الرجوع للعدد الثالث
حفظ هذا المقال فقط
    من أحد مفاهيم العولمة الاقتصادية "إنها اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات الأجنبية وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتكنولوجيا ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق وخضوع العالم لقوى السوق العالمية"، فهي ترتبط بزيادة درجة الاعتماد على المبادلات بين الدول من خلال عملية انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنياتِ الإنتاج وانتقال الأشخاص والمعلومات، وقد أدت هذه العملية المتسارعة لدمج الأسواق بفضل التطور الهائل في تقنيات المعلومات والاتصالات في العقد الماضي إلى تراكم رأس المال لصالح نظام رأسمالي تديره في الأساس الشركات العالمية العملاقة العابرة للقومية (الأمريكية والأوربية واليابانية).

    ومع الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وتسارع الاندماج الاقتصادي إلى المستوى العالمي بسبب تسارع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أصبح من الضروري إعادة النظر ومراجعة السياسات الاقتصادية السائدة، إذ إن توفر الموارد الطبيعية والبشرية يضمن تحقيق نمو مناسب في الناتج المحلي الإجمالي، أما الآن فإن مجرد توافر الموارد الطبيعية والبشرية الرخيصة لا يضمن تحقيق المنافسة الدولية إذ إن الصناعات التي تعتمد على المواد الخام فقط لا تحقق تنمية صناعية مستدامة، لا سيما وأن القاعدة السابقة حول ميزة قاعدة الموارد الطبيعية في الاقتصاد آخذة في الزوال لتحل محلها الميزة التنافسية التي تعتمد بشكل كبير على القدرة والقابلية الذهنية والعقلية للعمالة الماهرة.

    إن التطورات التي شهدها الاقتصاد العالمي قد غيرت من التسلسل الهرمي لأهمية الموارد فجعلت من العمالة الماهرة التي يتوفر لديها مستوى عال من المعرفة والعلم واستيعاب التكنولوجيا أهم مورد، وهو أمر لا يتحقق إلا بتبني نظام تعليمي متطور، وهذه البيئة الجديدة التي تتوفر فيها العمالة المؤهلة والذكية هي الوحيدة القادرة على تحقيق مفهوم الاقتصاد القائم على المعرفة الذهنية أي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تعبر عن نظام واسع وشامل يغطي كافة جوانب الإدارة والتشغيل والإنتاج بحيث يتم فيه استبدال الثقافة الصناعية القائمة على الآلة بثقافة المعلوماتية والتكنولوجيا الحديثة التي تهتم بخلق ونشر وتبادل التقنيات والمعلومات الحديثة عبر وسائل الاتصال السريعة، وبطبيعة الحال يتطلب تطبيق هذه المبادئ اهتماماً مركزاً على تنمية الموارد البشرية سواء من جهة القضاء على البطالة والتهميش لفئات واسعة من المجتمع أو من جهة تطوير التمكين والمشاركة ومبادئ المساءلة وحسن الإدارة، وفي هذا المجال تعطي أدبيات التنمية المستدامة أولوية لقضية تأمين الرأسمال البشري، وتأتي هذه القناعة من التجارب التنموية السابقة الناجحة في الغرب، إذ كانت الجهود تنصب على تنظيم الإنتاج والعلاقات الاجتماعية وفي الابتكار العلمي والتطبيقي من العناصر الرئيسة في تعجيل تصاعد معدلات النمو، أو من تجارب دول شرق آسيا الناجحة في التصنيع وتجهيز القوى البشرية تجهيزا ً شبه كامل في الدورة الإنتاجية .

    ومن جهة أخرى، فإن البنى التحتية للاتصالات اللاسلكية والمعلوماتية تعد عظيمة الأهمية لتمكين المجتمع من التقدم نحو اقتصاد المعرفة، إذ تخفض هذه البنية من الكلف وتوفر اقتصاديات الحجم الكبير وتتجاوز قيود المسافات، ويلاحظ أن أغلب البلدان النامية لا زالت بعيدة عن بلوغ حد الاستفادة من ميزات هذه البنى، وعليها القيام ببعض الإجراءات لتحسين وضعها، والتي من أهمها:

·  تعزيز المنافسة وخلق أجهزة تنظيمية مستقلة.

·  الانفتاح بشكل أكبر على الاستثمار الأجنبي كمصدر لرأس المال والخبرة الفنية في خدمات تقانة المعلومات.

·  توسيع الوصول إلى الإنترنت.

·  تعزيز الاستعمال الأكبر لتقانة المعلومات والاتصالات عن طريق تقديم المساعدة الفنية للشركات الصغيرة والمتوسطة وتحسين كفاءة النظام المصرفي الذي يشمل المصارف الاليكترونية وأنظمة الدفع ونظم تقديـر الائتـمان وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية المبنية على الإنترنت.

·  تأسيس التجارة الاليكترونية بين قطاعات الأعمال وقطاع المستهلكين.

·  إنشاء الخدمات الاليكترونية الحكومية وتحقيق الكفاءة في جمع الضرائب وإدارة الموازنات.

·  نشر وتكثيـف التدريب الجماهيري على تقانة المعلومات والاتصالات.

    كما أن هذه التطورات تفرض على الدولة -التي تهدف إلى مواكبة التطور والابتعاد قدر الإمكان عن التهميش المرافق لهذه التطورات- للالتزام بسياسات معينة ووضعها موضع التنفيذ وبدونها لا يمكن لها أن تأخذ موطئ قدم في المحيط العولمي الكبير، ومن أهم هذه الالتزامات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية والعمل باتفاقياتها والتقيد بالتعهدات التي تلتزم بها والاندماج بشكل أفضل بالاقتصاد العالمي، لاسيما في مجال التفاعل مع أسواق المال العالمية واستخدام الأدوات والتقنيات الحديثة في مجال التجارة والاستثمار وتحسين مهارات اليد العاملة الوطنية ورفع إنتاجيتها فضلاً عن تنويع الصادرات وتحسين مستواها التكنولوجي وزيادة قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية، وقد تبين من تقديم وتحليل المتغيرات العالمية إن التطورات التكنولوجية خاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي حدثت منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي جعلت العالم أكثر ترابطاً من الناحيتين الاقتصادية والتجارية، كما أن هذه التطورات أصبحت تتيح لأي دولة تواكبها فرصا ً واسعة للتغلب على محدودية سوقها المحلي والاستفادة من موقعها الجغرافي وتعزيز ارتباطها مع الاقتصاد العالمي، وقد بدأت أغلب دول العالم باتخاذ سياسات من شأنها أن تدعم قدراتها الاقتصادية كتبني برامج متعددة لتشجيع الانسياب الحر للسلع ورؤوس الأموال والتكنولوجيا العالية ورفع كفاءة اقتصادها المحلي لتمكينه من المنافسة العالمية وتطوير مهارات العمالة الوطنية لزيادة قدرتها على التفاعل مع التقنيات الحديثة ومحاولة الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وتدعيم علاقاتها الاقتصادية مع تجمعات اقتصادية أخرى وبما يتوافق مع مصالحها.

    وبما أن العولمة قد أدت إلى تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، فإنه في المقابل قد أدى إلى تطوير دور الحكومة في مجال إنشاء ودعم الهياكل الأساسية مع تقليل دورها في مجال الإنتاج السلعي والخدمي، وذلك من خلال إعادة النظر في دور الحكومة في المجالات غير التقليدية، أي العمل على تخصيص بعض المشروعات الإنتاجية والخدمية مقابل تعزيز دورها في المجالات التي تقع ضمن مسؤولياتها الأساسية، ويعني ذلك أن يتركز دور الحكومة في توفير وتطوير الخدمات الأساسية مثل الدفاع والأمن والعدل والقضاء والإدارة العامة والتعليم والصحة والبنيات الأساسية والضمان الاجتماعي بالإضافة إلى تعزيز نظام السوق وتنمية القطاع الخاص حتى يمكن توزيع الموارد بشكل كفوء وتدعيم الاستقرار الاقتصادي وتشجيع التوزيع العادل للدخل القومي، ويجب عليها التأكيد على بذل الجهود لتنمية قطاع خاص قادر على الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية بأساليب تتسم بالكفاءة والمحافظة على البيئة وتهيئة الظروف الملائمة لتحقيق إستراتيجية التنويع الاقتصادي والعمل على الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية، مع التأكيد على ملاحظة أن شركات القطاع الخاص في كثير من الدول النامية لا تخضع لمبادئ حسن الإدارة والمساءلة ولا تعمل - في أغلب الأحوال- ضمن إطار واضح من القيم والأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي تسمح بتطبيق مبدأ المساءلة خاصة الأجهزة القضائية وأجهزة المراقبة الإدارية الأخرى المعنية بأعمال القطاع الخاص ليس لديها الخبرة الكافية ولا التمرس في تطبيق القوانين الاقتصادية والمالية.

    ومن ضمن تحديات العولمة، القدرة على توزيع الدخل بشكل عادل لمعالجة مشكلة اتساع فجوة التفاوت في الدخل والثروة وتفاقم حدة الفقر، مع التأكيد على رفع المستوى المعيشي للمواطن المحلي وضمان استفادة كافة المواطنين من ثمار عملية التنمية وذلك من خلال تحقيق تكافؤ الفرص للجميع بهدف تقليل الفوارق في مستويات المعيشة بين المناطق وفئات الدخل المختلفة بالإضافة إلى توفير الضمان الاجتماعي وحماية الفئات المحتاجة من أي آثار سلبية اقتصادية واجتماعية قد تنتج من عملية اندماج السوق المحلي في الاقتصاد العالمي في إطار اتفاقيات منظمة التجارة العالمية.

    أن مواكبة هذه التطورات لا يتطلب فقط إزالة الحواجز التجارية بل يتطلب أيضاً مراجعة وتحسين الاتفاقيات والنظم والقوانين التجارية التي تخدم المصالح الاقتصادية للبلد، بعبارة أخرى استمرار وتواصل السعي لإيجاد نظام تجاري عالمي متعدد الأطراف يستند على قواعد واضحة وشفافة تراعي مصالح الجميع، ويلاحظ في هذا الصدد إن البلدان النامية   - على الرغم من مرور تسع سنوات على تطبيق اتفاقيات منظمة التجارة العالمية- لا زالت بعيدة عن جني الفوائد المتوقعة من ترتيباتها خاصة فيما يتعلق بفتح الأسواق أمام صادراتها وتدفق الاستثمارات ونقل التكنولوجيا. 
تحديــــات العولـمـة وفق منظور الاقتصاد المحلي
مهند حميد مجيد
باحث اقتصادي