تطلق بيد المرجعية الدينية التي درست هي الأخرى حراجة الموقف ووصلت إلى نتيجة إصدار فتوى يُعلن فيها الجهاد ضد المحتل. ولهذا عندما استفتى عدد من زعماء العشائر العراقية الإمام الشيرازي حول جواز استخدام السلاح بوجه المحتل أجابهم الإمام الشيرازي بفتوى صريحة أشار فيها" بسم الله الرحمن الرحيم، مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين. ويجب عليهم، في ضمن مطالبهم، رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذ امتنع الإنكليز عن قبول مطاليبهم.  

محمد تقي الحائري  الشيرازي"(31)
    إن هذه الفتوى كانت بمثابة الركيزة الأساسية في انطلاق العمل الثوري ضد الاحتلال، إذ أُيدت من قبل خطباء وعلماء كربلاء ومنهم محمد حسين المازندراني ومحمد صادق الطباطبائي وعبد الحسين الطباطبائي، ومحمد علي الحسين وغلام حسين المرندي ومحمد رضا القزويني ومحمد إبراهيم القزويني ومحمد الموسوي الحائري وعلي الشهرستاني وهادي الخرساني وجعفر الهر وكاظم اليهبهاني وفضل الله وعلي الهادي الحسين(32).

كما وتداعى على ضوء هذه الفتوى العديد من علماء النجف الذين اجتمعوا وقرروا توجيه رسائل إلى رؤساء عشائر الفرات وخصوصاً عشائر الرميثة والسماوة يحثوهم فيها إلى الثورة وكان أبرز الذين حضروا هذا الاجتماع المهم الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ الجواهري والشيخ حسين كاشف الغطاء والشيخ رضا راضي والشيخ جواد الشبيبي ونجل شيخ الشريعة(33).

وكما عقد اجتماع آخر في منطقة المشخاب القريبة من النجف يوم 29 حزيران 1920 حضره عدد كبير من سادات ورؤساء الفرات الأوسط وقرروا فيه إعلان الثورة وأرسلوا عنهم مندوبين لإطلاع العلماء ورجال الدين في النجف على قراراتهم، ويذكر المؤلف عبد الكريم الرهيمي في كتابه تاريخ الحكة الإسلامية في العراق (1900- 1924) إن السيد عبد الرزاق الحسيني أشار في كتابه الثورة العراقية الكبرى إن من بين الحاضرين في اجتماع المشخاب الشيخ رحوم الظالمي كمندوب عن الأمام الشيرازي والشاعر محمد باقر الحلي(34) إلا إن الباحث لم يجد أصلاً لهذه المعلومة في كتاب السيد عبد الرزاق الحسيني " الثورة العراقية الكبرى " والمشار إليها في صفحة مائه وستين وحسب رأيي إن المعلومة قد سقطت سهواً من الأستاذ الرهيمي.

إذ كان اختيار يوم الثالث من تموز هو يوم الثورة، إلا إن اعتقال الشيخ شعلان أبو الجون رئيس عشيرة الظوالم في الثلاثين من حزيران قد غير من موعدها بثلاثة أيام عن الموعد الأول، إذ قامت مجموعة مسلحة من عشيرة الظوالم بالهجوم على مقر الحاكم الإنكليزي بالرميثة وتمكنت من اطلاق سراح شيخها(35).

    ويذكر المؤرخ عبد الشهيد الياسري في كتابه البطولة في الثورة العشرينية إن عشيرة الظوالم إحدى بطون قبائل بني حجيم يبلغ تعدادها بأربعين ألف وتملك آلاف المسلحين وتمتاز هذه القبائل بالحرمان والبؤس وعدم امتلاك الأراضي، هذا وإنها تتميز بالتفنن والصلابة في القتال، وشدة الولاء والإرتباط والإنقياد لأمر المرجعية الدينية الموجودة في كربلاء(36).

ونحن بدورنا نجد إن هذا الأمر ومثله الكثير يمثل البذرة الأولى التي أنبتت الأسباب المؤدية إلى الثورة حيث إن العوز والحرمان الذي أصاب طبقات المجتمع العراقي وخصوصاً طبقة الفلاحين المحرومين من ملكية الأرض والقاطنين في المناطق التي تمتاز بعدم الخصوبة سبباً لإنطلاق هذه العشائر في ثورتها ضد الإنكليز هذا من جهة، من جهة أخرى إن هؤلاء الناس لم يشهدوا التغيير الذي كانوا يأملوه من الإنكليز بعد أن تخلصوا من السيطرة التركية، خصوصاً وإن الوعود التي قطعها الإنكليز لهم لم تكن في المستوى الذي يشفي غليلهم من العوز والحرمان الذي عانوه طوال سنين عديدة خلت، بالإضافة إلى الدافع الوطني الذي يدفعهم ويحرمهم كونهم عرباً أحراراً يرفضون السيطرة أيًّ كان نوعها وشكلها.

لقد اعتبرت الدعوات التي يوجهها رجال الدين في كربلاء والنجف وزعماء عشائر الفرات الأوسط بالإضافة إلى عملية الرميثة هي بمثابة بداة المقاومة المسلحة للاحتلال وكانت المركز الذي انطلقت منه الثورة لتشمل أغلب مدن العراق بعد أن تمركزت في ثلاث مدن هي كربلاء والحلة والديوانية حيث امتدت منها إلى الفرات الأدنى والفرات الأعلى وإلى لوئي المنتفك وبعقوبة، حيث شاركا مشاركة واسعة في الثورة كما وامتدت إلى مندلي وشهربان وخانقين هذا بالإضافة إلى كركوك وأربيل التين شهدتا تأثيراً ولفترة قصيرة(37).

لا نريد الخوض في غماد وأحداث الثورة المجيدة كون إن الكتب التي تناولتها كثيرة وأقصد بها الكتب التي أعطتها حقها في إنها ثورة إنبثقت بأفكار عراقية دينية سياسية اجتماعية أصيلة ورسمتها أيادِ فراتية شدت من سواعدها ضد الاحتلال لتعطي نتاجاً رصيناً لا يقبل الشك في إن الصنع كان صنعاً عربياً شيعياً قادته مرجعية رشيدة وإن الإبداع كان إبداعاً عراقياً له أثره في جعل الأمة العراقية تنال مانالته بعد الثورة المجيدة.

وعودة إلى رجال الدين الشيعة في موضوع ثورة العشرين نجد إن ما يذكره المؤرخين في إن الأربعة أشهر الأولى قبل الثورة كان الدور يختلف تماماً عما تلاها، فقد أنصب جل اهتمامهم " رجال الدين والعلماء الشيعة " في الدعوة والإعداد والتحضير أما بعدها فقد توجهوا إلى الأشراف العام والقيادة المباشرة سواء قيادة دينية أو سياسية،ة وكان ذلك  عن طريق قيادة المؤسسات والهيئات التي أُنشأت قريب إعلان الثورة، حيث وكما ذكرنا إن السيد الشيرازي إحتل الزعامة الدينية والسياسية العامة فيها ثم أعقبه بعد رحيله شيخ الشريعة الأصفهاني حتى نهاية الثورة، وغنيطت القيادة بعد ذلك إلى العلماء ورجال الدين الأقل رتبة علمية ودينية وعلى عدد آخر من رؤساء العشائر وزعماء الفرات كمستشارين أو وكلاء عن المراجع الدينية.

ولا حديث عن هيكلية قيادة الثورة نجد إن مدينة كربلاء مركز الثورة الأساسي في عهد الإمام الشيرازي أنشأ مجلسين مهمتهما تولي شؤون الثورة(38) سمي الأول (بالمجلس الحربي) ويتألف من العلماء هبة الدين الشهرستاني، أبو القاسم الكاشاني، والشيخ أحمد الخرساني، والشيخ عبد الحسين النجل الثاني للإمام الشيرازي، أما المجلس الثاني فيسمى بـ(المجلس العلمي)، كان يضم عدد من سادات كربلاء ورؤساء العشائر، إذ كان الشيخ محسن أبو المحاسن ممثلاً عن العلماء، ويترأس كل من المجلسين الأمام الشيرازي، لقد كان من اختصاص المجلس الأول إدارة الشؤون الحربية أما المجلس الثاني فيدير الشؤون السياسية والإدارية العامة وكان من أبرز المجلس العلمي تشكيل مجلس (إدارة كربلاء) ويترأسه محسن أبو طبيخ كمتصرف للواء طليفح الحسون مدير للشرطة وخليل عزمي مدير للتحريرات(39).

وبعد وفاة الإمام الشيرازي (قدس سره) الذي اغتيل بالسم على يد علماء الإنكليز في ليلة الأربعاء الثالث عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1338 للهجرة (17/8/1920) ودفن في حرم الإمام الحسين(40) إذ كانت وفاته لحضة حرجة من تاريخ العراق، وكانت وفاته في اليوم الثاني من إعلان حكومة بغداد سيية الأرهاق وقبضتها على الوطنيين الأحرار ويذكر السيد عبد الرزاق الحسيني في كتابه الثورة العراقية الكبرى إن يوم وفاة الأمام الشيرازي كان يوم (13/8/1920).

وعلى أي حال تولى الزعامة الدينية بعد وفاة الشيرازي، شيخ الشريعة الاصفهاني هذا باللإضافة إلى قيادة الثورة المجيدة حيث اتخذ من مدينة النجف مقراً له وأنشأ بها ثلاث هيئات هي (المجلس البلدي) والثانية (هيئة القوة التنفيذية) وتألفت الهيئتان من أعيان المدينة وزعماءها، أما الهيئة الثالثة فسميت (الهيئة العلمية الدينية العليا) والتي كانت برئاسة شيخ الشريعة نفسه وكانت هذه الهيئة زمن الإمام الشيرازي لها الدور القيادي المحلي أمابعد تولي شيخ الشريعة الزعامة القيادية أصبحت تمثل مجلس استشاري تنفيذي للثورة(41).

لم يقتصر دور رجال الدين الشيعة وخصوصاً الإمام الشيرازي والأصفهاني على قيادة ورئاسة المجالس المهمة في الثورة وحسب بل كانت هناك روابط بينهم وبين رؤساء العشائر المسؤلين عن قيادة العمليات العسكرية وكان ذلك عن طريق الرسائل والتقارير التي كانت تردهم مباشرةً من وكلائهم أو من أشخاص آخ رين في جبهات القتال وعن طريق التقارير كانوا على اطلاع مباشر بسير العمليات العسكرية وعن طريقها أيضاً يقدمون توجيهاتهم.

فمثلاً بعث السيد علوان الياسري إلى السيد الشيرازي كتاب يوضح فيه وضع منطقة (الرقية) بعد اندلاع الثورة فيها. وبالعكس فقد بعث شيخ الشريعة الأصفهاني كتابأ الى السيد هادي المكوطر يوصيه بالتآلف بين المسلمين ويوضح له كيفية التصرف بالأسلحة والأعتدة(42).

من جهة أخرى كان للعلماء مشاركة مباشرة في القتال حيث توجه السيد أبو القاسم الطاشاني والشيخ جواد الجزائري وهبة الدين الشهرستاني إلى جبهة الحلة وقياداتهم للعمليات العسكرية مباشرة من هناك (43).

دور آخر لعلماء الشيعة في ثورة العشرين تمثل بالتعبئة والتوجيه وطرح الشعارات والأهداف التي تعكس المضمون الإسلامي للثورة، والعمل على بث الروح الحماسية من خلال الخطب التي تلقى في المساجد والحسينيات والعمل على إصدار المنشورات وتوزيعها، كما وأنشأت ( الهيئة العلمية العليا) ما يسمى بلجنة (إرشاد ودعوات) والتي كان من اختصاصها اصدار المنشورات والبلاغات وصحافة الثورة وكان من بين من حملو هذه المسؤلية الشيخ محمد علي والشيخ محسن أبو الحب والشيخ باقر الحلي والسيد محسن أبو المحاسن والشيخ عبد علي الماجدي (44). كما كان للثورة صحيفة حرة، إذ كان يصدر عنها صحيفتين اسبوعيتين هما (صحيفة الفرات) أشرف عليها الشيخ محمد باقر الشبيبي وكان بداية صدورها يوم 15 أيلول 1920، كما وأصدر السيد محمد عبد الحسين جريدة (الاستقلال) في اليوم الأول من تشرين الأول 1920 إذ صدر من الجريدة الأولى خمسة أعداد ومن الجريدة الثانية ثمانية أعداد وكان لهذه الصحافة والمناشير التي كانت توزع  أكيد الأثر في تأجيج مشاعر الحماسية لدى الثوار بالإضافة من إنها جعلت الجميع أمام اطلاع مباشر على سير العمليت العسكرية(45).

وبالمقابل كان الوضع العام لقوات الاحتلال وضعاً حرجاً في الأشهر الأولى من الثورة الأمر الذي دفع نائب الحاكم المدني في العراق إلى إن يبعث رسالة إلى شيخ الشريعة يقترح فيها التفاوض(46) هذه الرسالة أثارت مسألة انقسام داخل قيادة الثورة وخلقت اتجاهين. الإتجاه الأول يرفض التفاوض مثله أكثرية الأعضاء في الهيئة العلمية المذكورة سلفاً وعلى رأسهم شيخ الشريعة الأصفهاني وإلى جانبه رؤساء العشائر من الذين رأو إن المشكلة لايأتيإلا بالمواجهة المسلحة، حيث أصدروا بياناً أكدوا فيه إن (لا مفاوضة قبل الجلاء ) وأكدوا على عزمهم في الأستمرار بالمقاومة مهما كلفت الظروف(47) أما بالاتجاه الثاني فقد حمله ثلاثة من أعضاء الهيئة العلمية هم الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ جواد الجواهري والشيخ عبد الرضا راضي، بالأضافة إلى العديد من زعماء العشائر وعدد من المثقفين(48).

إلا إن شيخ الشريعة قد حسم الموقف برده على رسالة نائب الحاكم العام في 14 أيلول 1920 منتقداً ما جاء في رسالته الأولى موضحاً إن أمر المفاوضة هو أمر يحتاج إلى المزيد من الدراسة والتأمل ولابد من الوقوف عليه جيداً(49).

   نرى في جواب شيخ الشريعة الأصفهاني لرسالة نائب الحاكم العام في العراق جاءت بعد أن راى سماحته إن التوجه المعنوي نحو الثورة أصبح كماً جيداً وإن الميول القيادية حملت أفكار وتطلعات الشعب العراقي بأغلبيته، وإن فترة الأعداد لهذه الثورة والتجاوب المباشر لها هي خير دليل على الرغبة في الاستمرار على ما مضى العراقيين عليه في الاصلاح وتغيير الواقع الفاسد الذي خلقه الاحتلال في كافة الجوانب الحياتية. هذا مع العلم بأن الذي دفع الأدارة البريطانية على التفاوض جاء ادراكاً منهم على عظم المسؤلية الملقات على عاتق المرجعية الدينية ودورها الأساسي في الثورة، وهي الجهة الوحيدة القادرة على تغيير  مسار الثورة مع علمهم إن البعد الديني هو البعد الأكثر تأثيراً، هذا من جانب. ومن جانب آخر لم يكن تأثير تعبوياً جهادياً بالدرجة الأساس، بل كان دوراً معنوياً ومادياً أيضاً بالشكل الذي ساعد على سد جميع نفقات واحتياجات الثورة المادية، خصوصاً المساعدة على تقدم الدعم المادي للثوار المحتاجين ومن واردات الحقوق الشرعية والتبرعات التي أطلقها الميسورين. إن المرجعية الدينية برجالاتها الذين قادوها أبان ثورة العشرين وبتوجيهاتهم وخطاهم السديدة عملوا على إذابة لفوارق المذهبية والطبقية وقتل العزلة التي كانت تخيم على بعض المناطق، والتحام الصفوف المفترقة بين بعض العشائر.

   وهكذا نجد أن الدور الأكثر بروزاً في أهم أحداث العراق السياسية دوراً دينياً مثله قائد روحي قاد جموع غفيرة متوجهة نحو الإصلاح والتجديد في الأوضاع التي بقيت رائدة بعيدة عن أي اصلاح.

    ثورة العشرين كانت تمثل ثورة الحق بكل أوجه ضد الباطل بكل أوجهه رغم إن الوجهين مختلفين من حيث المعنى والمضمون وحتى في الاعداد. وقد لا يكتب عنها بهذا الشكل المفصل لو لم يكن فيها لولباً يحركها ويوجه أطرافها بوطنية صادقة ممزوجة بالأهداف السامية التي يطمح إليها الجميع.

     كان وكما رلأينا إن لرجالات الدين الدور الأساسي في هذه الثورة وإن مرجعيتهم كانت العنصر الثاني لنجاحها وان مؤسستهم الدينية هي تمثل الإطار الذي رسم المخطط واستخلص الأهداف وإن الساحة الميدانية التي احتضنت هذه المؤسسة واقتصد بها أرض الفرات كانت أساساً لهذا المنجز التاريخي الأصيل، وسنلخص بحلقات أخرى ان شاء الله أدواراً أخرى لرجال الدين الشيعة بأحداث عراقية أخرى قادوها بكل حكمة وحنكة وتفاني سجلها لهم التأريخ نصراً مؤزراً بالرغم من إن بعض الأقلام قد أهملت هذه الانتصارات بل إنها لم تأخذ حقها الأصيل والكامل من الذين استلو اقلامهم ليكتبوا التأريخ العراقي الباسل.



(الهوامش)


1. عبد الجبار حسن الجبوري، الأحزاب والجمعيات السياسية في القطر العراقي(1908-1958) (بغداد:1977)،ص47.
2. سليم الحسيني، دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار 1900-1920، (القدير للدراسات والنشر، بيروت:1995)، ص237.
3.   عبد الرزاق الوهاب، كربلاء في التأريخ، ج3(بغداد:1935)، ص25.
4. د.علي الوردي، لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث، ج5، القسم الأول، ط1، (كوثر كويد، إيران:2004)،ص113-115.
5.   المصدر نفسه، ص115.
6.   المصدر نفسه، ص115.
7.   حسن شبر، تأريخ العراق السياسي المعاصر، ج1، ص77.
8.   سليم الحسيني، المصدر السابق، ص204.
9.   سليم الحسيني، المصدر نفسه، ص204.
10.  فريق المزهر الفرعون، الحقائق الناصحة في الثورة العراقية سنة 1920 ونتائجها، ط2.(بغداد:1995)،ص102.
11.    المصدر نفسه،ص103.
12.    المصدر نفسه، ص104.
13.    د. عدنان عليان، الشيعة والدولة العراقية الحديثة (الوقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي 1914-1958)، ط1، (مؤسسة المعارف للمطبوعات، لبنان:2005) ص13-118.
14.    عبد الحليم الرهيمي، تأريخ الحركة الإسلامية في العراق (الجذور الفكرية والواقع التاريخي 1900-1924 ).ط2، (مطبعة الدار العالمية، بيروت:1985)، ص317-318.
15.    عبد الرزاق الحسيني، العراق في دوري الاحتلال والانتداب، ج1، (صيدا:1935)ص94-95.
16.    د.عدنان عليان، المصدر السابق، ص319.
17.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص216.
18.    السيد عبد الرزاق الحسيني، الثورة العراقية الكبرى 1920، الطبعة المنقحة، ص98.
19.    المصدر نفسه، ص99.
20.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص216.
21.    عبد الرزاق الحسيني، المصدر السابق، ص99.
22.    عبد الشهيد الياسري، البطولة في الثورة العشرينية، (النجف:1966)، ص152.
23.    عبد الرزاق الحسيني، المصدر السابق، ص104.
24.    المصدر نفسه، ص104.
25.    المصدر نفسه، ص104.
26.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص218.
27.    عبد الرزاق الحسيني، الثورة العراقية الكبرى 1920، المصدر السابق، ص 104.
28.    المصدر نفسه، ص105.
29.    المصدر نفسه، ص105.
30.    فريق المزهر الفرعون، المصدر السابق، ص195.
31.    فريق المزهر الفرعون، المصدر السابق، ص،195؛ عبد الشهيد الياسري، المصدر السابق، ص157.
32.    الفرعون، المصدر السابق، ص196.
33.    عبد الشهيد الياسري، المصدر السابق، ص162-164؛عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص220.
34.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر نفسه، ص220.
35.    عبد الحليم الرهيمي، ص220.
36.    عبد الشهيد الياسري، المصدر السابق، ص285-286.
37.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص224.
38.    سلمان هادي الطعمة، تراث كربلاء، (بيروت:1983)، ص397.
39.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص224.
40.    الإمام محمد حسيني الشيرازي، تلك الأيام(صفحات من تأريخ العراق السياسي) ط (مؤسسة الوعي الإسلامي، بيروت2000)، ص17.
41.    فريق المزهر الفرعون، المصدر السابق، ص208-209.
42.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص225.
43.    عبد الشهيد الياسري، المصدر السابق، ص218.
44.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص226.
45.    عبد الرزاق الحسيني، الثورة العراقية الكبرى 1920، المصدر السابق، ص 211.
46.    عبد الرزاق الحسيني، العراق في دوري الاحتلال والانتداب، المصدر السابق، ص173.
47.    المصدر نفسه، ص175.
48.    فاروق صالح العمر، حول السياسة البريطانية في العراق 1914-1821( دراسة وثائقية )(بغداد:1977) ص85؛ محمد مهدي البصير، تاريخ التضحية العراقية، ج1، (بغداد:1924) ص260.
49.    عبد الحليم الرهيمي، المصدر السابق، ص229.
50.    عبد الشهيد الياسري، المصدر السابق، ص183.