الرجوع للعدد الرابع
حفظ هذا المقال فقط
التفكير وفسيولوجية الدماغ
د.عامر إبراهيم علوان
مركز تطوير الملاكات - هيئة التعليم التقني
فكرة تعليم التفكير ليست بالجديدة، فعند الرجوع إلى عدة قرون نجد إن تحسين أو تطوير الذهن كان هدفا أساسيا للتربية منذ ذلك الوقت، وعدت دراسة المواد الكلاسيكية والرياضيات من المواضيع الذهنية التي تقوي الملكات استرشادا بنظرية الملكات والذكاء الفطري التي سيطرت على الممارسات التربوية حتى الستينات من القرن العشرين عندما طور (فايكوتسكي Vygotsky) وآخرون سيكولوجية بنائية (constructivist Psychology) تنظر إلى المتعلمين على أنهم مبدعون نشيطون فعالون في مجال معرفتهم وباحثون عن المعلومات ومجهزين ومبتكرين لها.

ومنذ أن بدأت حركة تعليم مهارات التفكير في الثمانينات من القرن العشرين، ظهر العديد من البرامج التي تعنى بتعليم التفكير بشكل منفصل عن المواد الدراسية المقررة، أو بدمج مهارات التفكير ضمن هذه المناهج، وقد اجري عام 1990 إحصاء لعدد هذه البرامج، فظهر أن عددها يربو عن (100) برنامجا لتعليم التفكير في الأسواق الأمريكية لوحدها تختلف من حيث الأهداف والطبيعة والمحتوى، ومعظمها برامج تجارية تسعى لتحقيق كسب مادي، والبعض من هذه البرامج يحمل أسماء ( دراماتيكية ) مثل: 

•     برنامج المواهب غير المحددة  (Talents un limited(TU : 
صمم هذا البرنامج لتلاميذ المرحلة الابتدائية ليساعدهم على تطوير مهارات متعددة تسمى(مواهب)، ويحصل المعلمون على التدريب اللازم لتوجيه أو تعليم تلامذتهم التفكير المنتج(Productive Thinking)، واتخاذ القرارات والتخطيط والاتصال وتطوير قاعدة المعرفة .

•      برنامج الرياضيات المدرسية الشامل   
(Comprehensive School Mathematics Program (CSMP:
وهو منهاج رياضيات للمستوى الابتدائي يركز على التصنيف والمنطق الابتدائي والنظرية العددية، ويستخدم التلاميذ العاملون على هذا البرنامج الحواسيب والآلات الحاسبة والنماذج الهندسية لطرح المسائل واكتشاف المفاهيم وتطوير المهارات وتعريف الأفكار الجديدة.

•     برنامج الكورت لدي بونو(De Bono CORT ): 
وهو برنامج مخصص لكي يستخدمه الطلبة أيا كانت أعمارهم أو مستوى درجاتهم، ويقوم البرنامج بتطوير مهارات تفكير بناءة ناقدة و ابتكارية خلال مدة ثلاث سنوات.

•     برنامج مهارات التفكير العليا 
( HIGER-ORDER THINKING SKILLS (HOTS
وهو برنامج مختبري حاسوبي لطلبة الفصل(1)، ويستخدم برامج حاسوبية جاهزة متوفرة بالتوافق مع ممارسات تعليمية محددة لتعزيز المهارات فوق المعرفية(Metacognition) والاستدلال واللاقرينية (Deotextualization)، أي بعبارة أخرى اخذ شيء تم تعلمه في حالة واحدة وتطبيقه على حالة أخرى.

•      برنامج الإثراء الو سيلي 
INSTRUMENTAL ENRICHMENT 
ينهمك طلبة المرحلتين الابتدائية والثانوية مستخدمي هذا البرنامج في مجموعات مهام حل المشكلات وإجراء التمارين المصممة لجعلهم متعلمين فاعلين، ولتعزيز قابليات تعلم هؤلاء الطلبة.

•     برنامج (اوديسي Odyssey): 
هذا البرنامج يستخدمه طلبة المرحلتين الابتدائية والثانوية، ويركز على ستة مظاهر للتوظيف المعرفي هي: أسس الاستدلال وفهم اللغة والاستدلال الشفهي وحل المشكلات واتخاذ القرارات والتفكير المستثمر              (Investive Thinking).

•     برنامج الفلسفة للأطفال (Philosophy for children): 
صمم لتطوير مهارات التفكير والاستدلال من خلال المناقشات الصفية للمواضيع الفلسفية، وينظم البرنامج حول ستة روايات يطبق فيه الأطفال التفكير الفلسفي على حياتهم اليومية . 

وعلى الرغم من أن البرامج المذكورة سابقا تعتبر من برامج تعليم التفكير الأكثر شهرة في العالم ؛ وبالتالي الأكثر استخداما من قبل المتعلمين، فأنها لم تسلم من النقد الذي تمثل في تعامل البعض منها مع موضوعة التفكير على أنه "إضافة – على" (add-on) الواجبات التي يزخر بها اليوم الدراسي المثقل بالكثير من هذه الواجبات، مما يسبب نقصا في اكتساب المتعلمين لمهارات التفكير التي تعنى بها تلك البرامج كل على حدة، فضلا عن عدم وجود ضمانات أو شواهد تؤكد اثر انتقال هذه البرامج في مواقف جديدة أو في البيئة الخارجية لمستخدمي هذه البرامج، وذلك يتطلب دمج مهارات التفكير في مجمل عملية التعليم- التعلم في منهج تفكيري (Thinking Curriculum) يسبب تغييرا في المحتوى الدراسي القائم والأنشطة المصاحبة لهذا المحتوى بالشكل الذي يجعل من الطلبة الذين يدرسون هذا المنهج مفكرين جيدين.

إن الاهتمام بتعليم التفكير صار من أساسيات عمل الكثير من المؤسسات التربوية العالمية مما دعا تلك المؤسسات إلى إقامة العديد من البرامج التدريبية في مجال تعليم التفكير للأساتذة والمعلمين، وامتد ذلك إلى مد راء الشركات والمشاريع الصناعية الكبيرة.

وقد شهد عام 1990 في بعض دول العالم نشاطا تدريبيا تمثل في إقامة العديد من البرامج التدريبية لتعليم التفكير في نهاية الأسبوع، و إقامة المؤتمرات والندوات عن أهمية تعليم التفكير، مما حدا ببعض هذه الدول إلى الإعلان بأن أساتذتها ومعلميها يطبقون مهارات تعليم التفكير ضمن تدريساتهم في كافة المراحل الدراسية بعد أن أكملت تدريبهم جميعا على مهارات تعليم التفكير.

إن موضوعة "التفكير" كانت وما زالت موضع اهتمام عدد من العلماء والباحثين بمختلف تخصصاتهم واهتماماتهم العلمية، فقد أثر على الإدراك (التفكير) عدد من الأنظمة والفروع منها: علم الفسيولوجيا Psychology، (وهو العلم الذي يتعلق بتوظيف الأعضاء البشرية)، وعلم النفس Psychology  (فيما يتعلق بتطور نظريات العقل والذكاء)، ونظرية المعرفة (الايبستيمولوجيا Epistemology (وهي فرع من الفلسفة يركز على نظريات المعرفة)، وقد ساهم علم النفس المعرفي والايبستيمولوجيا في توضيح تفهمنا لمصطلح "التفكير" والميول المترافقة معه مثل: الانتباه Attention والدافعية Motivation .

 ولعلم النفس الإحيائي (Biological psychology) بمساندة من الطب النفسي والعقلي، وعلم الأعصاب، وعلم الأدوية دور في إظهار (صورة) للدماغ والعمليات المترافقة منها.فعلى مدى سنين عدة حاول العلماء أن يمركزوا وظائف ضمن الدماغ البشري، وبالنسبة للكثير منه فان الدماغ بتجاعيده غير الرائقة ولونه الرصاصي اللطيف بالكاد يبدو حيا، وتدريجيا ومن خلال الحالات السريرية والتجارب المخبرية ظهر الدليل على تثبيت وظائف معينة في مناطق محددة من الدماغ، مثلاً الكلام في منطقة تعرف (بمنطقة بروك Broca s area ) في الوقت الذي ترتبط فيه مناطق المخيخ (Cerebrum) والذي يحتل معظم المنطقة أعلى وأمام الدماغ مع النشاط الذهني الأعلى، وفي عام 1921 جاء أحد علماء التشريح العصبي يسيق فبهذا المجال حينما أعلن انه وعلى الرغم من تراص الخلايا العصبية في الدماغ مع بعضها البعض بشكل وثيق إلا أنه لا يوجد اتصال فيزيائي بينها، وفي الوقت الذي  سمحت التقنيات الحديثة للعلماء بمراقبة تدفق الدم إلى مناطق مختلفة من القشرة المخية.. وبناء على هذه التطورات يمكن استنتاج ما يأتي:

*     على الرغم من التطور المعرفي، فما زال هناك الكثير لنتعلمه عن الدماغ العامل (Working Brain)، ولإدراك هذه الحقيقة سمي عقد التسعينات (1990s) بعقد الدماغ في الولايات المتحدة الأمريكية . 

*     يحدث معظم النمو في الدماغ البشري في مرحلة الطفولة المبكرة، ففي عمر ست سنوات يكون حجم الدماغ عند معظم الأطفال بحدود 90% من حجمه عند البالغين، وهذا يعني أن يكون (التدخلIntervention) في الوقت الذي ينمو فيه الدماغ قد يكون أكثر تأثيرا من الانتظار ليكتمل نمو الدماغ كليا. 

*     على الرغم من ارتباط مناطق معينة من الدماغ بوظائف محددة،إلا انه يبدو أن مناطق كبيرة من المخيخ والتي يشار إليها(Thinking Cap) تمتلك وظيفة عامة، ويعتقد البعض أن هذه المنطقة توظف أو تعمل بطريقة مشابهة للذاكرة الإضافية في الحاسوب،و إنها تعمل عند نشاطات المستوى الأعلى. 

*     يبدو أن هناك علاقة ثنائية بين عمل المخيخ والمهام المنوطة به، ففي الوقت الذي تكون فيه التوصيلات مع المخيخ مهمة لنشاطات المستوى الأعلى التي سيأخذها على عاتقه، فان هذه التوصيلات تتطور أيضا إذا ما تم تحفيزها. 

وتزودنا النظريات السيكولوجية برابط بين فسيولوجيا الدماغ والتفكير، وهنا حدثت العديد من التطورات منها: الاعتقاد بالذكاء الفطري العام الذي ساد النصف الأول من القرن العشرين بأنه ثابت وقابل للقياس وقد شكك بهذا التفسير للذكاء على جبهتين: أولهما قد لا تكون نسبة الذكاء (IQ) ثابتة على مر الزمن (تأثير فلاين The Flynn Effect)، وثانيهما، أن الذكاء ليس عبارة عن مجموعة من القابليات الموروثة فقط، فقد ولدت التطورات المستمرة في علم النفس المعرفي في النصف الثاني من القرن تفسيرات بديلة. 

لقد تأثر الكثير من المعلمين والمدرسين الذي تم إعدادهم في كليات التربية بشكل كبير بنظرية عالم النفس السويسري (جان بياجييه Jean Piaget) الذي استخلص نظريته من خلال الملاحظة المفصلة ولعب الأدوار، وبكل بساطة ادعى أن الأطفال يمرون خلال مراحل معينة جيدة التمييز في تفكيرهم، وإنهم يفعلون ذلك بالتسلسل ذاته بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه، وتتصف كل مرحلة بأنواع محددة من السلوك وبأنواع البنى المعرفية، وذلك يتطلب أن تكون التدخلات ملائمة للتطور المعرفي.

كما أكد علماء نفس معرفيون آخرون على الدور الفعال للمتعلم في تطوير تفكيره،إذ ربط (برونرBruner) الاستدلال (Reasoning) ببناء الخبرات، وتطوير خطة بها يستطيع المتعلمون أن يعطوا معنى لخبراتهم، ولصياغة مفهوم ما يترافق بشكل وثيق مع اكتساب اللغة، وباستمرار النقد لمفهوم الذكاء العام عرض (غاردنرGardener,1983) حالة لسبعة أنواع من الذكاء في الأقل (ربما عشرة) . وتصف نظريته في الذكاء المضاعف الكفايات(Competencies) في المنطق الرياضي، والذكاء اللغوي، والموسيقي والمكاني والحركي …. الخ.


لكل ما سبق دلالات في تعليم مهارات التفكير يمكن إدراج البعض منها:

•    يصور الدماغ على انه تحت الاستخدام(Under-use)، ولهذا فانه قادر على أن يتطور أكثر بالتحفيز.

•    يجب أن يساند الأساتذة والمعلمون المتعلمين تدريجيا، ويوفروا التغذية الراجعة المناسبة لجميع المتعلمين.

•    يبدو أن التعلم يستلزم مشاركة فاعلة من المتعلمين الذي يمكن أن يتعلموا بشكل أفضل في بيئة اجتماعية يكون فيها معنى لخبراتهم.

•    أن رؤية العمليات المعرفية للذكاء، وكما يقترح (فرانسواLa Francois, 1999) عبارة عن شبه صندوق من الأدوات التي نستخدمها لنلعب لعبة الإدراك، وقد لا نمتلك كلنا الأدوات نفسها في صندوقنا ولكننا نستطيع بالتأكيد أن نطور من طريقة استخدامنا لها، وإذا كان الإدراك (التفكير) قابل للتطبيق فان على الأساتذة والمعلمين أن يجعلوا عمليات تفكير المتعلمين واضحة وجلية، وذلك بتوظيف الطرائق التي تتداخل مباشرة في العمليات التفكيرية للمتعلمين، ويتضمن تحقيق جزء من ذلك التوظيف جعل المتعلمين يدركون بأنفسهم بأنهم مفكرون و بإمكانهم معالجة المعرفة وابتكارها وذلك بتعلمهم كيف يتعلمون !.

أن مجتمع المعلومات الذي نعيشه اليوم بعد انقضاء بضع سنين من القرن الحادي والعشرين يتطلب تغييرا في دور المؤسسة التعليمية التي يجب أن لا يقتصر على تعليم مهارات القراءة والكتابة على الرغم من أهميتها، بل يجب أن يمتد ليشمل مهارات تعليم التفكير بشكل مواز لاهتمامها بتعليم المهارات الأساسية السابق ذكرها، لكي يتمكن المتعلمون من التعامل مع بيئاتهم المتغيرة باستمرار.

وقبل الختام لابد من التنويه بان استخدام العاب الكمبيوتر فتح المجال واسعا لأسلوب يتطلب استخدام واسع لإستراتيجيات التفكير من خلال المحاكاة، والبرمجة بلغات الكمبيوتر مثل لغة( لوغو LOGO) المخصصة للأطفال الصغار‍‍‍‍‍ ! 



المصادر:
1 - علوان، عامر إبراهيم (2005)، بناء برنامج تدريبي لمدرسي الرياضيات في هيئة التعليم التقني و أثره في تفكيرهم وتحصيل طلبتهم، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية / ابن الهيثم / جامعة بغداد.
  2- Wilson, Valerie (2000), Can Thinking Skills Be Taught? Scottish council for Research in Education.