ذكر الله سبحانه وتعالى تجريم السرقة والعقاب عليها في سورة المائدة بقوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءاً بما كسبا نكالاً من الله)(1) مع الاختلاف في موضع قطع اليد في الفقه الإسلامي (2).
ولاشك في صرامة تلك العقوبة التي قررها الشارع الإسلامي الحكيم على أفعال السرقة متى اكتملت عناصرها وانتفت موانعها، وهي صرامة تبررها ضرورات الردع العقابي الذي يعود على المجتمع الإسلامي بالمنفعة من حيث الأمان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم متى علمنا إن السارق قد يبيح لنفسه هتك العرض استمراءً للجرم وإشباعا للهوى (3).
ففي عقوبة القطع هذه علاج ناجح وسريع وحاسم لجسم هذه الأمة وتطهيرها من شر السراق، وهي - أي عقوبة القطع - أشبه ببتر العضو الفاسد من الجسم اتقاءً ًلشره وسريان فساده في سائر أنحاء الجسم وحفاظاً على باقي الجسم من شر هذا الداء، فالفرد الفاسد الشرير في الأمة كالعضو الفاسد في جسم المريض إذ في بقاءه ما يفسد الجسم كله، كذلك فان في بقاء السارق سليم اليد التي سرق بها ما يغري غيره من ضعاف النفوس وما يمكنه من العودة إلى جريمته مرةً أخرى وفي ذلك إضرار بالمجتمع وزعزعته للثقة والأمان والاطمئنان فيه إلى ابعد حد. فضلاً عن إن اليد الآثمة غير القابلة للإصلاح يقضى عليها بالقطع شرعاً شانها في ذلك شان المجرم غير القابل للإصلاح في إعدامه وفي ذلك يصبح عبرة للناظرين وهو ما يستفاد من قوله تعالى ( نكالاً من الله )، فالعقوبة هنا تفيد شل إرادة الجاني الإجرامية وإعدام آلة الجريمة وأداتها .
ولعل في العقاب على السرقة اعتداء على نظام الملكية الفردية، إذ لو لم يعاقب عليها لكان لكل إنسان أن يشارك غيرة في طعامه وشرابه وكسائه بغير حق ولأصبحت الفعلية في نهاية الأمر للأقوياء، ولكان الجوع والعري والحرمان نصيب الضعفاء .
لذا لا ينظر الإسلام للعقاب على جريمة السرقة إلى قيمة الشيء المسروق(4).
إنما ينظر إلى النتائج الخطيرة المترتبة علية، إذا كانت العقوبة شديدة حمايةً لحرمات الله سبحانه وتعالى، لذا فمن السفاهة - بعد ذلك - القول ببشاعة عقوبة القطع وشدتها وعدم إنسانيتها وعدم تناسبها مع المسروق، وقديماً سفه من قال :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فأجابه الآخر :
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة وافهم حكمة الباري (5)
لذا فمن الخطأ القول " إن في قطع يد السارق شدة وغلظة لا تأتلف والمدينة الحديثة والحضارة المعاصرة " حتى أن الحضارة تقضي إن يكون الناس عرضة لأهل الجنايات ممن لا أخلاق لهم ولا دين، كما إن في العقاب على السرقة محاربه لتلك الدوافع الإجرامية بدوافع مضادة لها (6).
لذا نجد إن الدول التي تطبق هذا الحسم (القطع) لمادة الشر لا تقطع إلا أيدي قليلة لو وزنت بحجم جرائم السرقات التي تذهب الأرواح في سبيلها، وهي -أي الأيدي - المقطوعة لا تعد شيئاً مذكورا بجوار تلك السرقات (7).
لذا فعلى من يذهب به فرط شفقتهم بالمجرم السارق إن يعلموا إن الأيدي التي تقطع ستكون قليلة جداً لكنها حاسمة رادعة للأشرار... وللتدليل على خطورة هذه الجريمة وعدم تعاون الشريعة الإسلامية ما روي عن السنة النبوية الشريفة من:
إن قريشاً حينما أهمهم أمر المخزومية التي سرقت اختاروا أسامة بن زيد (عليه الرحمة) ليكلم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بشأن الشفاعة لها في عدم القطع فقام النبي (صلى الله عليه واله وسلم) مخاطباً الناس بقوله : (أتشفع في حد من حدود الله ؟ يا أيها الناس إنما ظل من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، و أيم الله لو إن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)(8).
كما قرن(صلى الله عليه واله وسلم) جريمة السرقة بعدم الإيمان بقوله (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)(9).
وفي ذلك ما يفيد ضرورة تطبيق هذا العلاج الناجح والحاسم قطعاً لدابر الشر وحسماً لمادة الفساد وما أحوجنا اليوم إلى هذا العلاج بديلاً عن تلك العقوبات البسيطة وغير الرادعة التي تصدرها القوانين الوضعية والتي تدور معظمها بين السجن والحبس، مما جعل من هذه العقوبة الوضعية غير فاعلة وغير رادعة وغير حاسمة .
الهوامش:
1. انظر الآية / 38 منها.
2. هناك خلاف في الفقه الإسلامي حول موضع قطع اليد في جريمة السرقة فهي في الفقه الجعفري تنصب على الأصابع الأربعة فقط مستندين في ذلك على إن هذه المواضع من المساجد والباري تعالى يقول (إنما المساجد لله- سورة الجن - الآية/18 )، وهو ما أثبته قضاء الإمام أمير المؤمنين (ع). أما موضع القطع في المذاهب الأخرى فينصب على قطع رسغ اليد. انظر في الفقه الجعفري مثلاً : المخنصر النافع في فقه الأمامية للحلي (ط/3) النجف الاشرف ص302 . ومهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام للسيد عبد الأعلى السبزواري (قد)، مطبعة الآداب، النجف الاشرف، 1406هـ، الجزء (28) ص107- 108.ومن المذاهب الأخرى انظر مثلاً : المبسوط للسرخسي الحنفي مطبعة السعادة، القاهرة، 1324 هـ، الجزء التاسع ص133-134 وانظر أيضا : الميزان للشعراني الشافعي، مطبعة ألبابي الحلي، القاهرة، 1359، الجزء الثاني ص140، وانظر أيضا : المغني لابن قدامة الحنبلي، مطبعة المنار، القاهر، 1348، الجزء العاشر، ص265 .
3. انظر : د. عمار عباس الحسيني، وظائف العقوبة " دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون " رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية القانون، جامعة النهرين، ص236 - 237 .
4. وان كان يشترط للقطع تحقق النصاب بين من يقول لا يقطع إلا في ربع دينار فصاعداً، وبين من يقول لا يقطع إلا في عشرة دراهم، وان كان الرأي الأخير، رأي مرجوح .
5. أشار إليه : د. مصطفى الزلمي، فلسفة الشريعة، دار الرسالة، بغداد، 1978-1979 . ص50
6. عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالوضعي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1985- ص652.
7. وفي ذلك يقول الشيخ محمد أبو زهرة ( إن عقوبة السرقة للترويع وان ذلك يتحقق بإعلان العقوبة وبثبوت التطبيق ولو في أيدي محدودة إذ العبرة الترويع بالتنفيذ ولإعلان لا بكثرة الأيدي المقطوعة) انظر كتابه: الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، العقوبة، دار الفكر العربي، القاهرة، ص138 .
8. انظر مثلاً : صحيح البخاري بحاشية السندي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، سنة الطبع لم تذكر، الجزء الرابع ص173 .
9. المصدر نفسه، ص171.