الرجوع للعدد الرابع
حفظ هذا المقال فقط
الموقف الأمريكي من طموحات إيران الإقليمية صراع أم تنافس ؟
سليم كاطع علي
مدرس مساعد / قسم الدراسات الأمريكية / مركز الدراسات الدولية / جامعة بغداد
     تحتل منطقة الشرق الأوسط أهمية كبيرة من قبل الإدارات الأمريكية المختلفة نظراً لطبيعة وحجم المصالح الغربية والأمريكية فيها خاصةً، ولسيادة فكرة إن ديمومة واستمرارية الدول الصناعية المتقدمة يأتي من خلال كون هذه المصالح بعيدة عن أي مصدر للتهديد أو السيطرة عليها .

    وقد ساد تصور منذ منتصف الثمانينات وصولا إلى بداية التسعينات من القرن الماضي بان نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي وحلف وارشو ونظام القطبية الثنائية الذي اعتبر بمثابة نصر ساحق للإستراتجية الأمريكية التي اتبعت في مواجهة الاتحاد السوفيتي منذ الحرب العالمية الثانية قد قلصت من الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط .

ومما لا شك فيه إن التحولات الدولية والإقليمية التي رافقت نهاية الحرب الباردة كانت من الشدة على الإدارة الأمريكية بحيث جعلتها تولي اهتماماً ملحوظا للقضايا الجديدة التي أفرزتها هذه التحولات في أوربا واسيا، إلا إن من السابق لأوانه التحدث عن إمكانية حدوث تحول في اهتمامات هذه الإدارة تجاه قضايا الشرق الأوسط، لان هناك العديد من المؤشرات التي تساهم في بقاء الشرق الأوسط من المناطق المركزية في اهتمامات الإدارات الأمريكية المتعاقبة .

    وهكذا فان تداخلات العامل الدولي في المنطقة قد تجاوزت اعتبارات الجغرافية والتاريخ، إلى الارتباط بمصالح أكثر تحديداً في تلك المنطقة تمثلت فيما سمي في الكتابات الدولية عادةًً (بالأهمية الإستراتيجية العابرة الإقليمية)(1).

فنهاية الحرب الباردة وانهيار قطب الموازنة الثاني في العالم قد فتح الباب واسعاً أمام ولوج عصر البناء الامبريالي للنظام الدولي ومن شأن ذلك أن يمنح القوة العظمى الوحيدة في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) فرص لا يمكن إهمالها للتمدد مكانياً في صورة رهيبة من الاختراق الجيولوجي لأعقد مناطق الصراع العالمي التي لم يكن ممكناً الوصول إليها أيام التوازن السابق واختراق مماثل لمعاقل الاقتصاديات الدولية والإقليمية ومناطق الثروة العالمية في عملية تاريخية لضمان استحقاقات القوة العظمى المهيمنة، وتأكيداً لدورها المعاصر وتعبيرا عن حقائق القوة التي بحوزتها (2)   .

    لقد كانت أحداث 11 سبتمبر التي داهمت الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها على يد عناصر شرق أوسطية تنتمي في غالبيتها إلى دول حليفةً تقليدياً لها نقطة الشروع في حملة مكافحة الإرهاب التي جعلت نهاياتها منفتحة مكانياً وزمانياً، بل إن هناك ومن داخل دائرة صنع القرار الأمريكي يعتبر أحداث الحادي عشر من أيلول بمثابة الهدية التي جاءت بها السماء إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتتولى بنفسها قيادة الحملة الواسعة للتغيير في منطقة الشرق الأوسط(3).

    ولاشك إن عملية غزو العراق ثم احتلاله من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 قد امتدت تداعياتها إلى كافة دول المنطقة وتحديدا إيران التي كانت تخشى من التداعيات الأمنية والسياسية والإستراتيجية التي قد تنجم عنها، خاصة وان الولايات المتحدة قد جعلت من إيران إحدى دول محور الشر بعد حربها على أفغانستان وإسقاط نظام طالبان، الأمر الذي جعلها تبدو أكثر قلقاً من أي مسعى أمريكي للتغيير سواء في العراق أو في منطقة الشرق الأوسط عموما.

    ومن المعلوم إن إيران عملت على استغلال ما خلفه العدوان على العراق من فراغ استراتيجي في منطقة الخليج العربي، وما تركه انهيار الاتحاد السوفيتي من فراغ في أسيا الوسطى والقوقاز، لفرض مكانتها كقوة إقليمية بغية تحقيق طموحاتها الأيدلوجية وأطماعها في الهيمنة وتخويف جيرانها كهدف على المدى القريب، ثم فرض سيطرتها على المنطقة كهدف على المستوى البعيد (4).

وبالتالي فان الولايات المتحدة والغرب عموماً ترى في هذا التوجه تحدياً لها وفي أكثر من موقع، وإنها ربما تسعى إلى صياغة دور مركزي لها كقوة إقليمية في المنطقة، إن لم يكن فرض تغيير جذري في ميزان القوة الإقليمي لصالحها .

    فعلى مستوى العلاقة مع سوريا ولبنان تحاول إيران أن تجعل من هذه الساحة ميداناً لتحدي السياسة الأمريكية عن طريق إعلانها تحالف شبه استراتيجي مع سوريا تلتزم بموجبة إن أي اعتداء على سوريا يعتبر بمثابة اعتداء عليها، خاصةً بعد ازدياد الضغط على سوريا من قبل الولايات المتحدة بعد حادث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، وهو الأمر الذي دفعها إلى إخراج قواتها من لبنان(5).

    كما عملت إيران على تعزيز علاقاتها مع حزب الله اللبناني وتقديم كافة إشكال الدعم والإسناد التي يحتاجها، وهي إحدى الاتهامات الأمريكية الموجهة إلى إيران كونها تساند حزب الله الذي تعتبره الولايات المتحدة منظمة إرهابية .

    وفي هذا الإطار سعت إيران أيضا إلى توثيق علاقاتها مع حركة حماس الفلسطينية حتى قبل وصولها إلى السلطة، حيث قام رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل بزيارة إلى طهران في كانون الأول 2005 خلال الاستعداد  للانتخابات التشريعية الفلسطينية، ثم تكررت الزيارة بعد فوز حركة حماس في شباط من العام نفسه، فضلاً عن علاقات طهران مع حركة الجهاد الإسلامي، وهو ما يعني إن إيران بخطواتها هذه أرادت أن توضح بان لها خطوطها الممتدة مع القوى الناشطة على الساحة الفلسطينية .

    وإذا كانت حادثة اغتيال رفيق الحريري حدثاً مهماً للسياسة الأمريكية لا يقل عن أحداث 11 سبتمبر 2001 من خلال زيادة الضغط على النظام السوري وحزب الله اللبناني، فإنها في نفس الوقت عملت على توظيف هذا الحدث لتحقيق هدفين آخرين: احدهما تجريد إيران من بعض عناصر قوتها في المعادلة السياسية الإقليمية، والثاني حرمان الساحة الفلسطينية من ظهيرها المقاوم، وقد اكتسب هذا الهدف مصداقية عالية بالنسبة للسياسات الأمريكية وكذلك الأوربية خاصة بعد اكتساح حركة حماس الانتخابات التشريعية التي جرت في كانون الثاني 2006(6).

     أما فيما يتعلق بالمسألة العراقية، فأن احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة عام 2003 قد جعل إيران في موضع الخطر المباشر خاصة وإنها أصبحت مجاورة إقليمياً للولايات المتحدة بحكم سيطرة الأخيرة على العراق وتحكمها بمنطقة الشرق الأوسط، فالقوات الأمريكية أصبحت على حدود إيران الشرقية في أفغانستان، وشمالا في جوار بحر قزوين في أكثر من دولة من دول الاتحاد السوفيتي السابق، كما إن جارتها باكستان دولة نووية ولها علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وهي تسير باتجاه علاقات مماثلة مع إسرائيل.

    ولا تختلف تركيا عن باكستان في هذا الجانب، أما في جنوبها فان الولايات المتحدة وبحكم مصالحها الإستراتيجية في الشرق الأوسط المتمثلة بحماية تدفق النفط وحماية أمن إسرائيل فقد جعلت من تواجدها العسكري اكبر وأضخم من أي منطقة أخرى، وفي هذا الصدد يشير بول وولفوفيز وهو احد منظري تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بقوله " إن أمن الدولة العبرية وديمومتها لن يكون متيسرا ومضمونا إلا بشرط الإطاحة بالطغم الحاكمة في الدول العربية وإيران " (7 ) .

    ولعل ابرز ما يوضح القلق الإيراني من التواجد العسكري الأمريكي إلى جوارها هو ما عبرت عنه الرسالة التي أرسلت من قبل (153) نائبا إلى البرلمان الإيراني حيث أشارت إلى " انه في إعقاب وضع القوات الأمريكية في أفغانستان واحتلال العراق فقد وصل التهديد إلى حدودنا"( 8 )، ولا شك فان احتلال العراق وسقوط نظامه قد جعل إيران أمام فرص وتحديات في آن واحد، فعلى صعيد الفرص المتاحة لها فقد استغلت انهيار النظام في العراق وانشغال أمريكا في حربها في العراق لتتحول إلى القوة  الإقليمية الأبرز والى لاعب أساسي في المنطقة، أما على مستوى التحديات فقد أصبحت إيران أكثر من أي وقت مضى عرضة للضغوط الأمريكية وبمختلف الوسائل لمنعها من البروز كقوة إقليمية، لان الولايات المتحدة وحفاظاً على مصالحها الحيوية في المنطقة سوف لن تسمح ببساطة ببروز قوة إقليمية معادية لها .

    من المعلوم إن إيران قد اختارت خلال عملية غزو العراق ثم احتلاله عام 2003 ما يمكن تسميته بـ(الحياد الايجابي)، فهي لم تقاتل إلى جانب النظام العراقي ولا ضد القوات الأمريكية، كما أنها في الوقت نفسه لم تعمل على إعاقة أو تسهيل مهمة القوات الأمريكية، ولعل مرد ذلك هو سنوات الحرب والعداوة والتهديد المتبادل بينها وبين النظام العراقي السابق فهي لن تخسر شيئاً برحيل ذلك النظام ولم تحرص على التمسك ببقائه في الوقت نفسه، وبالتالي فقد أصبحت إيران تبحث عن فرص لحماية مصالحها وأمنها بعد سقوط ذلك النظام، فمن غير المعقول أن تقف إيران موقف المتفرج على سياسة الولايات المتحدة في المنطقة عموماً وفي العراق على وجه الخصوص بإقامة نظام جديد إلى جوارها الاستراتيجي خاصة وان ذلك النظام قد يكون معادياً لها وبالتالي العودة إلى سنوات التوتر التي سادت علاقاتها مع النظام السابق، ولهذا حرصت على ألا تدع  الولايات المتحدة تنفرد في بناء النظام الجديد في العراق، وعملت على أن يكون النظام غير معادي لها إن لم يكن مؤيداً أو متعاطفاً معها .

    وفي هذا الصدد فقد أشارت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزارا يس في كلمتها أمام لجنة الميزانية في الكونغرس الأمريكي بقولها " إن احد اكبر التحديات في الشرق الأوسط هو سياسة النظام الإيراني في زعزعة الوضع في أكثر مناطق العالم هشاشة"، كما أشارت إلى إن سياسات إيران الإقليمية تثير قلقاً كبيراً فهي مع شريكتها سوريا تزعزع استقرار لبنان والأراضي الفلسطينية وحتى جنوب العراق (9).

    إن ما تقدم يفسر لنا سبب التوتر الإيراني الأمريكي فيما يتعلق بالمسألة العراقية، حيث تتهم الولايات المتحدة إيران بالتدخل في الشأن العراقي الداخلي بإرسال السلاح إلى الجماعات المسلحة تارة، وبإيواء أفراد من تنظيم القاعدة فوق أراضيها تارةً أخرى(10). خاصةً وان الولايات المتحدة ترى في تحقيقها للنصر في العراق البوابة الرئيسة لتحقيق إستراتيجيتها الكبرى في القضاء على الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، حيث تشير تلك الإستراتيجية إلى " إن الحرب على الإرهاب هو التحدي الحاسم الذي يواجه جيلنا تماماً كما مثل الكفاح ضد الشيوعية والفاشية تحديات الأجيال السابقة، وكما كان الحال بالنسبة للتحديات السابقة فان الولايات المتحدة ملتزمة التزاماً كاملاً بمواجهة هذا التحدي، وسوف تفعل كل ما يتطلبه الأمر لتحقيق النصر" (11)، فضلاً عن ذلك فان المخاوف من طموحات إيران الإقليمية لم تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية وإنما تعدتها إلى دول المنطقة الأخرى وخاصة الدول العربية وفي هذا الإطار أشار وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في محاضرة ألقاها في مجلس الشؤون الخارجية بنيويورك في أيلول 2005 إلى ذلك بقوله " إن أهم ما فعلته الحرب على العراق كان تعزيز النفوذ الإيراني فيه وفي المنطقة، على عكس ما كانت ترمي إليه وتأمل الولايات المتحدة وبعض الدول العربية من تحجيم لذلك النفوذ"(12).

    أما من ناحية ملف إيران النووي، فتحدي سياسة الولايات المتحدة في الحد من انتشار الأسلحة النووية في منطقة الشرق الأوسط عموماً ركيزة أساسية في إستراتيجيتها العالمية، خاصة بعد 11 سبتمبر 2001 التي دفعت بها إلى المزيد من التشدد في منع الانتشار النووي سواء بالقوة العسكرية أو بالدبلوماسية، وقد تبنت الإدارة الأمريكية إستراتيجية جديدة في مجال مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل كجزء من إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، كما نجحت في بلورة إجماع مع الدول الحليفة والصديقة لاسيما مع الاتحاد الأوربي في هذا المجال(13).

    وفي هذا المجال يعد المسعى الإيراني لامتلاك التقنية النووية هو الجانب الأكثر قلقاً في السلوك الإيراني، فامتلاك إيران لبرنامج نووي سيقلب ميزان القوى الإقليمية ويجعل منها قوى إقليمية كبرى في المنطقة، فالولايات المتحدة ترى إن المشروع النووي الإيراني في بوشهر لا يعتبر تهديداً مباشراً لمصالحها في النفط القوقازي، ونفط آسيا الوسطى، ولكنة ايضاً تهديد مباشر لمعابر النفط التقليدية في الخليج والشرق الأوسط(14) .

    إن قلق واشنطن حيال طموحات إيران النووية له ما يبرره لدى مختلف الإدارات الأمريكية لأنه من جهة سوف يجعل إيران بإمكاناتها الاقتصادية والعسكرية من أن تصبح قوى إقليمية ذات وزن في المنطقة وبالتالي تصبح قوى كابحة للسيطرة الأمريكية على شؤون المنطقة، ومن جهة أخرى فان نجاح إيران في تخصيب اليورانيوم وحيازتها على برنامج نووي سوف يشجع دول المنطقة على دخول مجال الحيازة النووية خاصةً في مجال القدرات النووية السلمية غير البحثية وهو ما ينتج عنة تأثيرات إستراتيجية خطيرة على المنطقة لا تقل عن تأثير الأسلحة النووية، مع ذلك يمكن وصف السياسة الأمريكية في هذا المجال بسياسة الكيل بمكيالين، فمن جهة تضغط على إيران وتنعتها بكونها دولة تساند الإرهاب وتضعها في دول محور الشر، ومن جهة أخرى نجدها تغض النظر عن حليفها التقليدي في المنطقة (إسرائيل) بل وتقدم لها الدعم اللازم وهي التي لم توقع على معاهدة حضر انتشار الأسلحة النووية وليست عضواً في الوكالة الدولية للطاقة الذرية (15)، وهكذا وفي ظل الإصرار الإيراني على إن السياسة النووية هي سياسة ثابتة ولن تتغير مهما كانت الضغوط الأمريكية والغربية عموماً تبقى الخيارات الأمريكية مفتوحة على عدم استبعاد أي خيار لردع إيران عن طموحاتها النووية، حيث تؤكد إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في هذا الجانب على "إن الولايات المتحدة ملتزمة بإبقاء اخطر أسلحة العالم بعيدة عن أيدي أكثر الأشخاص خطورة في العالم"(16).

    وفي هذا المجال تم إدراج الخيار العسكري ضمن الوثيقة الأخيرة لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، تلك الوثيقة التي أحيت ما سمي "  بعقيدة بوش " وحق الولايات المتحدة بالقيام بضربة عسكرية وقائية ضد أي تهديد حالي أو مستقبلي للقوى العظمى،  كما سعت الولايات المتحدة في اتجاه العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية خاصة من خلال مجلس الأمن الدولي، فضلا عن إحداث تغيير داخلي للنظام في طهران، حيث خصصت الخارجية الأمريكية مبلغ (75) مليون دولار من الكونغرس لدعم الخطوات الديمقراطية في طهران ووضعتها ضمن إطار الخطوات الفعلية لسياسة تغيير النظام (17)، ونتيجة لذلك فقد كان الرد الإيراني موازياً للسياسة الأمريكية حيث أعلن الناطق باسم الحكومة الإيرانية غلام حسين الهام " إن طريق الحصول على التكنولوجيا النووية لا عودة عنه، وان التهديدات لن تكون قادرة على إبعاد الشعب عن الأهداف التي يسعى إليها" (18)، كما توعد غلام علي رشيد نائب قائد القوات المسلحة أن تكون إيران " مقبرة غزاة " بقوله " إن القوات المسلحة الإيرانية من خلال خبرتها في الحرب ستحول هذه الأرض إلى مقبرة للغزاة ولكل من يعتدي عليها" (19).

    ومن خلال متابعتنا لسياسة إيران في المجال النووي نلاحظ أنها كانت سياسة ذكية في كيفية التعامل مع القضية، فهي لم تغلق الباب أمام الدعوات المختلفة للدخول في مفاوضات حول ملفها النووي، وفي هذا الجانب كانت مفاوضاتها مع الاتحاد الأوربي فضلا عن المفاوضات الثنائية مع روسيا إلى جانب مفاوضاتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن هنا فان إيران كانت تعتمد على سياسة كسب الوقت للوصول إلى المرحلة الحاسمة من برنامجها والمتمثلة بتخصيب اليورانيوم وهو ما تم فعلا .

بناءً على ما تقدم يمكن القول إن البرنامج النووي الإيراني دخل مرحلة اللاعودة بمعنى لا احد باستطاعته إيقاف البرنامج مهما كانت الأساليب والضغوط التي يمارسها، وبالتالي يمكن تلمس ثلاثة طرق لكيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني وهي :

الأولى: بواسطة العمل العسكري المباشر، وهو ما نستبعده لأسباب عدة منها :

1.    المأزق الأمريكي في أفغانستان والعراق وعدم حسم حربها فيهما الأمر الذي أدى إلى استنزاف القدرات الأمريكية، وعدم قدرتها على ضرب أي بلد أخر سواء كانت إيران أو سوريا، يضاف إلى ذلك ضعف المعلومات الاستخبارية الأمريكية حول إيران خاصة بعد الثورة الإيرانية عام 1979 مما يعني عدم القدرة على تحديد مدى دقة المعلومات المتوفرة، وهو ما لاحظناه أيضا في ضعف تلك المعلومات حول اتهام العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل، مما وضع أمريكا في موضع عدم الثقة حتى من قبل حلفائها وهو أمر لا يمكن تكراره مع إيران التي لا تتوافر عنها أية معلومات مؤكدة ودقيقة .

2.    موقف الدول الأوربية الذي يخالف الموقف الأمريكي في إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن والرد العسكري في حال فشل الحل النهائي، فضلاً عن ذلك اعتراض كل من روسيا والصين على  استعمال العمل العسكري نظرا للمصالح العسكرية والنفطية التي تربط هذين البلدين مع طهران .

3.    صعوبة تحديد المواقع النووية الإيرانية بسبب التوزيع المتباعد والشاسع لهذه المواقع داخل الأراضي الإيرانية، وهو ما يحول دون استهدافها جميعا من خلال القصف الجوي خاصةً.

4.    لا يمكن لأحد أن يتكهن بطبيعة الرد الإيراني في حال تعرضت الى عمل عسكري من قبل الولايات المتحدة، فالقواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة فضلاً عن قواتها في العراق ستكون هدفها سهلاً لصواريخ شهاب 2 وشهاب 3 الإيرانية التي يصل مداها إلى أكثر من (2000) كيلومتر، ولاشك فان هذا الأمر يشكل عامل قلق للإدارة الأمريكية الحالي .

الثانية: إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن باتفاق جميع الأطراف الدولية المؤثرة وهي الولايات المتحدة، الاتحاد الأوربي وروسيا لإضفاء الشرعية لأي عمل عسكري ضد إيران، وهو أمر مستبعد أيضا ً نظراً لتضارب المصالح بين جميع الأطراف، لكن هذا لا يعني استبعاد القيام بعملية استباقية من قبل الولايات المتحدة أو من قبل حليفتها إسرائيل لضرب المنشات النووية الإيرانية أو ما شابه ذلك على غرار قصف مفاعل تموز العراقي من قبل إسرائيل عام 1981، دون الدخول في حرب أو التورط في جبهات أخرى على الرغم من النتائج التي يمكن أن ترتب على ذلك العمل .

الثالثة: استعمال إسلوب العقوبات الاقتصادية ضد إيران ولكن ليس على غرار العقوبات التي فرضت على العراق، وإنما تشمل تجميد الأموال، ومحاصرة حركة التنقل للمسؤولين الإيرانيين وصولا إلى فرض عقوبات على الشركات الأمريكية أو الفروع الأجنبية التابعة لها والتي تتعامل مع طهران، فضلاً عن إثارة العوامل الداخلية والخارجية ضد النظام وتقديم الدعم للجماعات الإيرانية المعارضة والتعويل عليها في إسقاط النظام من الداخل، ونعتقد إن هذا الأسلوب اقرب إلى ارض الواقع طبقاً لحسابات الربح والخسارة المتوقعة من أي عمل عسكري واستناداً لمجريات الأحداث الدولية التي تتجه إلى تجنيب المنطقة أي عمل عسكري مستقبلاً .


الهوامش :
1.   انظر: التقرير العربي الاستراتيجي   2004- 2005 المنشور على الوقع التالي في الانترنيت :
http // www . ahram . org . eg / acpss / ahram /2001 / 1/1 RAB 76.HTM
2.  د. سرمد عبد الستار أمين، رؤية إستراتيجية جديدة للأمن في الشرق الأوسط، مجلة دراسات دولية، جامعه بغداد، مركز الدراسات الدولية، العدد 29، كانون الأول 2005، ص 75 .
3.   المصدر نفسه، ص80 .
4.  د. سعيد رشيد عبد النبي، القدرات العسكرية الإيرانية بين الزعم والوهم، أوراق أسيوية، جامعة بغداد، مركز الدراسات الدولية، العدد 74، السنة الثالثة، حزيران 2001، ص2.
5.  خالد الحروب، إيران: تحدي ( أو تغيير ) موازين القوى الإقليمية، مجلة شؤون عربية، القاهرة، العدد125، ربيع 2006، ص14 .
6.  د. نيفين عبد المنعم مسعد، الدور الإيراني في المنطقة العربية: الأبعاد والتداعيات، مجلة شؤون عربية، القاهرة، العدد125، ربيع 2006، ص28.
7.  د. طلال عتريسي، إيران في تحولات الشرق الأوسط : المخاطر والفرص، مجلة شؤون عربية، القاهرة، العدد 125، ربيع 2006، ص34 .
8.  انظر : اصلاحيو إيران : الإصلاح يدخل من بوابات  إقامة العلاقات مع أمريكا، نشرة مركز الدراسات الإيرانية، جامعة البصرة، العدد 20، السنة الأولى، أيلول 2005 .
9.  انظر : صحيفة القدس العربي، العدد 5202، 18- 19 شباط  2006 .  
10. د. طلال عتريسي، مصدر سبق ذكره، ص 37 .
11. حول الإستراتيجية القومية الأمريكية للنصر في العراق انظر: النص الكامل للوثيقة المنشور على الموقع التالي في الانترنت: USINFO. state  .Gov
12. انظر : خالد الحروب، مصدر سبق ذكره، ص19 .
13. انظر : التقرير الاقتصادي العربي 2004 - 2005، المنشور على الموقع الانترنت التالي :
http // www . ahram . org . eg / aspss / ahram /2001 / 1 /1 RAB 76.HTM
14. انظر : لماذا تخشى واشنطن البرنامج النووي الإيراني ؟ نشرة مركز الدراسات الإيرانية، جامعة البصرة، العدد الثالث، السنة الأولى، كانون الأول 2004، ص2 .
15. صحيفة القدس العربي، العد 5202، 18 - 19 شباط 2006 .
16. انظر : بيل بيركوتيز، البيت الأبيض بعيد التأكيد على عقيدة الضربة الأولى على الموقع :
http / www . ipsnews . net / Arabic / nota . asp  4 / 2 / 2006
17. انظر : صحيفة الحياة، العدد 15703، 2/4/2006 .
18. انظر : صحيفة الحياة، العدد 15677، 7/3/2006.
19. المصدر نفسه.