من خلال قراءة القواعد القانونية الدستورية التي تضمنها الدستور العراقي الدائم المستفتى عليه من قبل الشعب يوم 15/10 /2005، يتضح لنا إن الشعب العراقي إختارنظام البرلماني الذي بموجبه سيتم توزيع الاختصاصات ما بين السلطات الثلاث، وتحديد المعالم الرئيسة لشكل النظام السياسي في عراق الحاضر والمستقبل .
وهذا النظام يتميز كما بينته التجربة التاريخية والمختصون بمجموعة من المميزات، أهمها التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ثنائية السلطة التنفيذية، المسؤولية الوزارية أمام البرلمان، الانضباطية الحزبية، وحكم الأغلبية البرلمانية (أي حقها في تشكيل الحكومة) بمعزل عن الآخرين الموجودين في البرلمان(الذين سيشكلون المعارضة وحكومة الظل داخل البرلمان) .
من خلال تتبع التحرك السياسي للقوى السياسية الفاعلة في العراق حالياً نجدها تمهد إلى إتباع أسلوب جديد في إدارة البلاد وتشكيل الحكومة خلافاً لما هو متعارف عليه في النظام البرلماني، هذا الأسلوب الجديد يقع تحت عنوان (التوافق الوطني) أو (حكومة الوحدة الوطنية) الذي يراد منه إشراك جميع مكونات الشعب العراقي في السلطة، وهذا الطرح متأتي بسبب مجموعة عوامل أهمها:
1. فسيفساء المجتمع العراقي، حيث نجده متشعب في انتماءاته وولاءاته، فعلى الصعيد القومي نجد القومية العربية والقومية الكردية، وعلى الصعيد الديني نجد المسلمين والمسيح والصابئة... الخ، وعلى الصعيد المذهبي نجد السنة والشيعة بالنسبة للدين الإسلامي، الكاثوليك والأرثذوكس والأرمن بالنسبة للدين المسيحي...الخ من الو لاءات والانتماءات الضيقة، وجميع هذه المكونات تسعى جاهدة للمشاركة في السلطة السياسية من أجل إثبات وجودها في العراق لذلك كان الطرح أعلاه أولاً .
2. مكونات الشعب العراقي أو بعبارة أخرى القوى السياسية التي تمثل هذه المكونات منذ سقوط النظام في 9/نيسان /2003 ولحد الآن تعيش حالة من القلق وانعدام الثقة في ما بينها، السني يخشى من الأكراد والشيعة بأن يمسكوا السلطة ويأخذوا حيف الماضي، والأكراد يخشون من حصول اتفاق عربي شيعي سني ويعملون على تهميشهم من جديد، والشيعة يخشون من تقارب سني كردي مما يؤدي إلى إقصائهم ثانية عن سدة الحكم، هذا الخوف والقلق المتواصل لدى القوى السياسية أدى إلى مثل هذه الطروحات أيضاً .
3. الجميع يعلم أن وفق هذا النظام يجب أن تحكم الأغلبية البرلمانية القادمة عن طريق الانتخابات مع الحفاظ على حقوق الأقليات في التمثيل والمشاركة، لكن الذي شاهدناه هو الجميع يضغط ويطالب بأن يكون له موطئ قدم في السلطة، وعلى هذا الأساس فان ما أفرزته صناديق الانتخابات لا ينظر لها من قبل الجهات الأقل عدداً من الأغلبية على أنها استحقاق انتخابي وإنما ينظر لها على أنها إقصاء عن السلطة وإبعاد عنها .
4. الوضع الأمني غير المستقر، ولد قناعات لدى القوى السياسية من خلال مجموعة من الحقائق والأدلة، إن الوضع الأمني لا يتحسن بشكل سريع ما لم يتم إشراك جميع الأطراف في إدارة العملية السياسية في البلاد.
تأسياً على ما تقدم، يمكن القول إن إدارة البلاد بالتوافق ما بين القوى السياسية الممثلة لمكونات الشعب العراقي المختلفة ستكون بمثابة عرف دستوري لا يمكن تجاوزه خلال الأمد القريب حتى وان زالت الأسباب الموجبة له .
ولكي نحقق الوحدة الوطنية التي يقصد بها (ذلك الشعور المشترك بين أفراد المجتمع الواحد أو الجماعة الواحدة بأنهم متميزون عن غيرهم من المجتمعات الأخرى، إذ يجب أن يتوصل الناس في الدولة الجديدة إلى إقرار كونهم في إقليم هو وطنهم الحقيقي، كما يجب أن يشعروا كأفراد بأن هويتهم الشخصية محددة جزئياً بانتمائهم إلى بلدهم المحدد إقليمياً) فعلياً حتى تأخذ القواعد القانونية الدستورية مجراها الصحيح، ونقضي على حالة الشك والقلق المتبادل ما بين الأطراف المختلفة، فيجب على القوى السياسية في البلد والحكومة القادمة أن تأخذ بعين الاعتبار الآتي :
1. إن بناء دولة حديثة يتطلب أولاً وقبل كل شيء تجاوز اطر الجماعات الأثنية لصالح بناء مؤسسات وطنية شاملة، أي إقامة جهاز سياسي وإداري على مستوى الوحدة السياسية للدولة ككل، وبما يسمح بإشباع الحاجات المتزايدة للسكان، مما يمكن من تعبئة الموارد وزيادة الإنتاج الاقتصادي والعلمي .
2. اعتماد ثقافة سياسية واضحة المعالم مستوعبة جميع الاختلافات، الأمر الذي يوفر للجماعات المختلفة التعايش السلمي معها من خلال الحوار المستمر الإيجابي .
3. خلق التفاعل بين الثقافة الوطنية الجديدة ومختلف الثقافات الفرعية الأمر الذي يولد ثقافة سياسية مزدوجة يطلق عليها (الثقافة المدنية) تقوم على إقرار تداول السلطة سلمياً بين القوى السياسية، واعتماد التعددية السياسية والاحتكام إلى مبدأ الأغلبية، كل هذا يخلق حالة من التكامل بين المجتمع فكرياً وسياسياً واجتماعياً وبالتالي تصبح أداة مهمة لاستقرار واستمرار النظام السياسي من جهة، واستمرارية هذا التفاعل بصورته الايجابية يؤدي إلى استمرار عملية التغيير المجتمعي بطرق سلمية من جهة أخرى .
4. العمل بكل حرص على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون والتلاحم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الأمر الذي يقوي أواصر الوحدة الوطنية .
5. حرية الصحافة والاعلام في العمل، من أجل وقوف المجتمع العراقي على أدق التفاصيل التي تحدث على صعيد الساحة السياسية من جانب، وضمان حرية التعبير عن الرأي للجميع من جانب آخر .
6. العمل وبكل جدية على خلق تنمية متوازنة لجميع أقاليم البلاد وبدون استثناء أو أفضلية لإقليم على آخر .
7. النزاهة في التعامل مع كافة فئات المجتمع وعدم التحيز لأي جماعة على حساب الجماعات الأخرى أو جماعة سياسية على حساب الآخرين من المواطنين داخل حدود الدولة، كما يجب عدم السماح لأي جماعة بأن تكون سلطتها على حساب سلطة الدولة، أي بمعنى أن تكون هناك سلطة واحدة هي سلطة الدولة فقط .
ما تم ذكره آنفاً يعزز من روح المواطنة لدى الإنسان العراقي ويقوي من ارتباطه وانتمائه لهذا البلد، مما يجعله حريصاً متفانياً مخلصاً مجداً في أدائه لعمله وعلى كافة المستويات من جانب، ومتجاوزاً الولاءات الفرعية الضيقة لصالح الولاء للوطن من جانب آخر .